سجون مصر في زمن الكورونا

في مارس الماضي، صنَّفت منظمة الصحة العالمية تفشي فيروس كورونا بوصفه وباءً عالميًا (جائحة)، وذلك بسبب سرعة تفشي العدوى واتساع نطاقها، بالإضافة إلى قصور بعض الدول على مستوى الإرادة السياسية اللازمة للسيطرة على هذا التفشي للفيروس.
وفي ظل هذه الجائحة العالمية، تعد السجون من أخطر الأماكن التي تمثِّل بيئةً خصبة لانتشار المرض وذلك بسبب التجمعات الكبيرة داخل جدرانها، وعدم توفر رعاية طبية جيدة لمكافحة انتشار العدوى، وهو ما تنبهت له عديدٌ من الدول عبر العالم فأفرجت عن أعدادٍ كبيرة من المسجونين لمنع التكدس في السجون، مثل بريطانيا وفرنسا وأمريكا وإثيوبيا وإندونيسيا ونيجيريا.
وعلاوة على ذلك، هناك عددٌ من الدول الإقليمية التي اتخذت قرارات حقيقية إزاء السجون في إطار الإجراءات الرامية لاحتواء فيروس كورونا؛ مثل إيران التي سمحت لنحو 85 ألف سجين، بينهم سجناء سياسيون بمغادرة السجون، وكذلك مملكة الأردن التي قرَّرَت الإفراج عن ثلاثة آلاف و81 سجينًا بقضايا تتعلق بديون مدنية، بالإضافة إلى المغرب التي أعلنت حكومتها عن الإفراج عن 5654 سجين، في إطار الإجراءات الاحترازية ضد تفشي انتشار فيروس كورونا، وغيرها من الدول مثل الجزائر، وتركيا، وفلسطين.
وعلى عكس هذه الدول، لا يزال النظام المصري إلى الآن يرفض بشكل قاطع اتخاذ أي إجراءات حقيقية لحفظ حياة المعتقلين في السجون بالرغم من تحذير المنظمات الحقوقية الدولية والمحلية من خطورة اكتظاظ السجون، التي تصل نسبة التكدس فيها إلى 150%، وتتجاوز 300% في أماكن الاحتجاز الأولية في أقسام الشرطة ومديريات الأمن (تقرير المجلس القومي المصري لحقوق الإنسان – 2016).
وعلى الرغم من عدم وجود رقم دقيق يمثل أعداد المحبوسين في السجون المصرية، تشير تقديراتٌ إلى وجود ما يقرب من 114 ألف سجين داخل مصر مُوزَّعين على 60 سجنًا، من بينهم ما يقرب من 50 ألف سجين سياسي معظمهم قيد الحبس الاحتياطي، منهم من يعاني من أمراض طبية مزمنة، وأمراض الرئة، ومنهم من يعانون من سوء التغذية، والأنيميا، وضعف المناعة، وهم من الفئات المصنفة الأكثر عرضة للإصابة بالفيروس، بالإضافة إلى وجود عدد لا بأس به من كبار السن والأطفال، والسجينات الحوامل، والسجينات العوائل.
ولا يعتبر الاكتظاظ المشكلة الوحيدة التي تعاني منها السجون المصرية، بل تُعرف هذه السجون أيضًا بأنها أماكن غير صحية وغير نظيفة، وغير جيدة التهوية، وضعيفة الإضاءة، وتعاني مستشفيات السجون من نقص الموارد الطبية، والافتقار إلى الكفاءات البشرية، بالإضافة إلى منع إدارة السجون المعتقلين فيها عمدًا من الحصول على الرعاية الطبية والعلاج بشكل منتظم.
ووفقًا للجنة الدولية للصليب الأحمر، فإن نزلاء السجون مُعرَّضون بشكل خاص للأمراض المعدية، مثل فيروس كوفيد-19، ويمكن لظروف الاحتجاز أن تؤدي إلى تفاقم المخاطر. وتشمل هذه المخاطر ارتفاع معدلات انتقال العدوى، وخاصة في السجون المكتظة وعندما تكون الأنظمة الصحية أدنى جودة مِمَّا هي عليه في سائر المجتمع. وسبق لمنظمة العفو الدولية أن وثَّقَت ظروف الاحتجاز غير الإنسانية في عدة سجون، بما في ذلك غياب الرعاية الطبية المناسبة.
ولكن لم تكن هذه البيانات والمناشدات كافية للحكومة المصرية، التي لم يصدر عنها أي بيانات رسمية بخصوص وجود أي إصابات بين المساجين، بالرغم من انتشار أخبار حول إصابة أحد المسجونين فى قسم مدينة نصر بفيروس كورونا، بالإضافة إلى دخول معتقلي سجن طرة تحقيق في إضرابٍ عن الطعام، اعتراضًا على الإجراءات الوقائية داخل السجن، ولكنها على النقيض استغلت تلك الأزمة في فرض مزيد من الإجراءات القمعية على السجون والمعتقلين.
ومن أبرز هذه الإجراءات هي منع الزيارات للسجون، الذي يبدو ظاهريًا أنه قرارٌ احترازي صائب لحماية المساجين من خطر العدوى خارج السجون، ولكنه يتغافل عن وجود أمن السجون من أفرادٍ وضباط يستطيعون الدخول والخروج بحرية، وعند إصابة أحدهم سينتقل الفيروس بالتبعية إلى السجناء، وهو ما قد يؤدي إلى كارثةٍ بين المساجين.
يترتب على هذا القرار أيضًا عدم قدرة المساجين على التواصل مع العالم الخارجي، الذي قد يؤدي إلى حالة من التجهيل المتعمد داخل السجون، بسبب ندرة المعلومات الواردة عن قدرة الفيروس على الانتشار، وطرق الوقاية، وبروتوكول العلاج، كما سُيحرم المساجين من دخول الطعام والأدوية، والمعونات المادية التي يعتمدون عليها بشكل أساسي. وأخيرًا يساعد هذا القرار في انتشار حالة من الخوف بسبب ندرة المعلومات القادمة من الخارج، حيث يعلم المساجين أن هناك أزمةً كبيرة محيطة بذويهم، لكنهم لا يفهمونها بالكامل ولا يعلمون حدودها، رغم أنهم متضرِّرون منها بشكل مباشر.
وطبقًا للشهادات المنشورة في الصحف، كان التعقيم لمكاتب الأمن والمساحات المشتركة لهم مع المساجين، في مقابل إعطاء زجاجة من الكلور لكل عنبر أو ترك مهمة التطهير الذاتي للمحبوسين، فسادت حالة من الفزع أدت ببعض السجناء لرش الكلور على ملابسهم وأماكن نومهم، بالتوازي مع منع دخول المطهرات السائلة في الزيارات، وعليه فإن المصدر الوحيد لأدوات التعقيم هو الكلور أو الكحول الذي يباع في كانتين/كشك السجن بأضعاف ثمنه.
قامت الحكومة المصرية كذلك بتعليق الجلسات في المحاكم، وهو ما أسفر عن اتخاذ قرارات تجديد تلقائية للمحبوسين احتياطيًا دون العرض على الجهات القضائية، وهو ما يمد بعمرهم داخل السجون، ولم تتخذ الحكومة أي إجراءات بديلة تضمن حقوق المسجونين في التقاضي العادل، على عكس عدد من دول العالم التي ابتكرت حل “التقاضي عن بعد” للتغلب على حل هذه الإشكالية مثل فرنسا، والمغرب، وتونس.
يبدو مما سبق عرضه أن النظام المصري لا يريد أن يخضع بسهولة لمطالب الافراج عن المعتقلين داخل السجون، أيًا كانت الأسباب، وحتى إن كانت وباءً عالميًا يهدد حياة ملايين البشر، فالنظام الذي صعد إلى السلطة على ظهر دبابته مُوجِّهًا بنادقه إلى الجماهير، يعرف أن خطوةً بحجم الإفراج عن المعتقلين، ستكسر تماسك النظام وخطابه المعادي للمعارضة السياسية على طول الخط وإلى أقصى حد، كما ستطرح الأسئلة حول من هم هؤلاء المساجين -المفرج عنهم- الذين يصفهم النظام ليلًا ونهارًا بالإرهابيين والمخربين.