نظام يقتل الأطباء والفقراء

وصلت أعداد الوفيات بين الأطباء نتيجة الإصابة بفيروس كورونا إلى 55 حالة وفاة و372 حالة إصابة وفقًا لآخر تصريحات نقابة الأطباء كما سقط 10 من التمريض، هذا غير أعداد أطباء الأسنان والصيادلة والعلاج الطبيعي والفنيين الذين سقطوا ضحايا للفيروس، بالإضافة إلى سقوط 3 من الأطباء و2 من التمريض نتيجة الإجهاد في العمل، كما وصلت أعداد الحالات المصابة وفق الإحصاءات الرسمية إلى 34 ألف حالة إصابة و1237 حالة وفاة حتى 7 يونيو، لتحقق مصر أعلى نسب إصابات ووفيات بين الفريق الطبي نتيجة الكورونا عالميًا، فهل ما يحدث قضاء وقدر؟ أم أن هناك عوامل أخرى؟
بكل وضوح، النظام المصري هو المسئول عن قتل الأطباء وأعضاء الفريق الطبي داخل المستشفيات، وقتل المواطنين الفقراء داخل المستشفيات وخارجها، ليس فقط بعدم توفير أدوات الوقاية من العدوى، ولكن أيضا بعدم تفعيل إجراءات التباعد المجتمعي، وعدم التوسع في المسحات بما يسمح بعمل حصر واقعي للإصابات وتعطيل انتشار المرض، غياب هذه الإجراءات، خلق ضغطًا رهيبًا على أماكن تقديم الخدمة الطبية، وأعداد مهولة من المصابين الذين يدخلون إلى المنشآت الصحية دون علم بمرضهم ينقلون العدوى إلى الفريق الطبي. وفي المقال التالي سوف أقوم بتفصيل كل هذا.
أدوات مكافحة العدوى
مع بداية الأزمة تعالت إستغاثات الأطباء للمطالبة بتوفير وسائل الوقاية من العدوى، وانتقاد ما تقوم به الدولة من استعراض بتبرعاتها للصين وإيطاليا وغيرهما من الدول، بينما يعاني الأطباء والسوق المحلى من عجز شديد في هذه المستلزمات، كما ارتفعت الشكاوى على السوشيال ميديا تعلن عن النقص الشديد في هذه المستلزمات بالمستشفيات، وأعلنت النقابة عن خط ساخن لتلقي الشكاوي بهذا الشأن
وفي المقابل وجد الأطباء تضاربًا في تصريحات وقرارات وزارة الصحة، فبينما يعلن مدير المراكز المتخصصة بالوزارة عن توفر المستلزمات الوقائية وضرورة الإلتزام بها من قبل الأطباء والفريق الطبي، بل وتحميل الفريق الطبي المسئولية في حال عدم ارتدائها، نجد فعليا آلاف المخالفات بالمستشفيات والمديريات، فمثلًا: أعلنت مديرية الصحة بسوهاج في 13 أبريل “التنبيه على الاستخدام الرشيد لأدوات الوقاية من العدوى نظرًا لنقصها الشديد، والتنبيه على أن ارتدائها مقصور على مسئول الفرز وطبيب وتمريض الاستقبال فقط” وهو ما حدث في العديد من المحافظات الأخرى بشكل خفي أو معلن مثل بورسعيد والدقهلية.
كما اكتشف الأطباء أنه عند رفضهم العمل دون أدوات الوقاية، يتم التعسف معهم، كما حدث مع طبيب الشرقية الذي تم التحقيق معه ونقله تعسفيًا. بل وصل الأمر إلى اتهام كل طبيب ينتقد بروتوكول وزارة الصحة، أو يشكو من نقص المستلزمات الطبية والوقائية، بالإنتماء للإخوان أو بمحاولة “إسقاط الدولة المصرية”.
بروتوكول الوزارة والطبيب
كما أنه حتى عند الإصابة أو مخالطة المصابين بالعدوى، وجد الأطباء تعسفًا كبيرًا في عمل المسحات التشخيصية للكشف المبكر عن الإصابة بالفيروس من الوزارة، رغم أن الأطباء والفريق الطبي هم الأكثر عرضة للإصابة بسبب طبيعة عملهم، وهو ما تسبب في الكشف المتأخر عن العديد من حالات الإصابة للفريق الطبي، وهو السبب الأكبر في وفاتهم، ليس هذا فقط تحويل الأطباء وفريق العزل والمستشفيات إلى بؤر مركزة لنقل العدوى.
فمثلا بناء على تعليمات وزارة الصحة، أعلنت مديرية صحة كفر الشيخ في منشور لها، أنه بداية من 1 أبريل لن يتم عمل مسحات لأعضاء الفريق الطبي المخالطين لمرضى مصابين بالكورونا، وأن الأطباء يتحملون على مسئوليتهم الشخصية العمل بكامل أرديتهم الوقائية، وإن أي خطأ يسأل عنه الطبيب، والوزارة غير مسئولة وغير ملزمة بعمل مسحات ال PCR، وفي معهد الأورام وعند اكتشاف إصابات بين الفريق الطبي، تطلب الأمر تدخل رئيس الجمهورية لعمل المسحات الطبية للأطباء والفريق الطبي المخالط، وفي معهد القلب أجبر الأطباء المخالطين على العمل بعد تهديدهم بالمخابرات العامة، وفي مستشفي أسوان تم رفض عمل مسحات لأعضاء الفريق الطبي المخالطين، وسواء ظهرت عليهم الأعراض أو لم تظهر!!
حتى الأطباء العاملين بمستشفيات العزل مع حالات كورونا إيجابية مؤكدة، صدرت تعليمات من رئيس قطاع الرعاية العاجلة بعدم عمل مسحات لهم، والاكتفاء ب rapid test والذي تصل نسبة صوابه إلى 30% فقط، مع عدم تحديد أي فترة زمنية لعزل الأطباء أنفسهم بعد تركهم العمل بالمستشفى، وضرورة العودة للعمل السابق مباشرة، وأن المصاب من الأطباء بالكورونا يتم عزله منزليًا ل14 يوم، وبعد عودته يتم تحويله للتحقيق ويقتطع من راتبه مقابل أيام انقطاعه عن العمل، كما صدر منشور من المدير العام لإدارة مكافحة العدوى بتاريخ 12 مايو يفيد بأنه في حال ظهور حالات إيجابية بين أفراد الفريق الطبي، لا يتم أخذ مسحات للمخالطين وغير مصرح بعزلهم منزليًا، وعليهم الاستمرار على رأس العمل، بل والاعلان في نفس المنشور أن سبب انتشار الإصابات بين أعضاء الفريق الطبي هو “المخالطة الاجتماعية بين الطاقم الطبي”، وليس الإصابة أثناء تأديتهم لعملهم. بالمخالفة لتقارير منظمة الصحة العالمية التي أكدت على أن 90% من حالات الإصابة للفريق الطبي تكون داخل المنشأة الصحية وأكدت أيضا على ضرورة توفير أدوات الوقاية لهم.
وحكاية دكتور وليد يحى طبيب مستشفى المنيرة البالغ من العمر 32 عام، كاشفة بشدة لجرائم وزارة الصحة في حق الفريق الطبي. يروي زملائه كيف أنه توفي بسبب الإهمال، نتيجة لهذا البروتوكول، إذ تأخر عمل مسحة له رغم ظهور أعراض الإصابة بفيروس كورونا، كما رفضت المستشفى والوزارة توفير مكان عزل له، أو حتى السماح بعزل نفسه منزليًا، وأجبرته على الاستمرار في العمل، ثم وبعد تأخر حالته قررت الوزارة التصرف، ولكن بعد فوات الأوان، وعلى إثر هذه الجريمة قدم العديد من الأطباء استقالاتهم المسببة بأن الوزارة تتعنت في توفير المستلزمات الوقائية للأطقم الطبية، ما أدى إلى زيادة انتشار العدوى بينهم، وتكليف الكثير من الأطباء في غير تخصصهم، وبدون تدريب أو بروتوكول واضح للتعامل مع حالات فيروس كورونا، كما أنها تماطل في عمل المسحات لهم، ولا توفر أماكن للعزل أو الرعاية المركزة للمصابين منهم، كما أن الإدارة تهدد من يعترض بالإجراءات التعسفية، وعلى إثر هذا، رُتب لقاء سريع لنقيب الأطباء مع رئيس الوزراء، ثم لقاءٌ آخر مع وزيرة الصحة، في محاولة لاحتواء هذا الغضب.
بروتوكول الوزارة والمواطن
ليس الهدف من وضع بروتوكول الوقاية من كورونا عالميا علاج المصابين بالفيروس، فليس لكورونا علاج حتى الآن، إن الهدف من وضع البروتوكول والإجراءات الاحترازية والتباعد الاجتماعي في الواقع هو تعطيل انتشار المرض، وذلك لتخفيف الضغط على النظام الصحي وتأخير انهياره، وبالتالي تعزيز قدرة المجتمع على الصمود في وجه الجائحة، وتقليل عدد الوفيات الذي سينتج عن انهيار المنظومة قدر الإمكان، حتى اكتشاف العلاج.
في مصر، لم يقتصر تأثير فساد وانحطاط بروتوكول الوزارة على الفريق الطبي، بل إنه كان أكثر فسادًا وانحطاطًا في حق المواطن الفقير، فمنذ البداية نجد استهانة من الدولة بإجراءات التباعد الاجتماعي وتقليل من خطورة الفيروس وعدم فهم للهدف من البروتوكول الوقائي، سواء عبر تصريحات غير مسئولة على لسان أعضاء بالحكومة، مثل تصريح وزيرة الصحة في فبراير أن “الفيروس غالبا سيصل لمصر ولكنه فيروس غير خطير”، وتغريدتها على تويتر في 5 فبراير”أن الخوف على البلاد ليس من فيروس كورونا ولكن من الفيروس الذي يصيب الأخلاق والقيم” وهو تقريبا نفس تصريح وزير التعليم “أن فيروس السوشيال ميديا أخطر من فيروس الكورونا”، وتصريحها أيضا تعليقا على ما يحدث في إيطاليا “أن أوروبا قارة عجوز ومعظم المصريين دون سن ال30 فلا داعي للقلق”، وتصريح آخر لها في 13 مارس ” لا داعي لوقف الرحلات من ايطاليا”، وتصريح رابع لها في 10 مارس “لا داعي لغلق المدارس والجامعات”، وتصريح خامس لها “بأن قوة مناعة المصريين مديانا براح لعلاج مصابي كورونا”.
وحتى إجراءات الحكومة التي كان بها الكثير من الاستخفاف والاستهانة بالمرض، تأخرت الحكومة في إغلاق المطارات، وفي الإعلان عن الإجراءات الاحترازية وتعليق الدراسة حتى 14 مارس، كما سمحت باستمرار الطيران من وإلى ايطاليا في وقت كان معلوم تفشي الوباء بها، كما سمحت باستقبال فوج سياحي صيني في 5 مارس الماضي رغم انتشار الفيروس بالصين.
وحتى الإجراءات الاحترازية التي قامت بها الدولة، خضعت لابتزاز رجال الأعمال، إذ قررت الحكومة السماح منذ البداية بحركة العاملين بالقطاع الخاص أثناء الحظر، ليس هذا فقط، بل وأعلنت عن عودة العمل بالمشاريع القومية والمدن الجديدة والطرق والكباري بكامل طاقتهم خلال فترة الحظر، تعويضًا لما فات، وجاء هذا على لسان رئيس الوزراء، بالتزامن مع إعلان السيسي في 7 أبريل الماضي أن المشاريع القومية يجب أن تكتمل، وأن حجم الضرر من توقف الاقتصاد أكبر بكثير من استمرار عمله.
بالإضافة إلى عيوب بروتوكول وزارة الصحة الخاص بالمسحات التشخيصية، الذي سمح بتسرب الحالات المصابة والمشتبهة إلى المجتمع (لم تقم الوزارة حتى 9 مايو سوى ب120 ألف اختبار وفق تصريحات محمد عوض تاج الدين مستشار الرئيس للصحة). كما أنه سبق وتكلمنا عن إعلان مديرية صحة كفر الشيخ في منشور لها، أنه بداية من 1 أبريل لن يتم عمل مسحات لأعضاء الفريق الطبي المخالطين لمرضى مصابين بالكورونا، التزاما منها بقرارات وزارة الصحة، فلو كان هذا يحدث مع الفريق الطبي المخالط فتخيل ما يحدث للمصابين من المرضى العاديين ومخالطيهم! ورغم كل هذا ظل انتشار الفيروس بطيئا طوال فبراير ومارس وأبريل وفقًا للأرقام الرسمية.
ولكن في 9 مايو الماضي، قامت وزارة الصحة بعمل تعديلات كبيرة على البروتوكول، قلصت فيه من عدد مسحات ال PCR للمرضى المشتبهين والمخالطين، واستبدالها بصورة دم وأشعة على الصدر، واشتراط عمل المسحة بموافقة وتوقيع 2 من الأخصائيين، هذا للغرابة في نفس الوقت الذي دعت فيه منظمة الصحة العالمية مصر للتوسع في عمل المسحات بهدف عمل حصر مجتمعي وخريطة لانتشار الفيروس، كما قررت الوزارة في 19 مايو تخفيض مدة العزل إلى 7 أيام بدلًا من 14 يومًا، مما سمح بخروج الحالات المصابة ونشر المرض، هذا بالتوازي مع قرارات كارثية من الحكومة بتقليل عدد ساعات الحظر في رمضان (الحظر كان جزئيا منذ البداية وكان من المفترض زيادة عدد الساعات مع زيادة الأعداد وليس تخفيضها)، وأخيرا الإعلان عن نية الحكومة الفتح الكامل للبلاد في منتصف يونيو، بالتزامن مع القفزة الكبيرة في أعداد الإصابات، وكل هذا وفقًا للأعداد الرسمية (المشكوك في صحتها مع التلاعب الكبير في عدد المسحات منذ البداية، وعدد المصابين والوفيات الضخمة على السوشيال ميديا نتيجة الإصابة بالفيروس والذين لم يتم قبولهم بمستشفيات العزل).
وأخيرا التسريبات الصوتية (فويس نوتس)، لوكيل وزارة الصحة بالبحيرة، والتي تؤكد عن نية الوزارة الاستمرار في التلاعب بأعداد الإصابات الرسمية، عبر التلاعب بأعداد المسحات التشخيصية PCR، فلن يتم عملها سوى للحالات الحرجة فقط، ولا يتم نقلهم لمستشفى عزل أكبر إلا بعد موافقة وكيل الوزارة، وهو ما يعني التعامي عن باقي الحالات المصابة، والاستسلام للانتشار المجتمعي للمرض، لتنفيذ ما يطلق عليه “مناعة القطيع”، في الوقت الذي ترفض فيه المستشفيات العسكرية استقبال حالات كورونا لغير العسكريين وعائلاتهم إلا بالواسطة، وترفض الدولة تحمل تكاليف أسرّة علاج كورونا بالمستشفيات الخاصة، وترفض المستشفيات الخاصة تسعيرة وزارة الصحة التي وضعتها الحكومة ليدفعها المواطن من جيبه الخاص.
أن خطورة كل ما سبق هو أن الثغرات في البروتوكول أدت إلى انتشار المرض، مما خلق ضغطًا كبيرًا على المستشفيات الحكومية، وبالتالي خلق ضغطًا كبيرًا على الفريق الطبي، وعجل بانهيار منظومة الخدمة الصحية في مصر، كما يحدث اليوم من غلق المستشفيات نتيجة إصابة الكادر الطبي بالكامل بها، ووفاة أعداد كبيرة منهم. وهذا سيؤدي الى تزايد رهيب في أعداد الوفيات من المواطنين خارج المستشفيات لعدم توفر أماكن نتيجة امتلاء المستشفيات بالحالات أو إغلاقها نتيجة إصابة الكادر الطبي ونفاذ المستلزمات، ومن هم أكثر عرضة للموت بالطبع هم الفقراء الذين لا يمتلكون المال الكافي للعلاج بمستشفى خاص، أو الواسطة التي تمكنهم من العلاج بمستشفى عسكري.
كما أن تخصيص وزارة الصحة لمعظم مستشفيات الصحة للكورونا (وفقا لقرار وزيرة الصحة الأخير) سوف يمنع هذه المستشفيات من إستقبال حالات غير الكورونا، وبالتالي سترتفع أعداد المرضى الآخرين ممن لا يجدون مكانًا للعلاج، وبالتالي إما أن يمتلكوا المال الكافي للعلاج بالمستشفيات الخاصة، أو أن يستسلموا للموت بسبب اجتماع المرض والفقر.
إن ما يحدث اليوم، هو جريمة مكتملة الأركان في حق الطبيب والمريض المصري، يدفع فيها الأطباء والفريق الطبي والمواطن الفقير عمومًا ثمن تبني النظام سياسة “مناعة القطيع”، يدفعون ثمن سماح النظام بانتشار المرض دون خطة أو مقاومة، يدفعون ثمن حماية أرباح رجال الأعمال والهوس بإنهاء العاصمة الصيفية والشتوية للرئيس، إن ما يحدث من الحكومة اليوم هو عملية انتخاب اصطناعى تتم من قبل الدولة المصرية، عنصرية من يملك المال والسلطة في هذا البلد ضد الفقراء ومن يعالجونهم.