بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

أزمة سكان أم أزمة توزيع؟

أزمة السكان

انتشرت في الفترة الأخيرة مجموعة من التقارير الصحفية عن استهلاك الشعب المصري من المواد الغذائية. صياغة عناوين التقارير تجعلك تشعر أنك أنت السبب المباشر في تلك الأوضاع المعيشية الصعبة التي تعاني منها كل يوم، والرسالة الواضحة والمباشرة أن استهلاكك الفردي عبء على الدولة، في محاولة ضمن التوجه العام للنظام لإلقاء اللوم في الأوضاع الاقتصادية على المواطن.

في الحقيقة لا تحتاج تلك الأرقام إلى أي تحليل عميق للرد عليها، ويكفي إجراء حسابات بسيطة لإثبات سطحيتها الشديدة. على سبيل المثال، يقولون إن المصريين أنفقوا 700 مليار جنيه على المواد الغذائية في عام 2020، أي 700 مليار ÷ 100 مليون مواطن = 7000 جنيه للفرد سنويًا، أي أقل من 20 جنيهًا للفرد يوميًا!

خلال نفس الموجة يظهر علينا توجهٌ آخر أكثر مباشرة مثل تصريحات أحد أعضاء مجلس النواب عن الأزمة السكانية، وأن نقص الموارد في مصر وعجز الدولة عن تحسين الوضع المعيشي مرتبط بشكل أساسي بزيادة عدد السكان. النظام الحالي لم يأت بجديد؛ عبد الناصر تحدث عن الزيادة السكانية وكان عدد المصريين آنذاك حوالي 20 مليون مواطن، والسادات أيضًا تحدث عن الأزمة وعدد السكان كان حوالي 40 مليون، مبارك هو الآخر فعل ذلك. في الحقيقة هذا التوجه أقدم من ذلك وله جمهوره حول العالم وليس في مصر فقط. بل أن نظرية ربط الزيادة السكانية بالضغط على الموارد منتشرة إلى درجة تناول شخصية تؤمن بهذا التوجه في أحد أفلام مارفل الخيالية وهي شخصية ثانوس الذي يحاول إبادة نصف سكان المجرة لإنقاذ النصف الآخر! فكيف بدأت هذه النظرية؟

تنبع هذه الرؤية من نظريةٍ قديمة لعالم عاش في القرن الثامن عشر يُدعى “مالتوس”، وتسمى نظريته بـ”مبدأ السكان”، ومفادها أن معدل النمو السكاني يزيد بشكل “أُسّي” بينما يزيد معدل النمو في الموارد بشكل “عددي”، وهكذا دائمًا ما يفوق معدل النمو السكاني معدل النمو في الموارد، وبالتالي فالزيادة السكانية كانت وستكون هي سبب الفقر والمجاعات في العالم. ويرى مالتوس أنه لإعادة التوازن بين أعداد السكان والمواد الغذائية لابد أن تتدخل الضوابط الطبيعية أو البشرية، مثل الكوارث أو الأمراض أو الحروب.

في الحقيقة، وعلى العكس من نظرية مالتوس، تشير الدراسات إلى أن معدل إنتاج الطعام يسبق معدل النمو السكاني، ويقدم التقدم العلمي والتكنولوجي الهائل في كافة المجالات الإمكانية لمضاعفة الإنتاجية في مجالات الزراعة والصناعة وكافة المجالات الآخرى، ما يغطي الحاجة بل ويفوقها بكثير. إذا كان السكان يزيدون بالملايين فالثروات تزيد بالمليارات. الزيادة السكانية تعني أيضًا زيادةً في عدد العمال وبالتالي زيادة في الإنتاج وفي الثروات.

يتجاهل النظام الحالي، مثل الأنظمة السابقة، تلك الحقائق ويحاول مؤيدو النظام الترويج دائمًا أن الشعب عليه أن يتحمل التضحيات القادمة، ليس فقط حبًا في مصر بل لأنه هو نفسه أصل المشكلة. ويتحدث هؤلاء عن “عبء” السكان وكأن الدولة تنوي من الأصل تقديم ما يكفي من الخدمات للمواطنين، بينما هي في الواقع تنسحب فعليًا من هذا الدور منذ سنوات طويلة!

وعلى عكس ما يدعيه إعلام النظام، فالفقر وسوء توزيع الثروة هما ما يدفعان الأسر الفقيرة إلى كثرة إنجاب الأطفال، باعتبارها أحد العوامل الأساسية لزيادة دخل الأسرة، بتوفير يد عاملة جديدة، وبالتالي مورد جديد للدخل.

الزيادة السكانية وثقافة المجتمع ليست عائقًا أمام “التنمية”، بل أننا لو نظرنا بإنصاف إلى التعريف الصحيح للأزمة السكانية، والتي يراها علماء الاجتماع دائمًا في ضوء التوازن بين الزيادة في عدد السكان وحجم الموارد المتاحة وطريقة توزيعها، سنجد أن موطن الخلل الرئيسي هو التوزيع غير العادل للثروة وناتج التنمية على مجمل السكان، وما ينتج عن ذلك من تفاوت ضخم في الثروة داخل المجتمعات الرأسمالية بين أقلية ضئيلة تستحوذ على معظم الثروات ونواتج التنمية وأغلبية كبرى لا يصلها إلا فتات هذه التنمية. على الأرض بالفعل ما يكفي لسد حاجة كل البشر.

الخطورة الأكبر للنظرية التي يطرحها مالتوس هي أن امتدادها على استقامتها يضع حجر الأساس لكل التبريرات القومية والفاشية التي تنادي بالتطهير العرقي والعنصري للفقراء، بل وإخصائهم لمنعهم من التناسل وتعكير صفو الحياة الرغدة لمالكي الثروة الحقيقيين وكبار رجال الدولة.