بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

التهجير القسري.. من إخلاء المساكن إلى هدم المقابر

تأتي الذكرى العاشرة للثلاثين من يونيو وقد تبدل الحال، وفي مشاهد كُنا لانراها سوى في فلسطين المُحتلة، شاهدنا المُعدات الثقيلة تهدم المباني في القاهرة والعديد من المحافظات المصرية، تقول الدولة أن هذه الإزالات هي للتطوير أو لتوسعة الطرق أو لمخالفة هذه المباني لقوانين البناء، أو بسبب التعدي على أراضي الدولة، وخلال عشر سنوات تمددت جرافات الهدم حتى وصلت إلى الموتى في قبورهم ومثلما أصبحت الحياة صعبة فإن الموت في دولة الثلاثين من يونيو لم يعد آمناً أيضاً، وعلى مدار عشر سنوات شاهدنا التهجير القسري للمعارضين ممن اضطروا إلى النزوح خارج مصر وداخلها تجنباً للاعتقال، وفي الديكتاتورية الجديدة لم نشهد إلا المزيد من المجالس العرفية التى عادةً ما تحكم على الأقباط بترك منازلهم فلم يكن الخطاب الموجه إلى الأقباط من جانب الثورة المضادة على النقيض من الخطاب الطائفي للإخوان المسلمين إلا لمجرد إستخدام ملف الأقباط كورقة سياسية للتخويف من الإخوان المسلمين، ولم تتوقف آلة القهر عن تهجير الأقباط خلال عشر سنوات من الانقلاب العسكري.

ما هو التهجير القسري؟

يُعرف التهجير القسري بأنه إبعاد الأشخاص عن موطنهم أو المنطقة التي ينتمون إليها بالإكراه من قِبل قوى عسكرية أو شبه عسكرية لأسباب مُختلفة، أو بمبادرة ذاتية من السكان خوفاً على حياتهم من أعمال العنف أو نتيجةً لتضييق يُمارس عليهم، وفي حين يُشير السيسي دائماً في مداخلاته إلى أن الوضع الإقتصادي الصعب الذي تشهده مصر أفضل من أن يكون المصريين “في بلاد تانية ” وهو ما لم يحدث كما يقول “بفضل ربنا” بعد الأحداث التي شهدتها مصر عقب ثورة 25 يناير، ولكن في الحقيقة لا تتجاوز هذه الكلمات لرأس سلطة دولة 30 يونيو إلا تخويفاً من الثورة أو أي تحرك للجماهير، فقد خَلفت الثورة المُضادة في مصر ملايين الضحايا من المُهجرين والنازحين قسرياً إلى الخارج أو داخل مصر، ولها ملفاً أسود يرقى إلى جرائم الحرب، وفقاً إلى المادة الثامنة لنظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية لحالات الإبعاد أو النقل غير المشروعين للسكان والمادة السابعة التي تعتبر أن إبعاد السكان أو النقل القسري لهم جريمة ضد الإنسانية.

التهجير القسري بسبب ممارسة العمل السياسي

فتح الإنقلاب العسكري في 3 يوليو 2013 أبواب المُعتقلات على مصراعيها واسُتخدم شعار الحرب على الإرهاب لسحق أي معارضة للنظام القديم الذي عاد بصورة جديدة أكثر بطشاً، مما دفع بأعداد كبيرة من المعارضين للهجرة خارج مصر بقرار ذاتي ناتج عن تعرضهم للقمع السياسي وفي بعض الحالات كان المهاجرين قد حُكم عليهم بالسجن بسبب نشاطهم السياسي في محاكمات تفتقر إلى العدالة، وفي تركيا سُجلت بعض الحالات للطلبة المصريين ضمن اللاجئين الذين يستكملون دراستهم، وشهدت دول مثل قطر والسودان وتركيا وماليزيا وغيرها نزوح الكثير من المصريين الفارين من الهجوم المُضاد للثورة المضادة على كل من شارك في ثورة 25 يناير، وتستمر حتى الآن حالات النزوح الداخلي داخل مصر للمعارضين السلميين الذين أجبروا على ترك مساكنهم وأعمالهم نتيجةً استهدافهم من قِبل قوات الأمن بصورة مُتكررة أو للحُكم عليهم بسبب نشاطهم السياسي.

التهجير على أساس طائفي

في يونيو 2015 تم تهجير 5 أُسر مسيحية من كفر درويش بمركز الفشن جنوب محافظة بني سويف بعد أحداث طائفية مع المسلمين. جاء الحكم بتهجير الأسر المسيحية من خلال ما يُعرف “بالمجالس العُرفية” بمعرفة أجهزة الأمن، وعلى الرغم من عودة الأسر المهجرة لاحقاً إلى القرية إلا أن العودة كانت من خلال المجالس العرفية أيضاً، ووفقاً للمبادرة المصرية للحقوق الشخصية فقد شهدت قرى الناصرية بالمنيا وميانة ببني سويف خلال شهرىّ أبريل ومايو من نفس العام تهجير أقباط لاعتراض بعض المسلمين على آرائهم المنشورة على مواقع التواصل الإجتماعي، مما أدى إلى محاصرة منازلهم وإجبارهم على الرحيل، تكشف عمليات الإخلاء القسري للأقباط من بعض المناطق عن تعامل الدولة مع هذا الملف بشكل أمني وبتطبيق القانون بصورة انتقائية بدلاً من تطبيقه بعدالة على الجميع، وترك سلطة تقرير مصير الأقباط للمجالس العرفية ،ولم تستطع الدولة حماية الأقباط من التنظيمات الإرهابية ففي عام 2017 قتل تنظيم داعش 7 أقباط من محافظة شمال سيناء وأدى إستهداف الأقباط من جانب التنظيم إلى نزوح أكثر من 250 قبطياً من شمال سيناء إلى محافظة الإسماعيلية.

التهجير من أجل الإستثمار

تُمثل ما يسمى بالعشوائيات أحد أبرز نتائج انحيازات الدولة الطبقية في القطاع العقاري، فعلى مدار سنوات دعمت الدولة إنشاء المجتمعات السكنية الفاخرة والمنتجعات الخاصة للأغنياء، ودعمت المطورين العقاريين للحصول على الأراضي بتسهيلات كبيرة، في حين حُرمت الطبقات الفقيرة والعاملين بأجر من الحق في الحصول على سكن بسعر مناسب، فتكونت تجمعات سكنية بدون تخطيط من الدولة مثل منطقة رملة بولاق وجزيرة الوراق وغيرها من المناطق على مستوى الجمهورية ولم يكن هذا سراً، فقد تم بناء هذه التجمعات السكانية على مرأى ومسمع من الدولة، وجاءت دولة الثلاثين من يونيو بسياسات عمرانية طبقية أكثر شراسة ضد سكان المناطق “العشوائية”.

فعلى الجانب السياسي تريد الطبقة الحاكمة إخلاء مناطق سكانية كانت لها مشاركة فاعلة في ثورة 25 يناير، وكما جاءت الآليات العسكرية في صيف عام 2013 لمواجهة الإرهاب المُحتمل تنظر دولة الثلاثين من يونيو إلى المناطق السكنية التي تسميها بالعشوائيات كمناطق احتجاجات اجتماعية مُحتملة يصعب السيطرة عليها، ولابد من تفريقها بعيداً عن مركز القاهرة.

وفي حين تدعى الطبقة الحاكمة أن الأوضاع الإقتصادية الناتجة عن سياستها ماهي إلا ضريبة التطوير وعلى الفقراء والعاملين بأجر تحمل أعبائها، تم إنشاء العاصمة الإدارية الجديدة على بُعد نحو 50 كيلو متر من القاهرة فلا يزال هاجس الإحتجاجات الشعبية لا يفارق ذاكرة الطبقة الحاكمة ولابد من تحصين مراكز الحكومة والسلطة بعيداً عن السكان.

وعلى الجانب الإقتصادي تعمل الدولة على تهجير السكان من المناطق الإستراتيجية والجزر النيلية مثل ماسبيرو والوراق وغيرها لصالح طرح هذه المناطق للاستثمارات الخليجية لإقامة مشروعات لا تخدم إلا الطبقات الغنية، فالأرباح هنا تأتي على حساب تغريب السكان دون مراعاة للبعد الثقافي والإجتماعي لهم وعن مدى تأثير ذلك على أعمالهم وحياتهم.

تمثل المناطق العشوائية 75% من العُمران بالمدن والقرى المصرية، في حين تمثل المناطق الغير آمنه 1% من هذه المناطق وفقاً لصندوق تطوير المناطق العشوائية 2013، وتُلزم المادة 78 من الدستور المصري الحكومة على وضع خطة قومية شاملة لمواجهة مشكلة العشوائيات وتوفير البنية الأساسية والمرافق وتحسين نوعية الحياة والصحة العامة وتُلزمها بتوفير الموارد اللازمة لذلك خلال مدة زمنية معينة، وبُناءً على هذه المادة تم إنشاء وزارة الدولة للتطوير الحضاري والعشوائيات لتصبح جهة التنفيذ وفقاً للقرار الرئاسي رقم 1252 لعام 2014.

ولكن دائماً ما تكون تصريحات الحكومة متناقضة مع تصرفاتها، وتعتبر العشوائيات مشكلة يجب التخلص منها بالهدم، في حين أن إعادة التوطين يجب أن تكون في أضيق الحدود وبعد استنفاد جميع الحلول الأخرى، فضلاً عن أنه يجب تعويض السكان في هذه الحالات التي من المفترض أن تكون اضطرارية، بدفع القيمة الكاملة لممتلكاتهم وأن تعمل الأجهزة المُختصة على مساعدة هذه الأسر على تحقيق مستوى المعيشة السابق على الأقل وأن تتحقق من قدرة هذه الأسر على تأمين دخل بشكل منتظم.

تهجير أهالي سيناء

تحت مظلة الحرب على الإرهاب بدء الجيش المصري في أكتوبر 2014 عملية إزالة موسعة للمناطق السكنية بمحافظة شمال سيناء بمدينة رفح المصرية المتاخمة للحدود مع قطاع غزة لإنشاء منطقة عازلة، وهو ما اعتبرته “نافي بيلاي” المفوضة السامية السابقة لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة تهجيراً للسكان وانتهاكاً واضحاً لحقوق الإنسان، تستمر الدولة في إفراغ سيناء من سكانها فبعد الحرب على الإرهاب يجري حالياً تهجير أهالي حي الميناء بمحافظة العريش تنفيذاً للقرار الرئاسي رقم 465 لسنة 2021، والذي ينص على نقل تبعية ميناء العريش ونزع ملكية الأراضي المحيطة بالميناء لصالح القوات المسلحة المصرية، ويُظهر تصدى أهالي حي الميناء لجرافات الهدم بأجسادهم وتنظيم الوقفات المعارضة لهدم منازلهم، أن ما يجري في حي الميناء ليس إلا تهجيراً قسريا للسكان.

هدم المقابر التاريخية

تُصنف منطقة المقابر بحي الخليفة جنوب القاهرة ضمن قائمة مواقع التراث العالمي لمنظمة اليونسكو، وتضم مقابر لشخصيات عامة وتاريخية، وبدلاً من تطوير المنطقة للحفاظ على طابعها الأثري يتم هدمها فضلاً عن أن عملية هدم المقابر تتم بدون الإلتفات إلى الآثار النفسية والإجتماعية لذلك على ذوي الموتى، وتبرر الدولة هدم منطقة المقابر التاريخية لتحسين شبكة الطرق ومناطق إنتظار السيارات.

السياسات البديلة لوقف التهجير القسري

تمثل إستعادة الديمقراطية وفتح المجال السياسي الطريق الوحيد نحو عودة النازحين من مصر أو النازحين بالداخل وهو ما يتطلب تشكيل جبهة متحدة بين القوى المعارضة للنظام الحالي، جبهة تلحق بالجماهير الشعبية الغاضبة من سياسات النظام ولا تتخلف عنهم بالغرق في لجان الحوار الوطني، وفي ملف الأقباط لا يجب التعويل على الحل الأمني فقط وتطبيق القانون على الجميع بدون تمييز، فضلاً عن أن غلق المجال السياسي أمام المعارضين السلميين وتفشي الفقر الناتج عن سياسات النظام يُعزز موقف الجماعات الإرهابية والأفكار الطائفية.

وفي حين أن هناك تجارب في دول عديدة تشير إلى إمكانية تطوير المناطق العشوائية بدون تهجير السكان، إلا أن الدولة المصرية تتعامل مع العشوائيات من منطلق التراخيص وقانون البناء وآلة الهدم بدلا من إعادة تأهيل هذه المناطق، وهو ما تحقق في البرازيل.

ففي عام 1995 بدأت البرازيل برنامجاً من ثلاث مراحل لتطوير العشوائيات بهدف تحسين جودة الحياة بالمناطق ذات الدخل المنخفض من خلال الاستثمار في البنية التحتية والبرامج الاجتماعية وبرامج تستهدف الشباب وتوفير فرص العمل وبرامج تنمية القدرات الخاصة للمسؤولين عن الإدارة المحلية بعد إدراك الحكومة البرازيلية أن الإخلاء والهدم وإعادة توطين السكان في بنايات سكنية كبيرة بعيدة عن المدينة ليست الحل الأفضل للمناطق العشوائية، ويُعد مشروع “فافيلا- باريو” بمعنى “من عشوائيات إلى أحياء رسمية” أحد النماذج المُلهمة فقد استفادت حوالي 76,000 أسرة من المشروع في 62 منطقة عشوائية في البرازيل، ويعد العامل الأساسي لنجاح “فافيلا باريو” هو اشتراك السكان بأنفسهم فى جميع جوانب التخطيط والتنفيذ ،حيث قدمت مدينة ريودي جانيرو أسلوباً للتطوير العمراني المرتبط بالمكان والاعتراف بحق السكان بالعيش في المكان الذي يختارونه، لتصبح البرازيل الدولة الأولى في العالم التي تُخصص باباً مُستقلا للسياسة العمرانية في دستورها يعترف بالدور الاجتماعي للملكية وبحقوق السكان غير الرسميين، فبدون جرافات الهدم يُمكن تحقيق العدالة العمرانية إذا ما نجحنا في بناء دولة منحازة للشغيلة والفقراء.