ما بين سارة وزينب توجد سجون النظام المصري

في 15 يونيو من العام الحالي 2020 رحلت عن عالمنا المناضلة الاشتراكية سارة حجازي بعد نضال مفعم بالنشاط والحيوية فيما يتعلق بقضايا النسوية والطبقية والنوع الاجتماعي، وكانت آخر كلماتها عبارة عن رسالة بخط اليد كتبت فيها: “إلى أخوتي، حاولت النجاة وفشلت، سامحوني.. إلى أصدقائي، التجربة قاسية وأنا أضعف من أن أقاومها، سامحوني.. إلى العالم، كنت قاسيا إلى حد عظيم ولكني أسامح”.
خلال الثلاث سنوات الأخيرة؛ مرت “سارة” بأحداث سريعة ومتلاحقة بعد تلويحها بعلم “الرينبو” في حفل غنائي لفرقة “مشروع ليلى” في سبتمبر 2017، وقيام السلطات المصرية باعتقالها، وأمرت نيابة أمن الدولة العليا بحبسها على خلفية اتهامات تتعلق بالانتماء إلى جماعة محظورة تهدف إلى تعطيل أحكام الدستور، وتم الإفراج عنها بكفالة في يناير 2018، ثم سافرت إلى كندا وتوفت في المنفى بعيدًا عن أهلها وأصدقائها.
خلال اعتقالها، وقعت سارة في أيادي الأمن المصري سيئ السمعة الذي لم يتوان في تعذيبها بشتى الطرق: “تم تعذيبي بالكهرباء! وتم تهديدي بإيذاء أمي إن أخبرت أحدًا، أمي التي ماتت بعد رحيلي. لم يكتف النظام بتعذيبي، بل حرّض رجال قسم السيدة زينب نساء التخشيبة على التحرش الجنسي واللفظي بي، لم يقف التعذيب هنا فقط، بل كان هناك المزيد من التعذيب النفسي ضدي، بسجن القناطر والزنزانة الانفرادية لأيام وأيام، قبل الانتقال إلى عنبر مُنعت فيه من الحديث مع السيدتين المسجونتين معي، مُنعت من التريض في نور الشمس طيلة مدة حبسي، إلى أن فقدت القدرة على التواصل بالعين مع الآخرين”.
كشف موت الناشطة سارة حجازي الغطاء عن جرائم التنمر والوصم الاجتماعي، وعن أفكار المجتمع كأداة قاتلة حتى ولو كانت بشكل غير مباشر، وعن جريمة الدولة في محاباة هذه الأفكار والتسامح معها، بل وغرسها في المجتمع بهدف خلق مجتمع نمطي موحد للبشر تسيطر فيه على الأجساد والميول الجنسية والحريات الخاصة، وفي سبيل تحقيق هذا الهدف لا تدخر الدولة أي جهد بداية من التغاضي عن وجود هذه الأفكار نهاية بالقمع والاعتقالات والتعذيب.
أعادت حادثة “سارة” إلى الأذهان قصة المناضلة زينب المهدي التي انتحرت في العام 2014 بعد تعرضها للتنمر والوصم الاجتماعي بعد خلعها الحجاب، واختتمت حياتها برسالة إلى أحد أصدقائها مفادها: “تعبت استهلكت مفيش فايدة، كلهم ولاد كلب واحنا بنفحت فى مياه، مفيش قانون خالص هيجيب حق حد بس احنا بنعمل اللى علينا، أهه كلمة حق نقدر بيها نبص لوشوشنا فى المراية، من غير ما نتف عليها، مفيش عدل وأنا مدركة ده، ومفيش أي نصر جاي، بس بنضحك على نفسنا عشان نعرف نعيش”.
ولقد عُرِفَ عن زينب أنها من النشطاء الذين عملوا في ملف الفتيات اللاتي تعرضن للاختفاء القسري والتعذيب بعد الفض الدموي لاعتصامي رابعة والنهضة عام 2013، وتابعوا تفاصيل هذا الملف الصادم الذي تعرضت فيه الفتيات المخطوفات إلى الاعتداء الجنسي والتعذيب القاسي، وهو ما أصابها بحالة من التوتر، وقد تسرب إليها شعور من اليأس والإحباط.
في ظل هذه الظروف المركبة والمتشابكة؛ يجب الانتباه إلى أحد أدوات الدولة التي تصنف من الأدوات الأكثر قمعاً وهي السجون وما يحدث بها من تعذيب وتأثيرها على المناضلين والمناضلات بهدف “كسر شوكتهم”، وانعكاس السجن على المسجونين وأصدقائهم وأسرهم بدرجات متفاوتة.
فمن جانب تدل جميع البيانات على أن بيئة السجن وما يحدث بها من انتهاكات، تؤدي إلى تغيير في شخصية “السجناء” على نحو يصعب من اندماجهم في المجتمع مرة أخرى، وقد يصاب أغلبهم بأشكال عدة من الاضطرابات النفسية، التي تختلف حدّتها من شخص لآخر مثل الاكتئاب والانطواء والعزلة وكثير من الأمراض النفسية التي تحتاج إلى علاج نفسي مكثف بعد خروجهم.
إن التركيز في هذه التفاصيل الدقيقة، تذكرنا بالمجتمع الرأسمالي الذي نعيش فيه وأخلاق الطبقة الحاكمة التي تحمل كثيرًا من أنواع الاضطهاد المركبة والمتشابكة، والتي يعاني منها البشر بشكل متفاوت في أحيان وبشكل مضاعف أحيانًا أخرى.
تأتي علينا هذه الأحداث لتذكرنا بموقعنا الطبقي والخندق الذي ننتمي إليه، وهو الخندق الذي سندافع فيه -إلى آخر نفس- عن الحريات العامة والحريات الخاصة والحرية والديمقراطية الحقيقية، من أجل خلق مجتمع يتقبل التنوع ويتقبل اختلاف الأفكار واختلاف الميول الجنسية، ويضمن حياة كريمة للبشر بعيدًا عن التعذيب والاضطهاد.