بورسعيد تلقن مرسي ونظامه درس العصيان

لم يكن ما شهده الشارع البورسعيدي من حراك جماهيري واسع ومنقطع النظير مستبعدا أو بالشيء المستَغرب، فبعد الجريمة التي ارتكبتها شرطة النظام إثر النطق بإحالة أوراق ٢١ من متهمي مجزرة استاد بورسعيد للمفتي في يناير الماضي، والتي أدت إلى استشهاد ٤٣ من مواطني بورسعيد الأبرياء العزل وما يزيد عن الألف جريح، حتى تصاعدت حالة الغليان وانطلقت الشرارة في تصاعد مستمر وخاصة مع ما تلى ذلك من توجيه مرسي الشكر للداخلية وتهديده للمواطنين بما هو أقسي من ذلك ثم فرض حظر التجول وتفعيل قانون الطواريء والضبطية القضائية لأفراد القوات المسلحة في مدن القناة. يحدث هذا في الوقت الذي تشهد فيه الحالة الاقتصادية ترديا ملحوظا يعصف بعموم الشعب المصري نتيجة سياسة التقشف التي تنتهجها حكومة قنديل.
ما لا يجب إغفاله أيضا لتكتمل الصورة، هو موقف الشارع من الأحزاب السياسية بمختلف توجهاتها. فعلي مدار عام كامل لامس المواطن البورسعيدي المواقف الانتهازية للأحزاب السياسية وعدم تواجدهم في الشارع وكذلك عدم تأييدهم لمطالب الشارع الحقيقية، ناهيك عن حالة العداء تجاه أحزاب الإسلام السياسي والتي اختفت تماما من المشهد في بورسعيد. وهو ما بدا جليا في فض الجماهير لاجتماع المحافظ مع مكاتب الأحزاب في المحافظة عند النظر في تحديد مدة حظر التجول في الوقت الذي كان رد فعل الجماهير بخصوص الحظر واضحا، وكذلك رفضت جماهير بورسعيد مؤتمر جبهة الإنقاذ الذي كان مقررا عقده في كل من بورسعيد والسويس والمحلة، ما دفع جبهة الإنقاذ للإعتذارعن تنظيم المؤتمر في بورسعيد معللين إلغاءه بالحالة الأمنية كمحاولة لحفظ ماء الوجه جراء رفض الشارع تواجدهم في بورسعيد.
لتكون المحصلة في النهاية أن الشارع يخوض معركته ضد النظام منفردا وبشكل مباشر وعفوي بعيدا عن معادلات الأحزاب السياسية ومصالحها. ولمزيد من الدقة فإن الجماهير في بورسعيد رفضت الأحزاب بسبب مواقفها وليس رفضا للسياسة من الأساس فالجماهيرمازالت تستمع وتؤيد أي خطاب سياسي يلامس متطلباتها ومصالحها.
كما ذكرنا آنفا أن حجم الحراك الجماهيري وما شهدته المحافظه من عصيان مدني وتضامن قطاعات واسعة من الموظفين والعمال لم يكن مستغربا، فإن جرائم الداخلية لم تترك بيتا أو مواطنا إلا وطالته. لكن الجديد هنا أن من أطلق الشرارة الأولي للعصيان ومحركها الأكبر والذي ظل متماسكا في عصيانه حتى هذه اللحظة هو قطاع الطلاب ومعهم معلميهم، كون معلمي بورسعيد هو أكبر قطاع يمتلك تنظيما ذاتيا ليس نقابيا ولكن تحت مسمي ائتلاف معلمي بورسعيد. هذا بالطبع إلى جانب أهالي الشهداء والمصابين والمتهمين بالمجزرة الأولي وكذلك ألتراس النادي المصري.
هكذا بدأ العصيان
في الخامس عشر من فبراير الماضي وجه طلاب الثانوية العامة وأقران الطالب الشهيد أحمد سامي دعوة للعصيان وتعطيل الدراسة لحين القصاص لزميلهم الفقيد تحت مسمي “القصاص قبل التعليم” على أن يبدأ عصيانهم في السابع عشر من الشهر ذاته الموافق أول يوم عودة للدراسة بعد إجازة نصف العام، وفي الوقت ذاته كان أهالي الشهداء معتصمين في ميدان الشهداء- المسلة- وشوارع بورسعيد لا تخلو من مسيرات الأهالي العفوية على مدار الساعة.
وبالفعل في أول أيام العصيان تجمع طلاب بورسعيد بالزي المدرسي ومعهم معلميهم في السابعة صباحا أمام مدرسة بورسعيد الثانوية العسكرية الموجودة بميدان المسلة بحضور أهالي الشهداء والمصابين، ومع بدء المسيرات احتكت بهم سيارة شرطة وقامت بصدم طالبين ما أدي إلى حالة غضب شديد من الجماهير دفعتهم إلى تحطيم سيارة الشرطة في حين لاذ الضباط بالفرار، وكانت النتيجة أن ازداد تجمع الأهالي بالميدان.
ومع بدء تحرك المسيرات في محيط الميدان، الذي يضم مباني المحافظة والمحكمة والسنترال الرئيسي والغرفة التجارية، انضم للطلاب جميع موظفي هذه الهيئات الحكومية، لم يرغمهم أحد على النزول أو إيقاف العمل بل أعلنوا انضمامهم للعصيان مدفوعين بما مرت به المحافظة من تجربة أليمة، ومطالبين بالقصاص لدماء أبنائهم.
ومع تحرك المسيرات في شوارع بورسعيد المختلفة وبانضمام عمال كل هيئة وقطاع وظيفي تمر به المسيرات، كانت المصالح الحكومية بحلول الحادية عشر ظهرا خاوية من موظفيها الذين شاركوا في العصيان. ليس فقط الموظفين بل كل أصحاب المحال التجارية في منطقتي التجاري والثلاثيني ووسط البلد أغلقت أبوابها ونزلت للمشاركة في المسيرات. وفي الوقت ذاته توجهت مسيرة من الألتراس إلى بوابة منطقة الاستثمار داعين عمال مصانع الاستثمار للانضمام للعصيان والذين استجابوا مباشرة انضموا للمسيرات. فيما استمرت رسائل وبيانات قطاعات وهيئات أخري تعلن تضامنا مع العصيان، منهم مصانع القناة للحبال وعمال هيئة قناه السويس وعمال ترسانة قناة السويس وعمال حاويات بورسعيد
اعتصام شرق التفريعة والإدارة الذاتية في بورفؤاد
لعل من أبرز فاعليات العصيان المدني ببورسعيد وأشدها تأثيرا وإيلاما للنظام هو اعتصام طريق شاحنات ميناء شرق بورسعيد الذي استمر لمدة 6 أيام كاملة، وهو أحد أكبر موانيء الترانزيت في الشرق الأوسط والذي يعمل بقوة 1000 حاوية كل 3 ساعات. في ذلك الاعتصام ضرب الأهالي أروع النماذج في الإدارة الذاتية ممثلة في اللجان الشعبية ببورفؤاد،حيث عمل الأهالي بمشاركة عدد من الاشتراكيين الثوريين ببورسعيد على تنظيم وقفة احتجاجية باللافتات على طريق شرق التفريعة بدأت في الثانية بعد ظهر التاسع عشر من فبراير واستمرت حتى الثانية عشر من مساء ذلك اليوم، وبقي 8 مواطنين في إنتظار الباصات التي تقل عمال حاويات شرق التفريعة لدعوتهم للانضمام للعصيان. وفي الخامسة والنصف من صباح اليوم التالي جاءت السيارات التي تقل العمال وفي مقدمتها مدرعتان حربيتان وسيارتي شرطة عسكرية لتأمين عبورهم إلى الميناء، ومع بدء الأهالي دعوة العمال للانضمام للعصيان احتكت بهم عناصر الجيش وقاموا بسحل رجلا مسنا أمام أعين العمال، ما دفعهم للنزول من الباصات وإنقاذ الرجل من أيدي قوات الجيش والجلوس على الأسفلت معلنين انضمامهم للعصيان، حتى توقف العمل بمحطة الحاويات في صباح العشرين من فبراير.
لكن الفائدة الأعظم من هذا الاعتصام هو ما نتج عنه من تنظيم ذاتي أكثر لأهالي بورفؤاد واكتساب ثقة أكثر في الرقابة والسيطرة على الأمور في مدينتهم، فمع استمرار إغلاق الطريق قام المعتصمين بإيقاف عدد من السيارات التي تهرب الخبز والسولار، ما دفعهم لزيادة عدد الحملات التي يقومون بتنظيمها للرقابة على المخابز ومحطات الوقود في المدينة، وهو ما أكسبهم ثقة الناس أكثر ورؤيتهم لبديل التنظيم الذاتي كبديل فاعل، في ظل إنعدام تواجد الأمن أو أذرعة النظام الحكومية.
كل هذا وما تزال هذه اللجان الشعبية في طور الجنين وأمامها الكثير من المعارك لتتطور وتتماسك أكثر، مع أنها أبدت تماسكا جيدا في مواجة محاولات الأجهزة الأمنية في إختراق الاعتصام.
الضغط على عمال الاستثمار ونتائجه العكسية
علي عكس موظفي الحكومة والمثبتين الذين يتمتعون بدرجة من الأمان الوظيفي وضمان الراتب، كان عمال الاستثمار يعانون كونهم غير مثبتين ولا يتمتعون بأي ضمانات وظيفية تمنحهم قدر من الاطمئنان والاستمرار في العصيان برغم مشاركتهم القوية وشبه الكاملة مع الأيام الأربعة الأولى من العصيان. فمع استمرار العصيان بدأت إدارات مصانعهم تمارس عليهم ضغطا كبيرا للعودة للعمل ساعات إضافية بعد العودة من المسيرات، فكانت المصانع تعمل من السابعة لحين بدء المسيرات في العاشرة ثم تأمرهم بالعودة بعد الثانية لمتابعة العمل، وهو ما رفضه العمال في البداية، لكن تحت ضغط إدارات المصانع المستمر وتهديدات بتسريحهم في خطابات رسمية لهيئة الاستثمار، إنصاع العمال تحت ضغط احتياجهم لرواتبهم الغير مضمونة. وبرغم انصياعهم الظاهري إلا أن مطالبهم الاجتماعية تم الزج بها في بياناتهم التضامنية مع العصيان بعدما شعروا بحالة عدم الأمان الوظيفي الذي هو جزء من السياسات الاقتصادية للنظام.
الرد على مطالب الشارع البورسعيدي: الصمت أو الرشوة
ومع دخول العصيان في بورسعيد أسبوعه الثاني لم يلاقي الشارع أي رد فعل من النظام تجاه حالة الغليان في بورسعيد سوى الصمت المطبق ما عزز حالة الكفر بالنظام لدي الجماهير، ومع محاولات النظام للتهدئة في بورسعيد كان عرضه يشبه رشوة الأهالي بالمنطقة الحرة ومبالغ من دخل القناة. وهو ما أثار غضب المواطنين أكثر، فمن جهة كان رد الشارع بأن المطلب الأول للعصيان هو القصاص من قتلة الشهداء في مذبحتي بورسعيد الأولى والثانية، ومن جهة أخرى فإن الأموال التي يرشونا بها مرسيهم من يصنعونها بالعمل في القناة، كما جاء الرد على عودة المنطقة الحرة واضحا ليكشف حجم الزيف الذي يمارسه مرسي بوعوده الخادعة، فالمنطقة الحرة لا تعني شيئا، وفي النهاية تذهب بطاقات الاستيراد لمن لديه القدرة على شراءها من رجال الأعمال والمستثمرين فقط وليس عموم الجماهير الفقيرة.
لم يزل نزيف الدم مستمرا وتشييع الجثامين مستمرا حتى لحظة كتابة هذه السطور، ولم يستطع النظام أن يقدم حلا حقيقا للجماهير، في ظل هذه الحالة من الثبات وكفر الجماهير بالنظام وبدء أنوية التنظيم الذاتي مثلما شهدنا في حالة قسم شرطة محمد على الذي رفع شعار “الشعب في خدمة الشعب”، في ظل ذلك لا يجد النظام في بورسعيد وعموم محافظات مصر الآن سوى الحل الأمني والقمعي، في ظل هذه الحالة من السيولة يجب علينا أن نعي أهمية الانخراط وسط الجماهير خاصة ونحن بصدد موجة اجتماعية أخري مع بدء تطبيق الشرائح الكبرى من سياسة التقشف.