قضية وزارة الصحة.. فين الفساد؟

اتجدِّد الحديث من تاني خلال الأيام اللي فاتت عن قضية الفساد داخل وزارة الصحة، بعد الكشف عن تورُّط الوزيرة، هالة زايد، نفسها في الفساد ده.
ايه اللي حصل؟
في 25 أكتوبر اللي فات، بدأت الرقابة الإدارية تحقيق في وزارة الصحة في قضية رشاوى كبرى تلقَّاها مسئولين، مقرَّبين من الوزيرة. وفي اليوم التالي، أُصيبَت الوزيرة بأزمة قلبية، وتولَّى وزير التعليم العالي منصبها مؤقتًا “إلى حين شفائها”. وكان موقع “المنصة” أعلن وقتها إن فترة التقاعد الإجباري للوزيرة تحت شعار “الظرف الصحي” سببها “انتظار ما ستسفر عنه تحقيقات الأجهزة الرقابية والسيادية في أكثر من واقعة لشبهات فساد”، بحسب الموقع.
وفي 27 أكتوبر، أعلنت النيابة العامة التحقيق مع مسئولين في الوزارة، لكن دون تحديد مين هما المسئولين. لكن جريدة “الأسبوع”، المملوكة لمصطفى بكري، المعروف بقربه من أجهزة الأمن، نشرت خبر (حذفته بعد كده) عن القبض على مدير مكتب الوزيرة وآخرين بتهمة الرشوة. وفي نهاية ديسمبر، النيابة حوَّلت 4 متهمين إلى الجنايات بتهمة “استعمال نفوذ لإنهاء قرارات متعلِّقة بمستشفى خاص”.
اتكشفت أسماء المتهمين لاحقًا، وكان منهم زوج الوزيرة السابق اللي طلب رشوة قيمتها 5 مليون جنيه (استلم منهم بالفعل 600 ألف جنيه) مقابل عدم إغلاق مستشفى دون تراخيص. وفي أوراق تحقيق النيابة، اتضح إن ابن الوزيرة متورِّط هو برضو في الواقعة، لأنه اتصل هاتفيًا مع مدير مكتب الوزيرة لقبول ملف المستشفى اللي بدون تراخيص. أما مدير مكتب الوزيرة، برَّر موقفه المتجاوب مع ابن الوزيرة بقوله: “كُلِّفت من الوزيرة بإنهاء جميع ما يتعلَّق بأفراد عائلتها من طلبات وقرارات بقطاعات الوزارة المختلفة”، بحسب بيان النيابة العامة.
المؤسف إن دي مش قضية الفساد الوحيدة داخل وزارة الصحة. بحسب موقع المنصة، “هناك تحقيقات تجريها جهات مُطلِعة في قضية أخرى تتعلَّق بسلامة إجراءات توريدات لقطاع المعامل المركزية”.
أزمة صحية
بصرف النظر عن التحقيقات، وما إذا كانت ستثبت إدانة أم براءة الوزيرة وزوجها السابق وابنها ومدير مكتبها والمسئولين الآخرين المتهمين في القضية، لكن الأدهى إن كل ده يحصل في ظل أزمة صحية عالمية لها تأثير كبير على مصر وصحة المصريين، وهي جائحة كورونا.
بحسب الهيئة العامة للاستعلامات، بلغ إجمالي وفيات فيروس كورونا، المُسجَّلة فقط، في مصر لغاية امبارح، 3 فبراير، 22 ألف و735 حالة وفاة. ده غير طبعًا الحالات غير المُسجَّلة، اللي بعض التقديرات بتعتبرها أكبر من الحالات المُسجَّلة ربما بأضعاف الرقم ده.
وفي الوقت نفسه، عانى قطاع الصحة من التجريف على مدار سنوات طويلة قبل كورونا، نتيجة عدم الالتفات له، وده أثَّر بشكل كبير على تجهيزات المستشفيات واستعدادها لاستقبال حالات في ظل أزمة صحية كبيرة زي اللي احنا عايشينها مما يقرب من سنتين. وانعكست الأحوال المتردية للمستشفيات في مصر في كتير من الشكاوى على لسان أطباء وغيرهم من أعضاء الفريق الطبي على الشبكات الاجتماعية، والنتيجة مش إن الدولة تلتفت إلى الشكاوى من ضعف أحوال المستشفيات، بل إنها اعتقلت عدد من هؤلاء الأطباء اللي اتكلِّموا على الشبكات الاجتماعية.
واحدة من أخطر الإحصاءات الخاصة بجاهزية واستعداد المستشفيات هي عدد الأسرَّة في المستشفيات الحكومية. والمقارنة في الحقيقة فاضحة للإهمال الشديد اللي شهده قطاع الصحة الحكومي في مصر. انخفض عدد الأسرَّة في المستشفيات الحكومية المصرية من 71 ألف سرير عام 1998 إلى 41 ألف في 2011، ثم واصل الانخفاض ليصل إلى 36 ألف فقط في 2018. في المقابل، كان فيه انتعاش في المستشفيات الخاصة باهظة التكلفة على المواطنين، فارتفع عدد الأسرَّة فيها من 15 ألف عام 1998 إلى 29 ألف في 2011، ليصل إلى 35 ألف في 2018!
وبصورة عامة، يصل معدل أسرَّة المستشفيات في مصر إلى 1.6 سرير لكل ألف مواطن. والرقم طبعًا فضيحة إذا قارنَّاه بإنه فيه 10 أسرَّة لكل ألف مواطن في الولايات المتحدة، و12 سرير لكل ألف مواطن في السويد. أما عن أسرَّة الرعاية المركزة، فبحسب الدكتور شريف وديع، مستشار وزارة الصحة للرعاية الحرجة والطوارئ، هناك سرير رعاية مركزة واحد لكل 17 ألف مواطن، في حين إن المعدل العالمي هو واحد لكل 7 آلاف مواطن.
الفساد الحقيقي في قطاع الصحة
إذا كنا بنتكلم على الفساد، ففي الحقيقة الفساد مش مجرد إن مسئول كبير يتقاضى رشوة وفقط. الفساد الأكبر هو إن صحة المواطنين ماتبقاش في أولويات النظام، خاصةً في الإنفاق.
الفساد الأكبر هو إن معدل الإنفاق الحكومي في مصر على الرعاية الصحية الوقائية يكون، بحسب تقرير للبنك الدولي صدر في أكتوبر 2021، أقل من دول أخرى متشابهة في الدخل.
الفساد الأكبر هو إن الإنفاق الحكومي في مصر على الرعاية الصحية عمومًا يكون فقط 1.42% من الناتج المحلي الإجمالي في 2019، وده كان من بين أدنى معدلات الإنفاق على الرعاية الصحية في المنطقة العربية. ده كله في حين إن الدستور نفسه بينص على إن الإنفاق على الرعاية الصحية لا يقل عن 3% من الناتج المحلي الإجمالي، وفي حين إن النظام بينفق مليارات الدولارات على القصور الرئاسية وصفقات الأسلحة، اللي بيشتري بها شرعيته وعلاقاته من دول الخارج، والعاصمة الإدارية الجديدة والسجون الجديدة.
الفساد الأكبر هو إن النزيف المتواصل للمستشفيات الحكومية في مصر من 1146 مستشفى حكومي في 2008 إلى 691 فقط في 2018 (انخفاض بنسبة 40% في 10 سنوات)، في الوقت اللي ارتفعت فيه المستشفيات الخاصة من 686 في 2008 إلى 1157 في 2018 (زيادة بنسبة 41% في 10 سنوات).
الفساد الأكبر هو منظومة الأجور الظالمة للأطباء وطاقم الفريق الطبي، اللي بتجبر كتير من الأطباء إما على العمل في مستشفيات خاصة، وإما على السفر إلى الخارج، بحثًا عن أجر عادل (بحسب بيان وزارة الصحة في يناير 2020، فيه 2600 طبيب استقال من وزارة الصحة في 2018، و3500 في 2019). الأجور الهزيلة اللي بيتقاضاها الأطباء في مصر دفعت 62% من الأطباء المسجَّلين للعمل خارج مصر بعد الاستقالة من العمل الحكومي، بحسب دراسة أعدَّها المجلس الأعلى للجامعات والمكتب الفني لوزيرة الصحة، وده نظرًا لضعف الأجر فيه، اللي هو نتيجة مباشرة لضعف الإنفاق الحكومي على الرعاية الصحية. والأسوأ هو إن ده تسبَّب في عجز حاد في معدل الأطباء في مصر (8.6 طبيب لكل 10 آلاف مواطن، بينما المعدل العالمي هو 23 لكل 10 آلاف).
باختصار، الفساد مش مجرد فساد مسئولين أفراد، بل فساد منظومة فاسدة لدولة فاسدة ذات أولويات فاسدة. ايه اللي يبرَّر إن السجون والسلاح والقصور والعاصمة الجديدة أولى من صحة ملايين المواطنين؟!
الفساد في مصر
لما نتكلم عن الفساد المباشر في مصر، مانقدرش ننسى أبدًا إن مصر تحتل المركز 117 من أصل 180 دولة في التقرير السنوي اللي أصدرته منظمة الشفافية الدولية الخاص بمؤشر مدركات الفساد العالمي عام 2020. أما في العام السابق، 2019، فكانت مصر في المركز 106، وده معناه إن حصل تراجع إلى الأسوأ على صعيد الفساد.
المدهش في الموضوع برضو إن الصحف الموالية للنظام في مصر، زي اليوم السابع والمصري اليوم، قرَّروا وقت صدور التقرير إنهم يقلبوا الآية تمامًا، ويقولوا في المقابل إن مصر “تقدَّمت في تقرير منظمة الشفافية الدولية الخاص بالفساد”! ذكرت الصحيفتان المذكورتان إن مصر وصلت إلى المركز 117 من أصل 180 دولة في 2020، لكن دون أي ذكر على الإطلاق إن ده تراجع عن المركز 106 في العام السابق 2019.
أومال التقدم اللي قالوا عليه ده كان بناءً على ايه؟ كان بناءً على إن مصر حصلت على 33 نقطة في 2020 عشان توصل للمركز 117، بعد ما كانت حاصلة على 35 نقطة في 2019. الصحف الموالية للنظام قرَّرت إنها تبيِّن إن ده تقدم، بينما في الحقيقة تقرير مؤشر الفساد بيعتمد على تجميع نقاط؛ كل دولة تاخد عدد من النقاط من 0 إلى 100، بحيث يكون الأقرب إلى الـ0 هو الأكثر فسادًا، والأقرب لـ100 هو الأكثر نزاهة (مثلًا جنوب السودان هي الأكثر فسادًا بـ11 نقطة، والدنمارك وفنلندا ونيوزيلندا هم الأكثر نزاهة بـ88 نقطة لكلٍّ منهم). لكن طبعًا الصحف الموالية للنظام لا يمكن تذكر المعيار ده. باختصار، إن مصر تحصل على 33 نقطة بعد ما كانت 35 ده تراجع للأكثر فسادًا مش تقدم للأكثر نزاهة. كذب وتضليل وتزييف قذر، وده نموذج على “فساد” الإعلام هو كمان!
للأسف الشديد، من غير المرجح إننا نضمن تراجع الفساد في مصر خلال السنين الجاية، لأن الضمانة الأساسية والوحيدة لده هو المراقبة الشعبية من أدنى المستويات إلى أعلاها. بينما في المقابل، الفساد يقدر ينتشر ويترعرع في ظل الديكتاتوريات الخانقة لأي إرادة شعبية.
مصادر:
– ما وراء اختفاء وزيرة الصحة المصرية السابقة
زوجها السابق ونجلها متورطان أيضاً: ما وراء اختفاء وزيرة الصحة المصرية السابقة #هالة_زايد؟ #السلطة5 @dw_arabic pic.twitter.com/NNNaaU6nuf
— السلطة الخامسة (@dw_Sulta5) January 31, 2022
– بيان النيابة العامة بشأن التحقيق مع مسئولي وزارة الصحة
https://www.elmadar.com/crime/2021/10/27/25010/%D8%A8%D9%8A%D8%A7%D9%86-%D8%B9%D8%A7%D8%AC%D9%84-%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%8A%D8%A7%D8%A8%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%85%D8%A9-%D8%A8%D8%B4%D8%A3%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%AD%D9%82%D9%8A%D9%82-%D9%85%D8%B9-%D9%85%D8%B3%D8%A4%D9%88%D9%84%D9%8A-%D9%88%D8%B2%D8%A7%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B5%D8%AD%D8%A9
– إحصائيات انتشار فيروس كورونا في مصر:
https://www.sis.gov.eg/Story/208943/%D8%A7%D8%AD%D8%B5%D8%A7%D8%A6%D9%8A%D8%A7%D8%AA-%D9%81%D9%8A%D8%B1%D9%88%D8%B3-%D9%83%D9%88%D8%B1%D9%88%D9%86%D8%A7-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85?lang=ar
– تقرير البنك الدولي في أكتوبر 2021
البنك الدولي يرفع توقعاته للنمو الاقتصادي في مصر لما بعد "كوفيد-19"
– قطاع الصحة في مصر.. نزيف لا يتوقف
https://www.facebook.com/permalink.php?story_fbid=1646984915454050&id=108144649338092
– مصر تتراجع للمركز 117 في مؤشر مدركات الفساد لعام 2020
– ما هو ترتيب مصر في مؤشر الفساد العالمي لعام 2020؟
https://www.almasryalyoum.com/news/details/2244110