افتتاحية العدد 25:
«أوراق اشتراكية».. عودة جديدة

صدر العدد الأول من مجلة أوراق اشتراكية في يناير 2003، أي منذ 18 عامًا. وقد تغير العالم كثيرًا منذ تلك اللحظة. كانت تلك الفترة حافلة بالأزمات والتحولات الكبرى؛ من اندلاع الانتفاضة الفلسطينية في عام 2000، إلى هجمات 11 سبتمبر في 2001 وما تلاها من غزو أفغانستان، إلى الحرب على العراق وغزوها في مارس 2003 (أي شهرين بعد صدور العدد الأول)، ومن اندلاع حركة مناهضة العولمة إلى أكبر مظاهرات مناهضة للحرب في التاريخ الحديث. وفي مصر أيضًا، شهدت تلك الفترة تغيرات مهمة مثل الصعود السياسي السريع لجمال مبارك، وتكثيف سياسات الليبرالية الجديدة من خلال لجنة السياسات في الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم وأيضًا من خلال ما سمي بحكومة رجال الأعمال. وعلى الجانب الآخر، كانت هناك عودة السياسة إلى الشارع المصري سواء في شكل حركات التضامن مع الانتفاضة الفلسطينية أو المناهضة لغزو العراق، أو في بدايات حركة ديمقراطية مناهضة لمشروع التوريث والمطالبة بالانتخابات الحرة، واندلاع الحركة العمالية في شكل موجات متتالية من الإضرابات.
كانت إذًا فترةً صاخبة على المستوى السياسي والاجتماعي سواء عالميًا أو محليًا. وكان هناك احتياجٌ شديد لتحليل كل تلك التحولات والتغييرات ووضعها في سياقها التاريخي من منظور اشتراكي وبلورة إستراتيجيات ملائمة للتفاعل مع ذلك الواقع المتغير.
لم يكن ذلك هو الهدف الوحيد لإصدار المجلة في ذلك الحين، كان هناك أيضًا احتياجٌ شديد لمنصة فكرية للنقد الماركسي في كافة المجالات، من الفلسفة والتاريخ إلى الآداب والفنون. وقد هيمن على الساحة الفكرية في تلك الفترة التيار الإسلامي من جانب والأفكار الليبرالية البرجوازية من الجانب الآخر. كانت منابر الفكر الاشتراكي، مثل مجلة “قضايا فكرية” ذات الطابع النظري ومجلة “اليسار” ذات الطابع الصحفي، قد توقفتا عن الإصدار منذ بدايات التسعينيات. وكان انهيار الاتحاد السوفيتيي والكتلة الشرقية لا يزالا يحدثان حالةً من التراجع الشديد في مكانة وتأثير الفكر الاشتراكي في المنطقة العربية بشكل عام.
دفعنا كل ذلك إلى تدشين مشروع “أوراق اشتراكية” لتساهم في ملء ذلك الفراغ بإعادة طرح الفكر الاشتراكي في شكل أكثر جذرية وأكثر تفاعلًا مع الواقع الجديد. وقد واجهتنا في فترة الإصدار الأولى قبل ثورة يناير 2011 الكثير من التحديات على مستوى الأحداث والتغيرات الكبرى كان أهمها على المستوى العالمي الأزمة الرأسمالية والركود الكبير في 2008، وعلى المستوى المحلي الصعود السريع للحركة العمالية بعد 2006 وتفاقم الاضطهاد الطائفي للأقباط، وكل ذلك في سياق تسريع النظام لمشروع التوريث والسياسات الليبرالية الجديدة وتطور المعارضة للنظام سواء في شكل تنامي النفوذ السياسي للإخوان المسلمين أو ظهور المعارضة الديمقراطية بأشكالها المتنوعة.
حاولنا في تلك الفترة مواكبة الأحداث والتطورات بتحليلات ماركسية متماسكة، ولكن أيضًا متجددة ومتحررة من القيود الدوغمائية القديمة. ومن جانب آخر، حاولنا تطوير خطاب اشتراكي جديد في مجالات الأدب والثقافة بشكل عام والقراءة النقدية للتاريخ الحديث والقديم.
نجحنا في بعض تلك المحاولات وفشلنا في غيرها، ولكن بشكل عام تمكَّنا من إعادة طرح الماركسية في الساحة السياسية والثقافية المصرية.
جاءت عاصفة يناير 2011 و قلبت كل الموازين. وأصبح العمل السياسي الجماهيري اليومي هو شاغل الجميع، وتراجعت الأسئلة النظرية ليحل محلها القضايا السياسية المباشرة، وأصبح “البيان السياسي” هو الأداة المناسبة وليس بالطبع المقال النظري الطويل. وكانت نتيجة ذلك هي تراجع الأهمية النسبية لمجلة “أوراق اشتراكية” حيث لم يُنشَر منها سوى ثلاثة أعداد بين 2011 و2013.
ثم انطفأت الأضواء تمامًا مع انقلاب 2013 والهزيمة العنيفة للثورة المصرية. تلك النكبة وما تلاها من تطورات فجَّرَت عشرات من الأسئلة النظرية: لماذا انهزمت الثورة، كيف نفهم صعود وانهيار الإخوان المسلمين؟ لماذا أيد الليبراليون وقطاع كبير من اليسار انقلاب 2013؟ كيف نتعامل مع ساحة سياسية غاب عنها ثنائي الحزب الوطني والإخوان؟ طبيعة دور الطبقة العاملة في الثورة والثورة المضادة وغيرها الكثير جدًا من الأسئلة. وقد تناولنا بعض هذه الأسئلة وحاولنا الحفاظ على منبر اشتراكي بديل من خلال “بوابة الاشتراكي” الإلكترونية. ولكن ومع الذكرى العاشرة لثورة يناير ومع حالة الفراغ الفكري والسياسي في ساحة اليسار، ليس فقط في مصر بل في المنطقة العربية ككل، ومع ضرورة بلورة رؤى وتحليلات جديدة تتجاوز ما كنا قد توصلنا إليه في العشر سنوات الأولى من القرن، قرَّرنا تدشين الإصدار الثاني لمجلة “أوراق اشتراكية”.
نعيش في عالم جديد تشكله عواصف متتالية؛ من جائحة كورونا وما فضحته من وحشية النظام الطبقي الرأسمالي، إلى الصعود الجديد لتيارات اليمين الشعبوي، ومن إفلاس سياسات الليبرالية الجديدة، إلى الكوارث القادمة بسبب التغير المناخي، ومن الاستبداد السياسي المتنامي في منطقتنا، إلى حصار القضية الفلسطينية ومحاولة خنقها على المستوى العربي والعالمي، وغيرها الكثير من العواصف.
يحتاج كل ذلك منَّا إلى أن يكون منبر “أوراق اشتراكية” منبرًا مفتوحًا لكافة التيارات اليسارية المصرية والعربية، متجاوزًا حدود تيار “الاشتراكيين الثوريين” -منبرًا يُبنى من خلال السجال والنقاش والتفكير المشترك في قضايا واقعنا المعقد.
ندعو جميع رفاقنا وزملائنا في مختلف تيارات اليسار المصري للمشاركة في مشروع “أوراق اشتراكية” في إصدارها الجديد بالكتابة في مختلف أقسامها والمساهمة في السجالات الفكرية. شاركونا في هذه المحاولة الجديدة لضخ الدماء في شرايين اليسار فكريًا وسياسيًا وثقافيًا.
* المحرر