بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

بورسعيد من طنطاوي إلى مرسي

مر عام.. بدأ بمأساة مقتل 74 من مشجعي النادي الأهلي في استاد بورسعيد إبان فترة حكم المجلس العسكري وانتهى تحت حكم مرسي بـ 21 محكوماً عليه بالإعدام و 43 قتيلاً وما يزيد عن الألف جريح أصيب ثلثهم بعجز كلي أو جزئي.

ولعل أهم ما يميز هذا العام أنه يبين وبشكل واضح كيف تطور وعي الشارع خطوة بخطوة نتيجة مجموعة من الصراعات والتي في مضمونها تمهد طريق الثورة إلى الأمام.

المجزرة الأولى
3 فبراير 2012، يلقى 74 شاباً من مشجعي النادي الأهلي مصرعهم على مدرجات وبوابات النادي المصري بعد أن فتحت قوات الشرطة بوابات الاستاد لمشجعي المصري للانطلاق تجاه مشجعي الأهلي محدثين حالة من الهرج كانت ساتراً لعملية قتل جماعي لألتراس أهلاوي الذي كان قد أصبح رأس حربة ومصدر رعب لقوات الشرطة في معاركها المختلفة ضد المتظاهرين، ناهيك عن أصواتهم المتعالية في مواجهة المجلس العسكري، لتكون الجريمة، على غرار مذبحة ماسبيرو، بمثابة ذريعة لشق صف الشعب وتحييده عن معركته الحقيقية، مجازر يكون فيها الشعب هو الضحية والمتهم. وبدت رسالة طنطاوي واضحة آنذاك “أنا مش عارف الشعب ساكت ليه؟!”، على حد قوله ليلة المذبحة.

كان هذا هو آخر ظهور للأمن آنذاك ببورسعيد، فمباشرةً بعد تلك المجزرة اختفى تماماً أي تواجد أمني ليُترك الشارع البورسعيدي يموج بتبعات المجزرة، من إنقاذ المصابين ونقل الشهداء ولجان شعبية لتأمين المستشفيات ومتطوعين لمساعدة الأطباء والطوابير الطويلة من المتبرعين بالدم، أقل ما تمكن الشارع البورسعيدي بذله تلك الليلة، ناهيك عن حالة الحزن العارمة في المدينة التي اتشحت شوارعها بالسواد، وانطلقت تظاهرات حاشدة تطالب بالقصاص وإسقاط حكم العسكر.

تم تدمير حلواني وكافيتريا العروسة المملوكة لجمال عمر، أحد أكبر رجال الأعمال ببورسعيد وشريك عائلة مبارك، لمجرد الاشتباه بضلوعه في المجزرة. بل وتهافت الناس بكل ما جمعوه من معلومات لمكتب أكرم الشاعر، عضو مجلس الشعب عن حزب الحرية والعدالة وعضو لجنة تقصي الحقائق، لإثبات تورط القيادات الأمنية في الحادث. وكان الهتاف المستمر بالشارع يطالب بالقصاص وبإسقاط المجلس العسكري والنظام، فيما ظلت الداخلية في حالة اختفاء تام من الشارع البورسعيدي.

مرت ثلاثة أيام تعمل فيها الماكينة الإعلامية للنظام بأقصى طاقتها تبث سمومها على كل القنوات الفضائية بمختلف توجهاتها، تحولت لبث خطاب التفرقة ومهاجمة الشارع البورسعيدي لتحييد الجماهير عن العدو والجاني الحقيقي ولتقسيم الجماهير إلى فرق متناحرة. توازى ذلك مع جموع الإسلاميين الذين جابوا الشوارع في بورسعيد لمنع الناس من الهتاف ضد المجلس العسكري أو النظام حتى لو وصل الأمر إلى الاشتباك البدني.

لم يكن هذا التوجه في بورسعيد فقط، فلا يمكن هنا أن ننسى تصفيق أعضاء مجلس الشعب، والذين كان أغلبهم من الإخوان والسلفيين، لوزير الداخلية عندما صرح أن الداخلية لا تمتلك الخرطوش، علاوة على هجومهم على المتظاهرين في محيط وزارة الداخلية ووصفهم بالبلطجية والمخربين، إلخ.

أكمل هذا السيناريو نفاق الأحزاب والقوى السياسية بالمحافظات لجماهير الأهلي على حساب الشارع البورسعيدي، وصمت تلك القوى في بورسعيد عن الهجوم الكثيف عليها، وكانت المحصلة بعد 5 أيام من المجزرة أن تحول الهتاف في الشارع البورسعيدي من هتاف بالقصاص وإسقاط حكم العسكر إلى هتاف وحيد يتحاشى به الشارع الهجوم من الإسلاميين والهجوم الإعلامي من الخارج وهو “بورسعيد بريئة، دي مؤامرة دنيئة”، وبهذا اكتمل سيناريو عزل بورسعيد وتحييد الشارع عن الجاني الحقيقي.

المجزرة الثانية.. والكفر بالنظام 
السبت 26 يناير 2013، وبعد لحظات من النطق بالحكم بتحويل أوراق 21 متهماً من متهمي مجزرة بورسعيد الأولى للمفتي، بدأت الداخلية مجزرتها الثانية على أرض بورسعيد.

كان أهالي المتهمين والمتعاطفين وعدد من ألتراس النادي المصري قد اعتصموا أمام سجن بورسعيد العمومي لا لشيء إلا لمنع ترحيل المتهمين للقاهرة خوفاً عليهم. لم يكن التجمهر حول السجن بهدف اقتحامه كما روّج الإعلام، بل كان بهدف منع خروج من هم بالداخل، أو ترحيلهم. وعلى كل حال، ليس الدخول للسجن بأيسر من الخروج منه؛ فالأسوار بارتفاع 10 أمتار يعلوها سلك شائك وبها الكثير من أبراج المراقبة، ناهيك عن أن مبنى السجن نفسه يبعد عن الأسوار بأكثر من 30 متراً. وللعلم، سجن بورسعيد هو السجن الوحيد الذي لم يتمكن أحد من اقتحامه إبان حالة الانفلات الأمني قبيل سقوط مبارك.

ومباشرةً بعد النطق بالحكم، سادت حالة من الهرج قام خلالها شخصان على دراجة بخارية بإطلاق النار تجاه مبنى السجن وكانت بمثابة إشارة البدء لتنفيذ المجزرة الثانية. بعدها بدأ القناصة في اقتناص كل من هو في محيط السجن ولمسافة تزيد عن الكيلو متر، وفي نفس الوقت قام الشخصان بإحراق سيارات البث التي كانت ستغطي تبعات الحكم من بورسعيد.

وبعدها بدأت المدرعات بمطاردة كل من يمشي على قدمين في أكثر شوارع بورسعيد حيوية، شارعي محمد على والثلاثيني، بحجة أنهم يقتحمون السجن أو أقسام الشرطة. هذا ما تم تصديرية في الإعلام في بادئ الأمر، في حين كان الواقع مخالفاً تماماً؛ فقد كان ما يحدث في بورسعيد أقل ما يوصف به أنه جريمة حرب. ففي خلال ساعات قليلة وصل عدد الشهداء إلى ٣١ شهيد، كلهم بطلق ناري في الرأس أو الرقبة أو الصدر، وما يقارب الـ٤٠٠ جريح. لم يكن الضحايا بلطجية؛ فمنهم القعيد ومنهم من ذهب ليحمل شهيداً آخر، ومنهم من تم قنصه وهو على المقهى، ومن كان فقط يعبر الشارع، وكثير منهم أبعد ما يكون عن محيط السجن والأقسام.

سقط في الساعة الأولى فقط في محيط سجن بورسعيد ما يزيد عن ٨ شهداء لينتشر الخبر بين أهالي بورسعيد الذين نزلوا إلى الشوارع بعد أن تيقنوا أن قوات الداخلية تمارس قتلاً ممنهجاً ضد أبنائهم، محاولين إيقاف تلك المجزرة، وتتحول بورسعيد إلى ساحة حرب بين الأهالي وقوات الداخلية التي بدأت في الاختفاء وإخلاء الأقسام – إلا من القناصة على الأسطح – واكتفت بالتحصن داخل السجن وبعض أقسام الشرطة لتستمر في قتل المواطنين العزل.

تحولت المدينة إلى مدينة أشباح إلا في أماكن الاشتباكات ومحيط المستشفي العام الذي كان يعج بالأهالي للبحث عن ضحايا أو مفقودين وعاشت بورسعيد ثاني أحلك أيامها بعد المجزرة الأولى.

وبنهاية اليوم اختفت قوات الداخلية من الشوارع تماماً وبدأ نزول قوات الجيش في نهاية اليوم، تلك القوات التي استقبلها الأهالي بتربص شديد ما أجبر قوات الجيش على تفادي الاحتكاك أو حتى مجرد التعامل مع المواطنين، واكتفوا بالتمركز – كالعادة – لحماية البنوك والمنشآت الحكومية.

في ثاني أيام المجزرة، خرجت بورسعيد عن بكرة أبيها لتشييع جثامين الضحايا، 31 شهيداً غير 7 من العاملين من خارج بورسعيد، ناهيك عن 21 محكوما بالإعدام في بلد لا يعتدي تعداده 800 ألف نسمة، في مشهد يجعلك تعلم أن أحداً لم يفقد عزيزاً أو لم يصب له صديق.

تستمر خسة الداخلية باستهداف الجنازة السلمية، فأثناء مرور الجنازة باتجاه المقابر والتي تقابل أندية وفنادق الشرطة والقوات المسلحة بدأ الاعتداء الغير مبرر أولاً بقنابل الغاز ثم بأعيرة حية فتسقط الجثامين على الأرض ويهرب المشيعون بالجثامين في مداخل العمارات، فحتى الجثامين لم تسلم من رصاص الداخلية، كما لو كانت مجموعة من الفيلات والشاليهات تفوق في أهميتها لدى النظام قدسية جنازة الشهداء. ويستمر القتل لليوم الثاني ليصل عدد الشهداء إلى 5، بالإضافة إلى 7 من مصابي اليوم السابق وزاد عدد المصابين ليتجاوز الألف.

ويخرج الرئيس مرسي في نفس اليوم ليشكر الشرطة ويحذر المواطنين مما هو أسوأ، فارضاً قانون الطوارئ والضبطية القضائية للقوات المسلحة وكذلك حظر التجول ليس على عموم مدن القناة وليس بورسعيد فقط. وهنا كان التحول الكلي من مواطنين رافضين لحكم قضائي أو ثائرين لمقتل أبنائهم على يد قوات النظام، إلى صراع شامل ضد السلطة وليس ضد الداخلية فقط. وكذلك بدا جلياً التحول من النزعة الاستقلالية والشعور بالاضطهاد الموجه ضد مدينة بعينها – بعد أن شمل حظر التجول والطوارئ عموم مدن القنال – ليعي الناس أن المواجهة هي ضد نظام يقتلهم ويقهرهم في كل مكان وليس بورسعيد وحدها. وساعد على هذا التحول السريع حالة التضامن الواضحة من المحافظات الأخرى لأهالي بورسعيد.

خرج الناس في تحد صارخ للنظام، بدأت المسيرات بعد الخطاب مباشرة وبشكل عفوي لتنقلب الآية وتتحول مدينة الأشباح إلى مدينة تعج شوارعها بالمسيرات التي تضم عشرات الألوف من البشر وتتعالى الهتافات ساخرة من نظام عاجز عن فرض إرادته ولا يملك سوى القتل والقمع. وفي الأيام التالية صارت الساعة التاسعة موعداً يومياً للتظاهر ضد النظام.

ساحة سياسية خالية من الكذب.. ولو مؤقتاً
كما تعلمنا الثورة، تصنع الجماهير وعيها بنضالها ومن خلال حركتها، فقد عاشت جماهير بورسعيد مثلها مثل غيرها من جماهير الشعب المصري في أوهام الديمقراطية البرلمانية، صمتت منتظرة أن يحقق لها أعضاء البرلمان آمالهم وطموحاتهم المشروعة في العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، قامت جماهير بورسعيد بالتصويت بكثافة في الانتخابات البرلمانية وأتى البرلمان بالإخوان المسلمين وحزب النور وبعض أعضاء الأحزاب الليبرالية، وتمر الأيام لتكتشف الجماهير زيف الأوهام البرلمانية وكذب كل القوى الإصلاحية وعلى رأسهم الاخوان المسلمين؛ فالظروف المعيشية من سيء إلى أسوأ والركود الاقتصادي هو سيد الموقف.

إلا أن القوى الاصلاحية قد انكشفت بشكل كامل أمام جماهير بورسعيد بعد أحداث استاد بورسعيد وما تلاها من تبعات وحتى صدور الحكم الكارثي، حيث الصمت المتواطئ من جانب الإخوان المسلمين ببورسعيد والنقاق السياسي الرخيص من جانب أحزاب جبهة الإنقاذ؛ فبينما يصرح كوادرهم في القاهرة بوجوب القصاص من جماهير النادي المصري إرضاءاً لألتراس أهلاوي، يصرح كوادرهم في بورسعيد بتمنياتهم القلبية بالبراءة لأبناء بورسعيد الشرفاء الذين قدمهم النظام كأكباش فداء، في مشهد يكشف لأبناء بورسعيد النفاق السياسي للجبهة فيختفي أي رصيد يذكر لهم في الشارع البورسعيدي حتي قبيل النطق بالحكم.

بعد النطق بالحكم، اختفى أعضاء الإخوان المسلمين وكل الأحزاب الدينية حتى من منازلهم تاركين الشارع يموج بثورته للحركات الثورية الأكثر راديكالية والأكثر اندماجاً في الشارع الذي عرفهم ووثق بهم بحكم تواجدهم الدائم في النضالات الشعبية.

إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة الآن: هل تنجح القوي الثورية في الاستفادة من اندماجها في الزخم الشعبي في ظل “الهروب الجماعي” للإصلاحيين؟ هل ننجح في تجذير الموجة الثورية وتطويرها؟ سؤال ليس له سوى إجابة واحدة.

نواة اللجان الشعبية والتمهيد لما هو قادم
رغم المحنة العصيبة التي عاشها أبناء بورسعيد إلا أنها تركت فيهم أثراً لن يُمحى، فبين ليلة وضحاها وجد الأهالي أن الشرطة التي يفترضون أنها تقوم بحمايتهم قد اختفت تماماً بعد أن مارست ضدهم عملية قتل ممنهجة استمرت ثلاثة أيام كاملة وأصيبت الحياة في المدينة بحالة من الشلل فرضت عليهم التفكير في ضرورة الاعتماد على أنفسهم لتسيير أمور حياتهم.

أدرك الناس أن مجرد الهتاف بسقوط النظام لن يكفي لسقوطه؛ فمن الضروري أن يخلقون نظامهم بأنفسهم، نظامهم الذي يخدم أمنهم ومصالحهم هم، بعد أن رأوا النظام لا يحمي سوي مصالحه ولا يراعي دمائهم ولقمة عيشهم. كان كافيا لديهم مشهد قوات الجيش التي كانت حريصة على التواجد أمام منشآت النظام في الوقت الذي كانت فيه أحيائهم السكنية خارج أي حسابات.

بدأت نواة تلك اللجان الشعبية في التشكل في مدينة بورفؤاد حيث دعا الاشتراكيون الثوريون وأهالي المدينة إلى البدء في ذلك في إحدى الفعاليات التي تم تنظيمها للمطالبة بالقصاص لدماء الشهداء واستكمال أهداف الثورة، وبدأ الأهالي بالفعل في الاستجابة وتسجيل أسمائهم للانضمام للجان التي لن تقتصر على الأمن فقط بل تتخطى ذلك لتشكيل لجان للإعاشة في حالات الطوارئ، ولجان أخرى لمراقبة الأسواق وضبط الأسعار لتكون تلك اللجان نموذجاً يُحتذى به في باقي المحافظات.

أدرك أبناء المدينة أن المعركة لازالت طويلة وأن اعتماد الجماهير على انفسهم وتنظيمهم ذاتياً هو السبيل إلى انتزاع الحقوق من نظام لا يعرف سوى مصالحه.