الحصاد السياسي المر لعام 2022

لم يختلف العام الماضي 2021 عن سابقيه في مستويات القمع من جانب أجهزة الدولة وحالة الحريات والحقوق السياسية والمدنية، بل ربما كان أعنف في بعض النواحي. نستعرض خلال هذا التقرير أبرز التطورات السياسية التي جرت خلال العام الماضي.
الحوار الوطني.. النظام يكذب ولا يتجمل
دعا عبد الفتاح السيسي أثناء “إفطار الأسرة المصرية” في أبريل الماضي إلى إجراء ما يسمى بـ”الحوار الوطني” في حضور عدد من رموز المعارضة المدنية وممثلي الأحزاب المختلفة وتبع ذلك الإعلان عن “إعادة تفعيل لجنة العفو الرئاسي”.
تراوحت محاولات تفسير توقيت مبادرة السيسي بين محاولة تحسين صورة النظام في الخارج في محافل الدول الغربية، إلى إلهاء الساحة السياسية بمسرحيات في ظل الأزمة الاقتصادية الراهنة.
ما رأيناه من دور لجنة العفو في الشهور الماضية منذ تدشينها ليس إلا دور ساعي البريد الذي يوصل طلبات العفو للأجهزة الأمنية بدون أدنى سلطة أو سلطان، وبدون أي شفافية بشأن المعايير التي تتبع لإطلاق سراح المعتقلين، والجملة التي سارع جميع أعضاء اللجنة بالتأكيد عليها هي أن الأسماء لن تضم “من تورطوا في العنف” و”أعضاء المنظمات الإرهابية”. قد يبدو هذا الشرط غير منطقي، إذ أن كل معتقلي الرأي حاليًا تُوجَّه لهم تهم فضفاضة ومفبركة تتعلق بالإرهاب، ولكن يُفهَم من سياق التصريحات إنها مفصلة لاستبعاد المنتمين لتيار الإسلام السياسي.
أما عن الحوار الوطني، فقد رحبت معظم الأحزاب والحركات السياسية بالمبادرة وأكدوا على ضرورة القيام بإجراءات سريعة للإصلاح السياسي وفتح المجال العام، وذلك للمساعدة على حوار مجتمعي يقدم بدائل للخروج من الأزمة الاقتصادية والسياسية الراهنة. ولكن ما حدث في الواقع لا يمت لتلك الأمنيات بصلة، إذ لم نشهد أي انفراجة في المشهد السياسي أو مشاركة من أي نوع للأحزاب في حل المشاكل التي تواجهها البلاد، بل كانت سياسة الاستقصاء هي الغالبة على المشهد وكأن شيئًا لم يحدث. ومع أزمة قناة السويس الأخيرة بدأت بعض الأحزاب ومنها حزب الكرامة في التفكير جديًا في التراجع عن المشاركة في الحوار الوطني.
إن أي ادعاء بانفراجة في المشهد السياسي الحالي، في ظل مواصلة الاعتقالات وغلق المجال العام، ما هو إلا وهم حتى يُفرَج عن الآلاف من المعتقلين السياسيين ويُنهى الإخفاء القسري ويُترَك المفرج عنهم دون تبعات وخوف من التنكيل بهم مرة أخرى أو إعادة حبسهم.
أماكن الاحتجاز.. تكدير وتعذيب وإهمال طبي
لم يختلف للأسف هذا العام عما سبقه في ملف المعتقلين والمختفين قسريًا، رغم ادعاء النظام والموالين له بغير ذلك، إذ تثبت لنا الأرقام أن عدد المعتقلين في سجون النظام لا يزال مستمرًا منذ الانقلاب العسكري في 2013.
وثق مركز النديم لتأهيل ضحايا العنف والتعذيب ما لا يقل عن 1180 حالة من الانتهاكات في المعتقلات المصرية، منذ بداية عام 2022 وحتى ديسمبر.
ورصد المركز، في تقريره بعنوان أرشيف القهر للنصف الأول من 2022، 24 حالة تعذيب فردي، و315 حالة تكدير فردي، و14 حالة تكدير جماعي، و72 حالة إهمال طبي متعمد، و168 حالة إخفاء قسري، و829 حالة ظهور مختفين قسريًا.
كشف النديم في عام 2022 عن أكثر من 42 حالة وفاة تسبب الإهمال الطبي في معظمها، بالنظر إلى أوضاع السجون المزرية وافتقارها إلى مقومات الحياة الصحية.
منذ العام 2013، أصبح الإهمال الطبي على رأس قائمة أسباب الوفاة في السجون ومقار الاحتجاز الرسمية، إذ يتسبب عدم توفير إدارة السجون المصرية الرعاية الطبية في وفاة أعداد كبيرة من السجناء. شهد عام 2021 وفاة 60 معتقلًا داخل السجون المصرية، في شهد العام 2020 وفاة 73 معتقلًا نتيجة الإهمال الطبي في السجون ومقار الاحتجاز المختلفة في مصر.
وقد أعربت المنظمات المحلية والدولية عن قلقها من أن القيود الحكومية على التجمع والتعبير تقيد بشدة المشاركة الواسعة في العملية السياسية وأي محاولة للمعارضة تؤول الى الاعتقال أو الاختفاء القسري.
إفراجات وتدوير
أكدت لجنة العفو الرئاسي في أكتوبر الماضي أن عدد المفرج عنهم تجاوز ألف شخص، منذ إعادة تفعيل عمل اللجنة في 26 أبريل الماضي، ولكن مع كل دفعة جديدة يُطلق سراحها تعتقل قوات الأمن آخرين بنفس التهم، وبحسب منظمات حقوقية مختلفة، يزيد عدد المعتقلين الجدد في الستة أشهر الأخيرة عن العدد الذي أُفرج عنه بالفعل خاصة في شهري أكتوبر ونوفمبر، حيث أحكم النظام القبضة الأمنية على خلفية دعوات التظاهر في 11/11.
حتى منذ انطلاق أعمال لجنة العفو والحوار الوطني، لم تتوقف الاعتقالات يومًا واحدًا على كل من تسول له نفسه أن ينتقد الوضع الاقتصادي الراهن أو يشكك في سياسات النظام، أو حتى يتضامن مع المعتقلين الذين لا يزالون قيد الحبس.
ومثال على ذلك، اعتقال الفنان التشكيلي أمير عبد الغني، الذي ظهر في نيابة أمن الدولة العليا يوم 19 سبتمبر، وقررت النيابة حبسه 15 يومًا احتياطيًا على ذمة القضية رقم 1635 لسنة 2022 حصر أمن دولة عليا، حيث وجهت له نفس الاتهامات المعتادة وهي الانضمام إلى جماعة إرهابية، وإساءة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، ونشر أخبار كاذبة.
شريف الروبي، الذي خرج من السجن قبل عدة أشهر في إطار الاستعدادات لبدء الحوار الوطني، أُلقِيَ القبض عليه مجددًا وأُحيلَ سريعًا إلى النيابة العامة التي أمرت بحبسه 15 يومًا على ذمة التحقيق، ومن ثم دخل مجددًا في دائرة الحبس الاحتياطي بنفس التهم الفضفاضة.
آية كمال مثال آخر، إذ اعتقلتها قوات الأمن للمرة الثالثة بالإسكندرية منذ عدة أشهر. كانت آية قد أُخلِيَ سبيلها منذ حوالي سنة ونصف، وجاء هذا الإخلاء جزئيًا بسبب وضعها الصحي المتدهور حيث إنها مريضة ربو حاد. ولكن أُلقِيَ القبض عليها مجددًا من بيتها في الإسكندرية ودخلت مرة أخرى في دوامة الحبس الاحتياطي.
العدالة لأيمن هدهود.. الأكاديميون لم يسلموا من القمع
لم يسلم الأكاديميون واعضاء الأحزاب من التنكيل من قبل نظام السيسي، حيث بعد مضي شهرين على اختفاء الباحث الاقتصادي والمستشار الاقتصادي لرئيس حزب الإصلاح والتنمية أيمن هدهود، علمت عائلته بوفاته من مكالمة هاتفية من أفراد في الداخلية وتوجهوا لمستشفى العباسية للصحة النفسية لاستلام جثمانه.
خلال فترة اختفائه، تلقت أسرته تأكيدات بطرق غير رسمية عن تواجده في مستشفى العباسية للصحة النفسية، دون وجود أي أوراق تثبت دخوله المستشفى. وتردد شقيقه على المستشفى أكثر من مرة، ولم يتمكن من رؤيته بسبب تواجد أيمن في عنبر تحت الحراسة المشددة بسجن المستشفى.
وقد تم إخفاء جثة الباحث أيمن هدهود في ثلاجة مستشفى العباسية لأكثر من أشهر دون إبلاغ أهله بوفاته. وبعد مرور أشهر عن تلك الواقعة الأليمة لم تكشف التحقيقات عن سبب موت الباحث ولم يُوجَّه اللوم في ذلك إلى أي جهة عن تلك الواقعة.
كان ذلك متوقعًا في ظل هجمة شرسة من الدولة ونظام السيسي على الباحثين والأكاديميين، حيث شهدنا اعتقال الباحث باتريك جورج وأحمد سمير سنطاوي واحتجازهم ما يقرب من سنتين ظلما في سجون النظام فقط لنشاطهم الأكاديمي وبحثهم في قضايا البلد.
دعوات 11/11.. اعتقالات جديدة وقمع أعنف
تشهد مصر حالة احتقان ظاهرة للعيان بسبب الأوضاع الاقتصادية التي تشهدها البلاد، من موجات ارتفاع قياسية لأسعار السلع الرئيسية والخدمات وصعوبة التعايش مع الزيادة في ظل تدهور الدخل والمرتبات. وقد مهدت تلك الحالة لإطلاق بعض من المعارضين بالخارج دعوات للتظاهر في 11 نوفمبر الماضي، بالتزامن مع استضافة مصر مؤتمر المناخ من 6 إلى 18 من الشهر نفسه.
لأكثر من شهر شن النظام حملة توقيف واعتقالات واسعة في الشوارع وخاصة شوارع القاهرة والجيزة، وتفتيش عشوائي للهواتف في خرق واضح لقوانين الخصوصية الشخصية واحتجاز المئات بالساعات إلى حين اتخاذ القرار إما بإطلاق سراحهم وإما بتحويلهم للقسم التابع لهم.
وحسب تقرير الأمم المتحدة عن ملف حقوق الإنسان في مصر الصادر في شهر ديسمبر لعام 2022، اعتُقِلَ ما يقرب من 734 شخصًا في حدود 18 محافظة في الفترة 1 أكتوبر إلى 14 نوفمبر.
ومثال على ذلك قرار نيابة أمن الدولة العليا حبس مع ما لا يقل عن 65 شخصًا في القاهرة ومحافظات أخرى في نهاية شهر أكتوبر لمدة 15 يومًا على ذمة قضيتين هما 1893 و1691 لسنة 2022، عقب تفتيش هواتفهم أو بسبب نشرهم مقاطع فيديو تدعوا للتظاهر. ولم تخلوا المحافظات أيضًا من السعار الأمني، حيث رصدت المنظمات الحقوقية المختلفة مئات الحالات من القبض العشوائي على مواطنين من الشوارع في الإسكندرية والسويس واحتجازهم في مقرات تابعة لجهاز الأمن الوطني لساعات قبل الإفراج عنهم.
وأوقفت قوات الأمن ما لا يقل عن 500 شخص في يوم واحد في محيط وسط البلد وقامت بتفتيش هواتفهم واعتقال بعضهم لتداولهم منشورات داعمة للتظاهر أو حتى تنتقد القرارات الاقتصادية الأخيرة للحكومة وموجة ارتفاع الأسعار المصاحبة لها.
ومع انتهاء يوم 11/11 ورغم انعدام المظاهرات في المدن والأحياء لكن لم يفرج عن المحتجزين ومازال الاعتقال مستمر حتى الآن.
حقوق الإنسان في قلب قمة المناخ
استضافت مصر في نوفمبر الماضي القمة الـ27 لمؤتمر المناخ، وكانت فرصة ذهبية بالنسبة لنظام السيسي في الغسيل الأخضر الذي يحجب سجل مصر في كلٍ من الأزمات المناخية والبيئية، وإخفاء كونها دولة بوليسية عنيفة.
شهدت مصر تعبئة أمنية مكثفة، وتحولت شرم الشيخ إلى ثكنة عسكرية خوفًا من أي مظاهرات أو تهديد للصورة المزيفة التي حاول النظام توصيلها إلى قيادات الدول الحاضرة.
إذا نظرنا لسجل مصر فيما يخص البيئة سنجد أنه منذ عام 2016، نجد أن النظام قد ضاعف من إنتاج النفط والغاز، اللذين يمثلان الضرر الأكبر على المناخ والبيئة، حتى أصبح الوقود الأحفوري يمثل 95% من احتياجات مصر من الطاقة. وتستهلك مصر ثلث الميثان الذي يُستهلَك إجمالًا في قارة إفريقيا، بينما زادت الانبعاثات فيها بنسبة 140% منذ العام 1990، في إصرار واضح على الإضرار بالمناخ. وبينما يبلغ مستوى التلوث في القاهرة 10 مرات الحد الآمن، يستمر النظام في إزالة الحدائق العامة والمساحات الخضراء، ولعل المثال الأكبر على ذلك هو محاولات استيلاء النظام على جزيرة الوراق (1850 فدان تشغل الأراضي الزراعية أكثر من نصف مساحتها) لتحل الاستثمارات العقارية محل جزيرة هي بمثابة رئة تتنفس بها القاهرة.
أما فيما يخص حقوق الإنسان، ورغم منع النظام للعديد من منظمات المجتمع المدني من المشاركة في قمة المناخ، وتأخير إجراءات الفيزا والتصاريح للعديد من النشطاء من خارج مصر، تحول مؤتمر المناخ لمنصة تناقش تدهور أحوال حقوق الإنسان في مصر. استطاعت سناء سيف، ابنة المحامي والحقوقي أحمد سيف الإسلام وشقيقة الناشط والمبرمج علاء عبدالفتاح المعتقل في سجون النظام منذ 2013 والذي كان مضربًا عن الطعام منذ أبريل الماضي ويواجه الموت في زنزانته، أن تحول أعين الصحفيين والسياسيين إلى قضية المعتقلين وملف حقوق الإنسان ككل في مصر. انتقدت سناء سيف وبعض ممثلي المنظمات الحقوقية النظام المصري بشدة، ووجهت الاتهامات مباشرةً لنظام السيسي بالقمع والتنكيل بالمعارضين، ووجهت انتقادات شديدة أيضًا للدول المشاركة التي لم تتخذ أي إجراء لردع النظام عن أفعاله بالمشاركة في جرائم النظام ضد المعارضين.
الأحزاب السياسية.. أزمات متكررة
وفقًا للمعهد المصري للدراسات، تبلغ عدد الأحزاب المصرية المسجلة رسميًا والمعتمدة من لجنة الأحزاب 104 حزبًا، منها 19 حزبًا فقط داخل البرلمان، حيث يسعى النظام منذ 2013 الوصول إلى شكل يقترب من شكل الحزب الحاكم مع وجود حزب أو عدة أحزاب أخرى تقوم بدور المعارضة الموالية للنظام.
كان أبرز هذه الأحزاب في الفترة الأخيرة هو حزب مستقبل وطن، الذي تشكل داخل أروقة المخابرات الحربية، والواضح للعيان أن دور تلك الأحزاب الوهمية ما هو إلا تجريف للحياة السياسية والقضاء على جميع مظاهرها وإقصاء الأحزاب المعارضة ومنظمات المجتمع المدني من أي مشاركة في العمل السياسي. أدى ذلك الى مشاركة ما تبقى من أحزاب المعارضة في الحوار الوطني لكونه مجرد هامش على محور السياسة بدون أي دور محوري أو تأثير إيجابي على مجريات الأمور. ورضخت الأحزاب بالدور المرسوم لها من خلال مشاركتها بل وترحيبها بالحوار الوطني ورضاها بأقل القليل فقط لتكون جزء من الصورة.
ماذا بعد؟
بعد عرضنا لأبرز محطات المشهد السياسي في مصر في 2022، يمكننا الاستنتاج أن الصورة التي يحاول النظام المصري تصديرها عن نفسه ليست إلا قناعًا زائفًا، يظل المجال العام مغلقًا، ولا تزال حرية الصحافة والتعبير منعدمة، ويبقى عشرات الآلاف من المعتقلين داخل السجون.
نحن نقف ضد سياسات النظام القمعية والاستبدادية وتلك المعركة تستدعي إنشاء جبهة موحدة مع الحركات المدنية والأحزاب السياسية المعارضة ولكن يجب أن تراجع الحركة المدنية ذاتها فورًا فيما يسمى بالحوار الوطني والالتفاف حول مطالب موحدة لإنقاذ الشعب من الكارثة السياسية والاقتصادية الواقع فيها.