بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

ساحة سياسية

الاغتصاب والتحرش بين التكتُّم والتبرير والفضح

فضح المجرمين هو الخطوة الأولى

مكافحة التحرش

فجَّرَت قضية المغتصب أحمد بسام زكي موجةً من شهادات الناجيات من جرائم الاغتصاب والتحرُّش، اللذين هما بشكلٍ عام أوسع نطاقًا وأكثر تكرارًا بكثير مِمَّا قد يوحي به العدد الكبير من الشهادات في الآونة الأخيرة. وتتعدَّد أسباب التكتُّم على شهادات وقائع الاغتصاب والتحرُّش، من الصدمات النفسية المُربِكة التي قد تمنع المجني عليهن من فضح الجناة، إلى الضغوط المجتمعية، إلى الخضوع للابتزاز من جانب الجناة في كثيرٍ من الحالات، وغير ذلك من الأسباب. وتزداد الأمور سوءًا في الطبقات الدنيا والفقيرة، حيث المزيد من القهر والاستضعاف والاضطهاد الذي يكبت محاولات الفضح والمواجهة.

موجة الشهادات الحالية ليست إلا قمة جبل الجليد. وفقًا لدراسةٍ أعدَّتها منظمة الأمم المتحدة للمرأة في العام 2013، فإن 99.4% من السيدات المصريات تعرَّضن للتحرُّش، بينما تفيد دراسةٌ أخرى من المركز المصري لحقوق المرأة بأن 72% من النساء اللاتي تعرَّضن للتحرُّش يرتدين الحجاب أو النقاب (وهي نسبة تساوي تقريبًا نسبة النساء اللاتي يرتدين الحجاب أو النقاب في المجتمع المصري)، مِمَّا يدحض بوضوح التبريرات الخسيسة التي تلقي اللوم على ملبس النساء.

في كلِّ موجةٍ من الشهادات والفضح، تندلع موجةٌ مضادة من تبريرات التحرُّش والتماس الأعذار للمتحرِّشين. هذه التبريرات والأعذار ليست إلا دفاعٌ عن الامتيازات الذكورية والتسلُّط على النساء في المجتمع. وتسود أيضًا حالةٌ دفاعية من الوقوف في منتصف الطريق، بحيادٍ مُخادِع يلقي المسئولية على الجاني والمجني عليها، كما يحلو للكثير من الدعاة الإسلاميين وأتباعهم. هذا الحياد إنما هو تواطؤ صريح يسعى بائسًا للعثور على ذريعةٍ يقدِّمها للجاني على طبقٍ من ذهب، ويخفِّف هذه الجريمة من على الجاني ويخفِّضها إلى مستوى “الخطأ” وليس الجريمة. هذا التواطؤ أيضًا هو تشجيعٌ لكلِّ متحرِّش على الاستمرار في هذه الجريمة؛ طالما أن الذريعة أوجدها له أولئك المذعورون على فقدان وصايتهم الذكورية على أجساد النساء، باسم الدين وباسم الأخلاق، وطالما أنها مجرد خطأ وليست “جريمة”. السؤال الاستنكاري البديهي هنا هو “مَن مِنَّا لا يرتكب أخطاء!”. هذا التواطؤ المُنحَط هو دعوة للتسامح مع التحرُّش والتطبيع معه، وبالتالي لابد من محاصرته بعنف وبكلِّ الطرق الممكنة.

لم تكن هذه التبريرات والأعذار لتصبح بهذه الهستيرية الحالية لولا ارتفاع صوت النساء بشهاداتهن على جرائم التحرُّش والاغتصاب. ومن الطبيعي أن تتصاعد شراسة القطاعات المحافظة حين تشعر هذه القطاعات أن أفكارها وقناعاتها، التي ظنوا أنها في تمام الاستقرار، بدأت في التصدُّع، وبدأت موجةٌ جديدة في تجاوزها، وأن هناك قطاعًا آخر من النساء بدأ في التحدي وكشف المسكوت عنه. هناك مساحةٌ كبرى انتُزِعَت على مدار الأعوام السابقة في فضح التحرُّش والاغتصاب ومواجهتهما، ولابد من توسيع هذه المساحة بكلِّ طريقةٍ ممكنة.

إن تفسيراتٍ مثل أزمة التربية أو سوء السلوك أو كون التحرُّش “مرضًا” لدى بعض الأفراد، قاصرةٌ تمامًا في تناول قضية التعدي على النساء، سواء في الشارع أو مواقع العمل والأماكن العامة والخاصة، علاوة على العنف الأسري ضدهن. وفي الحقيقة يُعَدُّ تصوير هذه القضية بهذه الصورة تسخيفًا منها وكأنها أخطاء فردية أو مشكلات نفسية، وليست جريمة اجتماعية واسعة النطاق بهذه النسب المُروِّعة المذكورة أعلاه. تأخُّر سن الزواج أو أزمة السكن أيضًا لا يفسِّران على الإطلاق تفشي هذه الجريمة، إذ يتجاهل هذا السبب جحافل الصبية في بداية سن المراهقة الذين يتمادون في التحرُّش، لا سيَّما في الأعياد مثلًا، ويتجاهل كذلك التحرُّش الشائع للغاية الذي يمارسه الرجال المُتزوِّجون مثلًا.

التحرُّش الجنسي هو جريمة عنف في المقام الأول، في ظلِّ ضمان المُتحرِّش احتماليةً كبرى لصمت الضحية، والعزوف عن دعمها، وإفلاته هو من العقاب. إنه إيذاءٌ جسدي ونفسي مُتعمَّد للنساء ينبع من اضطهاد المرأة وتحقيرها ومن الصورة الرجعية التي تُصوَّر بها المرأة في الإعلام والتعليم والتراث والثقافة السائدة، تلك الصورة التي تتماشى تمامًا مع المصالح القائمة في المجتمع. يظن كثيرون أن القضية تكمن في “الأخلاق”، لكن الأخلاق نفسها هي انعكاسٌ للأفكار السائدة، والأفكار السائدة هي أفكار الطبقة الحاكمة التي تغرس فينا منذ الصغر أن الرجل أفضل من المرأة، وأقدر منها، وأن المرأة خُلِقَت لتلبية احتياجاته بالأساس، أو في أفضل الأحوال فقط لمساعدته.

هذه هي أيديولوجية الطبقات الرأسمالية الحاكمة التي تخدمها هي نفسها؛ حيث تتحمِّل النساء الأعباء المنزلية وتربية الأطفال، وتخضع للاستغلال والتمييز المُمَنهَج في سوق العمل (إن كانت تعمل)، وتلبي بانصياع كافة مُتطلَّبات الرجل. تصوِّر الأيديولوجيا الرأسمالية النساء باعتبارهن سلعًا لتلبية الاحتياجات العاطفية والجنسية والقيام بالأعمال المنزلية الضرورية، والسلع بطبيعة الحال تُمتَلَك ويكون لمالكها استحقاقٌ في التحكُّم فيها. لعلَّ هذا هو المنبع الفاسد للأمثلة المُنحَطة التي تشبِّه المرأة بالحلوى تارة وبالسيارة تارة أخرى، وإلخ، وكذلك الهوس بتصرُّفات النساء وملبسهن. هذا هو الأساس في التحقير من شأن المرأة في المجتمع الرأسمالي؛ أنه يراهنَّ تابعات للرجل، ومن هذا التحقير تنبع كافة مظاهر اضطهاد النساء.

إذا كان هذا هو حال الرأسمالية، فالوضع في مصر بالأخص هو من ضمن الأسوأ في العالم. شاهدنا على مدار الأعوام الماضية كيف تمكَّن السيسي من تعبئة قطاعات واسعة من الطبقة الوسطى حول الدفاع عن العائلة والأخلاق والأمن، والتحريض ضد ذلك النموذج الآخر من المرأة الذي ظهر مع الثورة، حيث المرأة باعتبارها طالبة وعاملة ومناضلة، لصالح نموذج رجعي للمرأة كأم وبنت وزوجة دورها ينحصر في حماية الأسرة وبالتالي “الوطن” من الانهيار. وبالطبع يتماشى التيار الإسلامي تمامًا مع هذا النوع من الدعاية، فهو يشارك الدولة في رجعيتها وعدائيتها للمرأة، فيعيد إنتاج هذه الدعاية بصورٍ دينية وأخلاقية مُتنوِّعة.

الأسوأ بالتأكيد أن دولة السيسي تمارس العنف الجنسي هي أيضًا بنفسها ضد المرأة. فعلاوة على التقاعس في إنفاذ القوانين ضد الاعتداءات الجنسية (والشهادات لا حصر لها في ما يتعلَّق بعزوف رجال الشرطة عن تحرير محاضر تحرُّش في الأقسام)، لا يمكن أن نتغافل عن التحرُّشات في أماكن الاحتجاز، أو حادثة اغتصاب طالبة بجامعة الأزهر داخل مدرعة في العام 2014، أو كشوف العذرية التي أشرف عليها السيسي بنفسه وبرَّرها في مارس 2011، أو جحافل البلطجية الذين كانت الداخلية ترسلهم للتحرُّش بالمتظاهرات في ميدان التحرير. إن دولة السيسي نفسها لا تتورَّع عن استخدام الانتهاكات الجنسية ضد النساء.

لابد من تغليظ القوانين ضد الاعتداءات الجنسية على النساء، لكن هذا وحده لا يكفي على الإطلاق، فهناك بالفعل قوانين ضد الانتهاكات الجنسية، لكنها لا تُفعَّل في أغلب الحالات، وستظل هكذا أشبه بالحبر على الورق إن لم تقف وراءها قوةٌ اجتماعية من النساء لإنفاذها فعليًا. إضافةً إلى أن جريمة التحرُّش ليست مثل باقي الجرائم التي لا جدال عليها، مثل السرقة أو القتل، بل أنها تحظى بظهيرٍ من الهيمنة الذكورية والتكتُّم المجتمعي وإلقاء اللائمة على المجني عليهن.

لابد من تشجيع النساء على تحدي ومقاومة وفضح كافة أشكال التحرُّش، لكن بالإضافة إلى ذلك أيضًا العمل على بناء حركات جماعية لمناهضة أشكال اضطهاد المرأة، وعلى رأسها التحرُّش، وأولى خطوات ذلك هو النقاش المفتوح بين الحركات النسوية والمهتمين بالدفاع عن حقوق النساء لبحث سبل توحيد الصفوف في المعركة الحالية والمعارك المقبلة.