لم يسلم منها الأموات.. بلدوزرات السيسي تهدم القاهرة التاريخية

لا تزال جرافات الهدم تواصل عملها بلا هوادة، فبعد أن تم تشريد وتهجير الأحياء من مساكنهم ومحالهم، تعمل جرافات الهدم على محو منطقة القاهرة التاريخية، من أجل بناء مزيد من الخرسانة في ظل سباق الطرق والمحاور الذي يتبناه عبد الفتاح السيسي.
ما أشبه اليوم بالبارحة، ففي عام 2015 وقف مجموعة من الرجال المُلتحين وبأيديهم مطارق ثقيلة من حديد لتحطيم الآثار والأضرحة بمدينة الموصل العراقية، حيث هدم تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” حضارة تعود لآلاف السنين، واليوم نفس الفعل تفعله السلطة في مصر، حيث تهدم نفس المطارق معالم القاهرة التاريخية، وكما تعتبر داعش أن هذه الآثار مجرد شواهد للكُفر، فإن السلطة في مصر تعتبر المعالم التاريخية للقاهرة، حتى لو كانت قبور الموتى، ملكا مستباحا يجوز لها أن تهدمه لبناء الطرق والكباري، ومن يعارض فعلها فهو إذن من الكفار بالجمهورية الجديدة.
تقع منطقة القاهرة التاريخية، والمعروفة بمقابر الإمام الشافعي والسيدة نفيسة في حي الخلفية جنوب القاهرة، شمال وجنوب وشرق طريق صلاح سالم، وتضم المنطقة عدداً كبيراُ من المقابر ذات الطراز المعماري المُتميز، كما تحتوي على العديد من المدافن لشخصيات تاريخية، فضلاً عن مساجد وقِباب ذات طابع أثري. وفي عام 1979 سجلت منظمة اليونسكو منطقة القاهرة التاريخية ضِمن مواقع التراث العالمي، قبل أن تُحذر المنظمة من أن الإهمال الذي تتعرض له القاهرة التاريخية، قد يدفعها إلى شطب المنطقة من قائمة التُراث العالمي، وتحويلها ضِمن مناطق التراث المُعرضة للخطر.
لم تُعر الدولة أي اهتمام لتحذيرات منظمة اليونسكو، فلديها مشروع آخر يتناقض مع الحفاظ على المنطقة التاريخية، فجاءت القرارات “الرئاسية” لتمهد الأرض للقائمين على تنفيذ خطة الدولة لهدم منطقة القاهرة التاريخية، تحت ذريعة المنفعة العامة، ففي عام 2020 تم اعتبار مشروع محور الفردوس “جيهان السادات حالياً” ضمن أعمال المنفعة العامة، وفقاً للقرار الرئاسي رقم 1429، ويربط المحور بين وسط القاهرة والطريق الدائري ومدن شرق القاهرة، ويمتد لحوالي 9 كيلو مترات، وفي ديسمبر 2022 اعتبر القرار “الرئاسي” محور متحف الحضارة ضمن أعمال المنفعة العامة، ويربط المحور بين شارع صلاح سالم وحتى محور جيهان السادات، ووفقاً للقرارات الرئاسية أعلنت محافظة القاهرة العام الماضي، اعتزامها نقل عدد من المقابر بمحيط الإمام الشافعي والإمام الليثي، فضلاً عن نقل 1177 مقبرة بمسار كوبري السيدة عائشة الجديد.
في سبتمبر الماضي، اضطر السيسي، أثناء تفقده عدد من المحاور والطرق بالقاهرة، لنفي أي توجه من جانب الدولة لهدم مناطق أثرية تضم مقابر لشخصيات تاريخية، واصفاً ما يتردد عن هدمها بأنه “محاولة لتشويه ما يتم من جُهد”.
تناقضت تطمينات السيسي مع الواقع، فعلامات الإزالة (×) على المقابر التاريخية كانت مؤشراً إلى أن الدولة ماضية في خطتها لهدم المنطقة التاريخية والتراثية لصالح توفير مناطق لانتظار السيارات “جراج” وتحقيق السيولة المرورية، وقوبلت الخطة الحكومية بمعارضة من جانب المُهتمين بالتُراث، بالإضافة إلى الاستغاثات التي أطلقها ذوى الموتى.
في مواجهة الأصوات المعارضة لهدم المقابر التاريخية تحدث السيسي عن أنه سيتم إنشاء مقبرة بديلة في موقع مُناسب، لم يحدده، تكون بديلةً عن المقابر التاريخية التي سيتم هدمها، يُطلق عليها “مقبرة الخالدين”، بحيث يتم نقل رفات الشخصيات التاريخية إليها، على أن تتضمن المقبرة الجديدة متحفاً للأعمال الفنية والأثرية الموجودة بالمقابر الحالية.
تواصلت الدعوات لإنقاذ منطقة القاهرة التاريخية، لأنها لا تضم رفات شخصيات بارزة وتاريخية فقط، بل تُعد شاهدا على “العمارة الجنائزية”، ذات الطابع الأثري، التي لا يمكن استبدالها بمقبرة جديدة أو متحف.
في محاولة لاحتواء هذه المعارضة، تم تشكيل لجنة، برئاسة رئيس مجلس الوزراء مصطفى مدبولي، وتضم جميع الجهات المعنية والأثريين المختصين والمكاتب الاستشارية الهندسية في يونيو الماضي بتوجيهات “رئاسية”، لتقييم موقف نقل “الجبانات” من منطقة الإمام الشافعي والسيدة نفيسة، على أن تقوم اللجنة بدراسة البدائل المُتاحة، وتشكيل رؤية متكاملة وتوصيات، يتم إعلانها للرأي العام قبل يوم الأول من يوليو 2023.
خلُصت القرارات، التي توصلت إليها اللجنة، إلى ضرورة المحافظة على منطقة المقابر الأثرية وتطويرها، ورفض نقل أو هدم مقابر الإمام الشافعي والسيدة نفيسة والسيدة عائشة، وأوصت اللجنة بإلغاء مشروع المحاور، الذي كان مُقرراً إقامته في المنطقة، كونه غير ذي جدوي، حيث أنه لن يوفر سوى دقيقتين فقط في عمر السيولة المرورية، في مقابل تحقيق خسارة تاريخية في حالة هدم منطقة “الجبانات”.
على أرض الواقع، ضربت الدولة بتوصيات اللجنة عرض الحائط، حيث شهدت منطقة القاهرة التاريخية، خلال الأيام الماضية، هجمة شرسة من آليات الهدم، وواصلت البلدوزرات هدم عشرات المقابر بمنطقتي الإمام الشافعي والسيدة نفيسة، وبدأت الحملة بعد ساعات من اجتماع السيسي باللجنة المعنية بتقييم موقف الجبانات التاريخية، مما أدى إلى تقدُم عدد من أعضاء اللجنة باعتذرات عن استمرارهم في العمل باللجنة، في ظل أعمال الهدم الجارية، والتي تتعارض مع النتائج والتوصيات التي خلُصت إليها اللجنة.
في بيان لها، أدانت جمعية المعماريين المصريين أعمال الهدم الجارية بمنطقة القاهرة التاريخية، واصفة ما تتعرض له جبانات مصر التاريخية ب”التدمير الشامل الذي لم تشهده المنطقة مُنذ 14 قرناً مُنذ نشأتها”.
وأضاف البيان أن ما تتعرض له المنطقة لم تشهده حتى في فترة الاحتلال الأجنبي، ولم تتعرض له المنطقة أثناء الحروب والكوارث الطبيعية.
وأدانت اللجنة الثقافية بنقابة الصحفيين أعمال الهدم بمنطقة الجبانات، مطالبة بوقف أعمال الهدم بالمنطقة التاريخية.
ما تتعرض له منطقة القاهرة التاريخية، هو هدم للتاريخ، ولا يمكن تبرير هدم منطقة ذات طابع تاريخي، كمنطقة الجبانات بالقاهرة من أجل سيولة مرورية لن توفر سوى دقيقتين، أو لمجرد أن الجنرال يريد أن يبني “جراج” بالمنطقة، وبدلاً من تطوير المنطقة التاريخية والعناية بها، والاستفادة منها كمنطقة مزارات سياحية، تقوم السلطة العسكرية بهدم تاريخ هذا الشعب، فالعسكر لا يقدرون منطقة بها رفات لشاعر أو أديب أو فنان أو إمام، فالاحتلال لم يجرؤ على ما يقوم به الحكم العسكري الآن.
أنقذوا القاهرة التاريخية