أحاديث مصر الثورية
دروس من التاريخ للانتفاضة القادمة
الدكتور علي بركات، أستاذ التاريخ الحديث بجامعة حلوان والعميد الأسبق لكلية الآداب بجامعة المنصورة، واحد من روّاد المدرسة المادية في التاريخ، وله إسهامات كثيرة في التاريخ الاجتماعي لمصر الحديثة، من أهمها مرجعه المتميز عن تاريخ ملكية الأرض في مصر في القرن التاسع عشر وحتى الحرب العالمية الأولى، بالإضافة إلى دراساته النقدية لتاريخ الجبرتي والخطط التوفيقية لعلي مبارك. في هذا الحوار يقدم الدكتور بركات خلاصة رؤيته لمصر الثورية ماضيا وحاضرا، ويطرح، من قلب درس التاريخ، رؤيته لتناقضات الثورة المصرية عبر قرنين من الزمان.
* أنت أحد مؤسسي المدرسة المصرية في التأريخ الاجتماعي، فكيف تشّكلت قناعاتك؟ وكيف تبلور منهجك الفكري؟
قبل نكسة 67 كنت عضوا في منظمة الشباب، وأحد أعضاء السكرتارية المركزية للمنظمة. وكذلك كنت في لجنة التثقيف مع عبد الغفار شكر. هذه الفترة هي التي تسببت في انعطافي ناحية الفكر الاجتماعي، بالإضافة بالطبع لأصولي الاجتماعية. فأنا من عائلة فلاحية، وهذا ما جعلني مؤهلا للاهتمام بتاريخ الفلاحين. غير أن نقطة الانعطاف الأهم ناحية الفكر الاشتراكي جاءت كما قلت مع انخراطي في منظمة الشباب، فضلا عن تتلمذي على أيدي الدكتور محمد أنيس أثناء إعدادي لرسالة الدكتوراه، وهو معروف بالطبع بفكره اليساري.
في منظمة الشباب، وأثناء عملي بالتثقيف، كان مطلوبا مني قراءة كم كبير من الكتب والدراسات. هذا الزاد الفكري هو الذي بلور مواقفي الفكرية والسياسية. خلال هذه الفترة لم أكن ماركسيا بالشكل التقليدي، بل كنت أتعامل مع الماركسية كعلم ينبغي أن يُقرأ كما تقرأ العلوم الأخرى. لم أكن أتعامل مع الماركسية كأيديولوجيا، ولكن كنت أراها فلسفة لدراسة التاريخ وعلم الاجتماع، فلسفة متقدمة وجديرة بالاحترام. وفي هذا السياق قُدّر لي أن أحضر دورات في المعهد العالي للدراسات الاشتراكية، وكان يقوم بالتدريس فيها الدكاترة إبراهيم سعد الدين وفوزي منصور ونخبة من جيل الرواد.
* وبعد انتهاء تجربتك في منظمة الشباب، هل توقفت مساهمتك في العمل العام؟
ما حدث هو أن هزيمة 67 كانت صدمة قاسية. لم أنسحب وقتها من العمل السياسي، فقد كان لدي إحساس أن المعركة لم تنته وأنه مازال لدينا دورا لنلعبه. ولكن في 1969 بدأت أقارن بين الاستمرار في العمل الأكاديمي الذي كنت قد بدأته، وبين مواصلة العمل السياسي بالشكل الذي كنت أقوم به في منظمة الشباب، فرأيت أنه من الأفضل أن أتفرغ للعمل الأكاديمي. كنت وقتها قد شرعت في الإعداد لرسالة الدكتوراه، فاستشرت أمين الشباب (الدكتور مفيد شهاب) في الأمر، وكان القرار أن أنسحب، مع وعد بالاستمرار لبعض الوقت مع السكرتارية المركزية. لكن بعد أن مات عبد الناصر، شعرت أن أشياء كثيرة ستتغير، فانسحبت كلية في هدوء.
* في رأيك ما هي الملامح الرئيسية لمدرسة التاريخ الاجتماعي؟
لدى جيل الرواد، أساتذتنا في التاريخ، كانت مدرسة التاريخ السائدة هي كتابة التاريخ من منظور سياسي، وهذه المدرسة لها جذور في المدرسة الألمانية التي تقول بأنه لا يوجد تاريخ بغير وثائق.
لكن هذا يطرح السؤال: وعمن تتحدث الوثائق؟ الوثائق تتحدث أساسا عن الثروة، عن السلطة، وعن الحكم. فكما نعلم، أوراق الدولة ـ والدولة هي الصانع الأول للوثائق ـ تتناول الأمور من وجهة نظر السلطة. فإذا اعتبرنا أنه لا تاريخ بغير وثائق، إذن فنحن نكتب تاريخ أصحاب السلطة وأصحاب الثروة، مهملين تاريخ الناس العاديين من عمال وفلاحين..
مدرسة التاريخ الاجتماعي لها توجه آخر. فلأنها تسعى إلى كتابة تاريخ القوى الاجتماعية وليس السلطة، فهي تبحث عن مصادر أخرى، بعضها هو الوثائق، لكن بمنظور ومنهج آخر. ومثال ذلك المحاولة التي قمت بها بالبحث في حجج الملكية التي توضح من يقوم بالبيع والشراء، وما الذي تم بيعه، وما هي أصول الثروات وتاريخ مالكيها. وكذلك هناك الرواية الشفاهية، وهي مصدر آخر يمكن الاعتماد عليه في بعض الحالات.
هذه النوعية من المصادر لم تكن مطروحة من قبل. ولذلك يمكننا القول بأن التاريخ الاجتماعي يزيد من دائرة المصادر.
* في هذا السياق، ما هي قراءتك لتطور الدراسات التاريخية في مصر في العصر الحديث؟
بداية أنا لا أتفق مع من يقولون أنه كان هناك علم للتاريخ عند العرب. لم يكن هناك “علم” للتاريخ، بل كان هناك نوع من المعرفة أو التسجيل للتاريخ. فحتى مقدم العصر الحديث، لم يكن التاريخ يدرّس كعلم. ربما درّست السيرة النبوية في الأزهر، ولكن هذا كان جزءا من العلوم الدينية. أما عدا ذلك، فلم تكن هناك دراسة للتاريخ أو تدريسا له.
المرة الأولى التي يتم تدريس التاريخ فيها في مصر كانت في عصر محمد علي (سنة 1832) بمدرسة التاريخ والجغرافيا التي تحولت بعد ذلك إلي مدرسة الألسن. بعد ذلك أصبح التاريخ يدرّس في مدرسة دار العلوم، وينسب إلى محمد عبده أنه كان يدرّس التاريخ، وكذلك مقدمة ابن خلدون، وهو ما يعني أنه كان مهتما بالتاريخ الاجتماعي بالتحديد.
أما المؤرخون المحترفون، وأعني بهم الذين درسوا التاريخ أكاديميا ودرسّوه في الجامعة، فقد كانت لهم أدوات ومعايير مختلفة عن المؤرخين الهواة السابقين من أمثال الجبرتي وعلي مبارك وغيرهم من المؤرخين منذ بداية الحضارة الإسلامية. في هذه المرحلة، التي أصبح التاريخ فيها علما، نجد أن الرواد الأوائل اهتموا أساسا، كما قلت سابقا، بالتاريخ السياسي على حساب التاريخ الاجتماعي والاقتصادي. وهذا له أسبابه.
أول هذه الأسباب أن هذه المجموعة من الأساتذة الأكاديميين، وعلى رأسهم شفيق غربال، تعلموا في الغرب وتأثروا بمدرسة “الرجل العظيم”، وهي مدرسة في التاريخ تركز على الأبطال بوصفهم صنّاع الأحداث، وهذا بالطبع ما دفعهم ناحية التاريخ السياسي بوصفه مجال ظهور الأبطال. حتى محمد صبري السربوني، الذي كان يري أن الثورة هي أداة مهمة للتغيير، والذي كتب عن ثورة 1919، كان يعتقد أن الأبطال الحقيقيون للثورة هم قادتها وليس الجماهير.
السبب الثاني هو أنه عندما عادت تلك المجموعة من أوروبا، وجدت أن من يقوم بتدريس التاريخ في الجامعات المصرية هم أساتذة أجانب، فانشغلت بتمصير عملية تدريس التاريخ، أي بأن تحل محل المدرسين الأجانب. وكان مجهودهم هذا جزءا من نضال أوسع خاضه الأكاديميون المصريون في مختلف المجالات، ومن هؤلاء مصطفي مشرفة وسليم حسن وكذلك شفيق غربال. هؤلاء خاضوا معركة لتعريب وتمصير مهنة التدريس، ليصبح أول عميد مصري لكلية الآداب هو طه حسين وأول عميد مصري لكلية العلوم هو مصطفي مشرفة وأول عميد مصري لكلية الطب هو إبراهيم حسن.
السبب الثالث سياسي، وهو أن المسألة الوطنية، أي النضال ضد المحتل الأجنبي، كانت القضية المركزية لفترة ليست قصيرة، وذلك بالمقارنة بالقضية الاجتماعية. من هنا فإن المؤرخين اهتموا بكتابة التاريخ السياسي للنضال ضد الاحتلال.
أما بعد الحرب العالمية الثانية، وبعد أن حققت معاهدة 1936 استقلالا شكليا، فإن الظروف أصبحت ناضجة لإعطاء وزنا مركزيا للمسألة الاجتماعية بجانب المسألة الوطنية. اللجنة الوطنية للطلبة والعمال كانت تعبر عن هذا الامتزاج والتطور، مما أعطي الحركة الوطنية مضمونا اجتماعيا إلي حد ما.
في هذه المرحلة ظهرت مجموعة من الدراسات في التاريخ الاجتماعي كتبها عدد من أقطاب اليسار، مثل الدراسة التي كتبها إبراهيم عامر عن الفلاحين، وكذلك كتاب شهدي عطية الشافعي عن الحركة الوطنية، وبرغم أن الكتاب الأخير يتناول القضية الوطنية، وهي قضية سياسية، إلا أنه يتناولها من منظور اجتماعي، فكتابة التاريخ الاجتماعي ليست بالضرورة كتابة عن التطورات الاجتماعية، وإنما هي كتابة عن مختلف الموضوعات من منظور اجتماعي، هذا هو المقصود.
تقاطع هذا مع اندلاع ثورة يوليو التي مثلت إضافة حقيقية. فبعد 1952 انتشرت الأفكار الاشتراكية. وفي أوائل الستينات، عندما طُرح الميثاق الوطني، وقد كان بمثابة ترجمة مصرية عربية للنظرية الاشتراكية، وقيل فيه أننا لا نأخذ النظرية بشكل حرفي، ولكننا نستند إليها ونستفيد منها، فإن هذا صنع نوعا من الجدل المفيد في الأوساط الفكرية والأكاديمية، جدل يدفع نحو البحث والمعرفة، وهو من الأمور التي ساعدت آنذاك على إنعاش الدراسات في مجال التاريخ الاجتماعي.
* هناك من يقول أن نهضة مصر الوطنية الحديثة هي صنيعة محمد علي. وهناك من يرى في المقابل أن هذا الأخير هو مجرد حاكم عثماني أجنبي. فما هو تقييمك لمرحلة محمد علي؟ وما هي رؤيتك لعملية تحديث مصر في عصره؟
بداية، القول بأن محمد علي كان حاكما أجنبيا قول غير صحيح. فالمواطنة في مطلع القرن التاسع عشر كانت مواطنة عثمانية وليست مصرية أو حجازية أو شامية. وبما أن محمد علي كان ألبانياً، وألبانيا كانت من ولايات الدولة العثمانية، فإنه كان مواطنا عثمانيا يحق له، بشكل طبيعي، أن يتنقل بين الولايات. أما كون محمد علي بلا أصول مصرية، فهذه نقطة أخري، فالسلطة في مصر لم تكن مصرية على مدى فترة طويلة.
الأمر الثاني هو أن مصر، عندما جاءها محمد علي ضمن الوحدات العثمانية التي قدمت لطرد الفرنسيين، كانت قابلة للتغيير ومستعدة له. إرهاصات هذا التغيير كانت قائمة منذ النصف الثاني من القرن الثامن عشر. فكتاب وصف مصر مثلا يذكر أن القاهرة كان بها نحو 10 آلاف تاجر يعملون في تجارة البحر الأحمر، أي في التجارة الدولية. الكتاب كذلك يذكر أن الشواربي، وهو أحد كبار التجار، كان لديه أسطول من ثلاثة سفن تجارية، وكذلك كانت لديه خانات (أي لوكاندات) وحمامات. أما المحروقي، وهو تاجر مصري آخر، فقد موّل أبوه ثورة القاهرة الثانية، بينما موّل هو حملة الحجاز أيام محمد على سنة 1811، وهو ما يدل على سعة الثراء وبحبوحة العيش.
ومسألة تمويل أحد كبار التجار لحملة الحجاز مسألة ذات دلالة. ذلك أن استخلاص الحجاز من السيطرة العثمانية، ووضعها تحت السيادة المصرية، يفتح طريق التجارة مع الهند، وهو ما يحقق مصالح طبقة كبار التجار المصريين آنذاك.
على جانب آخر، يمكننا أن نلاحظ كمّ الرضا الذي رصد به الجبرتي، في تاريخه، محاولة علي بك الكبير للانفصال بمصر عن الدولة العثمانية. رضا الجبرتي يعكس رضا شعبي أوسع عن هذه المحاولة، منبعه التململ تجاه السلطة العثمانية والرغبة في الانفصال عنها.
كل هذه المؤشرات عكست تأهب مصر للتغيير قبيل صعود محمد علي إلى السلطة. وحالة الصراع على السلطة التي سادت البلاد من 1801 حتى 1805، والتي فشل في سياقها العثمانيون أو المماليك في فرض سلطتهم على مصر، أكدت أن هناك نوع من الرفض لأن تعود مصر إلي ما كانت عليه قبل الحملة الفرنسية. فالمماليك كانوا يريدون العودة للحكم منفردين ومستقلين عن الدولة العثمانية، وساندتهم في هذا إنجلترا. أما العثمانيين فقد كانوا أيضا يريدون استعادة مصر معتمدين على قوتهم الممثلة في 30 ألف جندي وأسطول في البحر المتوسط. لكن لا هؤلاء ولا أولئك نجحوا في تحقيق مطامحهم.
* وكيف إذن وصل محمد علي إلى السلطة؟
الذي حدث هو أنه في 1804 انفرد جناح من المماليك، مؤقتا، بالسلطة بقيادة مملوك اسمه البرديسي. حاول البرديسي فرض ضرائب جديدة. لكن القاهرة كلها خرجت في ثورة عارمة تهتف الهتاف المشهور “إيه تاخد يا برديسي من تفليسي؟” وقد ساعدت هذه الثورة محمد علي في القضاء على 350 من المماليك فيما سمى بانقلاب مارس لإسقاط حكم المماليك.
وفي العام التالي، 1805، حاصر أربعين ألفا من القاهريين القلعة لمدة ثلاث شهور حاملين سلاحهم ومطالبين بإسقاط الوالي خورشيد باشا وتعيين محمد على واليا على مصر. فاستجاب السلطان العثماني، وأرسل رسولا إلى مصر يحمل رسالتين: الأولي تولي محمد على وتعزل خورشيد، والأخرى تؤيد خورشيد وتثبته في حكمه لو بدا أنه قادر على صد غضبة الناس! وبما أن الرسول وجد أن الموازين تميل في صالح محمد علي، فقد أخرج الرسالة الأولى التي تولّي محمد علي على مصر.
في هذه الأثناء كانت قوات محمد علي تنسحب من بعض المواقع لتحكم حصارها على خورشيد باشا المتمترس في القلعة. ولسد الثغرة التي تركتها قوات محمد علي، تقدم أهالي الحسينية، بقيادة واحد من عامة الشعب اسمه حجاج الخضري، ونظموا أنفسهم في ميليشيا صدت هجوم قوات خورشيد التي نزلت من القلعة في محاولة لفك الحصار المضروب عليها من هذه الثغرة. كل هذا تم تحت قيادة أحد العلماء، هو السيد عمر مكرم، الذي أبلغه جواسيسه داخل القلعة بمحاولة خورشيد فك الحصار، والذي أمر بوضع أحد مدافع الحملة الفرنسية على مئذنة جامع السلطان حسن استعدادا لضرب القلعة. والخلاصة: يستسلم خورشيد باشا وتسقط ولايته ويصعد محمد علي للحكم.
أردت أن أقول من هذا كله أن محمد علي وصل للسلطة في سياق ثورة شعبية عبرت عن رفض المصريين عودة الأمور إلى حالها قبل الحملة الفرنسية. أردت كذلك أن أقول أن من يدّعون أن هبات الشعب المصري غير منظمة عليهم أن يقرءوا هذه الأحداث جيدا، وأن يطّلعوا على الوثائق الفرنسية التي تحدثت قائلة أن الميليشيات الشعبية التي شاركت في حصار القلعة كانت شبيهة، في درجة تنظيمها وتأثيرها، بقوات الحرس الثوري في الثورة الفرنسية، وأنها كانت تعمل وفق نظام نوبتجيات وإعاشة دقيق.
* أحد النقاط المفصلية في تاريخ مصر بعد سقوط مشروع محمد علي التحديثي كانت الثورة العرابية. ما هي رؤيتك للثورة العرابية؟ ولماذا هُزمت؟
الثورة العرابية واحدة من أهم أحداث القرن التاسع عشر. وقد لعبت نتائجها دورا كبيرا في تحديد التطورات في المجتمع المصري في القرن العشرين.
أحد اللحظات الحاسمة في الثورة أتت عندما انحاز الخديوي توفيق إلى قوى الاحتلال، ووضع نفسه تحت حماية الأسطول الإنجليزي في الإسكندرية. انسحاب الخديوي أحدث فراغا في السلطة. ولمواجهة هذا الموقف، وبحركة شبه تلقائية، تكونت جمعية عمومية من 250 عضوا يمثلون الفئات المختلفة للمجتمع: الطوائف الدينية، كبار الموظفين، العسكريين، وأعضاء مجلس شوري النواب.
هذه الجمعية انعقدت مرتين. في المرة الأولي خرجت بقرار إرسال دعوة للخديوي توفيق للحضور لمناقشة الأوضاع الجديدة. وعندما رفض الخديوي الحضور انعقدت الجمعية مرة أخري واتخذت قرارات في منتهي الخطورة والأهمية: أولها توقيف أوامر الخديوي (ليس عزله، وإنما فقط توقيف أوامره)، وثانيها تكليف أحمد عرابي باتخاذ الإجراءات اللازمة للدفاع عن البلاد، وثالثها تشكيل مجلس عرفي كبديل عن مجلس الوزراء يصبح هو السلطة التنفيذية أو مجلس الوزراء.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: ممن تشّكل هذا المجلس العرفي؟ المفارقة أنه تشّكل من الطبقة التي ثار الشعب المصري والجيش ضدها، طبقة الأتراك والجراكسة!
التناقض بين جذرية الجمعية العمومية ومهادنة المجلس العرفي هو ما يشرح لنا التطور المأساوي للأحداث. فعندما هُزم عرابي في معركة التل الكبير، وبعد ذلك انسحب تجاه القاهرة، قام بوضع خطة لحمايتها وتوقيف زحف الجيش الإنجليزي، وذلك بتفجير قناطر البحر الكبير لإغراق الدلتا، وبقطع خطوط السكة الحديد لمنع تقدم القوات الغازية. هذه الخطة كانت هناك أوامر لتنفيذها. لكن المجلس العرفي أوقف التنفيذ.
نحن لا نعلم بالضبط ما دار في المجلس العرفي. لكن ما نعرفه بالتأكيد هو أن بعضهم قال لعرابي داخل المجلس: “نحن لنا مصالح في هذه البلد التي تقوم أنت بتخريبها الآن”.
من ناحية أخرى اتخذ عرابي قرارا بتشكيل قوة حرس وطني، من فقراء المدينة والعاطلين عن العمل، لحماية القاهرة. هنا أيضا رفض المجلس العرفي القرار وقال: نحن “لا نأمن على أنفسنا من تسليح الرعاع”.
هكذا كان المجلس العرفي، الذي يضم ممثلي الطبقات المالكة والحاكمة، متناقضا مع القيادة التي تقود الدفاع عن البلد. بل إن هناك باحث ألماني توصل إلي أن يعقوب سامي الذي ترأس المجلس، وهو من أصل جركسي، كان يلعب دورا مزدوجا: يقود معسكر الثورة من الداخل، وفي الوقت ذاته يطلع الخديوي على كل تفاصيل ما يحدث، وقد قام بدور أساسي في إقناع حملة كفر الدوار بالتسليم!
وبالمناسبة، فإن نفس هذه التناقضات، وهي تناقضات ناتجة عن صراع المصالح الاقتصادية والاجتماعية، كانت موجودة داخل قيادة ثورة يوليو. التصورات الفكرية المجردة عن العملية الثورية شيء، وواقع الصراع شيء آخر. فالجملة التي قالها شمس بدران لجمال عبد الناصر بعد 67، وقت محاولة المشير عامر الانقلاب، تتطابق تماما مع ما قيل لعرابي في المجلس العرفي: “إنت خربت البلد!”.
* لكن السؤال المهم هنا هو: هل كان حتميا أن ينهزم عرابي؟ وهل من الحتمي هزيمة المعسكر الساعي إلى تعميق الثورة؟
لا ينبغي أن نتخيل أن التطورات في العملية التاريخية تحدث بنفس سهولة تغييرنا لقنوات التليفزيون. فهناك فترات في التاريخ تثار حولها تساؤلات بلا أجوبة. وعلى وجه العموم طرح الفروض الجدلية منهج غير جيد في فهم التاريخ.
لكن رغم ذلك هناك بعض النقاط التي يمكن ذكرها في هذا الموضع، منها أن بعض الفلاحين الذين استولوا على أراضي كبار الملاك أثناء الثورة ظلوا يقاومون الهزيمة حتي 1883، أي أن العملية الثورية كانت أعمق وأطول مما يتخيل البعض.
كذلك فهناك المسألة المركزية في كل الثورات، أقصد مسألة “أصحاب المصالح”. فبعض القوى، في غمار صراع القوى الاجتماعية الذي يميز أي ثورة، تفضل مصالحها الشخصية على المصلحة العامة. أحد العناصر الرئيسية في شرح اصطفاف القوى أثناء الثورة العرابية كان أن الملاك والتجار قالوا أن الإنجليز قوة غير هينة وأنهم قادرون على هدم القاهرة والإضرار بمصالح وممتلكات الكثيرين منهم.
ثم هناك البعد الخاص بالشرعية والثورة. فالخديوي كان يمثل السلطان العثماني الذي كفّر عرابي وأعلن أنه ومن معه خارجون على الشرع، ليبدو هنا الصراع كصراع بين سلطة الشرعية وسلطة الثورة. أما الإنجليز فقد أعلنوا أنهم قادمون لتثبيت سلطة الوالي الشرعية، ولإعادة الأمن للقاهرة لأن مصر بها حالة فوضي تهدد مصالح الأجانب وتستدعي التدخل.
هذا ربما يساعدنا في تفسير هزيمة الثورة. فبرغم أن الفرقة الرابعة من الجيش كانت متمركزة في القلعة وجاهزة للدفاع عن القاهرة، وبرغم أن حامية كفر الدوار رفضت الاستسلام وظلت مستعدة لملاقاة الإنجليز بعدما نجحت في صدهم في المرة الأولى، وبرغم أن بعض الفلاحين امتنعوا عن سداد الإيجارات لكبار الملاك واحتلوا للأرض، وبرغم أن عرابي قام بنزع ملكيات خمس عائلات من كبار ملاك الأراضي الزراعية بسبب انحيازهم للإنجليز وقت الحرب، برغم كل هذه الجهود التي بذلت من أصحاب المصلحة في انتصار الثورة، إلا أن وجود المجلس العرفي بتكوينه المشوّه، ربما لظروف فرضها الواقع، لعب دورا كبيرا في تبديد كل عوامل الانتصار وانتهاء الأمر بهزيمة العرابيين.
* في ضوء أحداث ثورة عرابي، هل تتفق مع الرأي القائل أنه في غالبية الثورات يكون معسكر الثورة مكونا من قوى طبقية متباينة، بعضها معتدل وبعضها جذري، وأن هذا معناه أن كل ثورة تتضمن معركتين: الأولى بين قوى الثورة مجتمعة والقوى القديمة، والثانية بين القوى الجذرية والقوى المعتدلة داخل معسكر الثورة ذاته؟
هذا صحيح. فالثورة العرابية بدأت بجبهة عريضة اشتملت حتى على طبقات وشرائح عليا في المجتمع، حيث كانت هناك قضايا عدة مثارة مثل قضية الديمقراطية وتحديد سلطة الخديوي ووقف التدخل الأجنبي. كل هذه أمور كان تحقيقها يمثل مصلحة للكل.
لكن رغم ذلك هذه الجبهة العريضة كانت منقسمة بين يسار ويمين. فقد كان هناك جناح يساري في ثورة عرابي طالب بعزل الخديوي وإعلان الجمهورية. هذا الجناح كان يقوده محمد عبيد ومحمود سامي البارودي. وهنا ينبغي التنويه أن محمد عبيد، ومعه 2000 مقاتل، رفضوا الاستسلام وقاتلوا جميعا حتى الموت في معركة التل الكبير.
الصراع في المرحلة الثورية هو الذي أفرز جناح يساري متقدم في قيادة الثورة العرابية. هذا الجناح أخاف الجناح اليميني، فاتجه الأخير إلى التآمر لحماية مصالحه. وكان صراع الأجنحة هذا أحد تعبيرات صراع القوى الاجتماعية أثناء الثورة.
ويمكن ملاحظة الأمر نفسه بالنسبة لثورة يوليو 52. فلم تتمكن الثورة طوال 18 عاما، من 52 حتى 70، من وضع أصحاب المصلحة الحقيقية في الثورة، الذين تحدث عنهم الميثاق، في مواقع السلطة. لو كان هذا قد حدث لتغير الواقع تماما. وبرغم هذا، وحتى توضع الأمور في نصابها، فإن انتفاضة يناير 1977 كانت انتفاضة لأصحاب المصلحة في الثورة، وليس كما قال السادات انتفاضة حرامية. كان يمكن لهذه الانتفاضة أن تصحح الأوضاع وتضع الكادحين في مواقع السلطة. لكنها للأسف جاءت متأخرة بعد أن تمكن السادات من بناء شرعية لحكمه معتمدة على ما حدث في 1973.
صراع الأجنحة في الثورات أمر شديد التعقيد. فالجهاز الذي كان يمثل قيادة ثورة يوليو في مرحلة ما، أقصد اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي، كان به عناصر من الأعيان. هذه العناصر هي التي وقفت ضد تعميق الثورة في بعض المراحل. لو كان هناك من نجح في تجنيد العمال والفلاحين وتنظيمهم داخل هذه المؤسسة وغيرها من المؤسسات، لكانوا قد دافعوا عن مصالحهم، أو حتى ربما كانت ستحدث حرب أهلية بين قوى الثورة وقوى الثورة المضادة. ولو كان هذا قد حدث، لربما كان قد أفرز واقعا أكثر نضجا من الواقع المترهل الذي نعيشه اليوم.
* بمناسبة الحديث عن ثورة يوليو، ما هو تصورك عن مضمون ثورة يوليو؟ وما هي تناقضاتها؟
أحب أن أؤكد أولا أني ناصري ومؤمن بالتجربة الناصرية وبأهميتها، بالرغم من وجود تحفظات، مثل محاولة تطبيق الاشتراكية بدون اشتراكيين. لكن الأكيد أنه كان هناك، في ظل التجربة، مناخ عام لتكوين الفكر وتطويره.
وعندما أقول أنني تكونت في إطار ما طرحته وانتهجته ثورة يوليو من فكر، فإن ذلك كان بالتأكيد أمرا مفيدا وإيجابيا. صحيح أن نصف قادة منظمة الشباب، التي كنت عضوا بها، يشاركون في الحكم الآن: من علي الدين هلال، إلي مصطفي الفقي، إلي مفيد شهاب وحسين كامل بهاء الدين، إلا أنها برغم ذلك أوجدت نواة تفكر بشكل مختلف.
المفارقة كانت أن كثير من قادة الصف الأول في التجربة الناصرية كانوا غير مؤمنين بالمشروع وأهدافه، بينما كان كثير من تلامذة الصف الثاني والثالث والرابع، من أمثالي، مؤمنين بمنطلقات الثورة.
أعود إلى تقييم الثورة. سلطة يوليو تمثل اتجاها تقدميا. يمكنني أن أزعم أنه كان هناك بالفعل انحيازا حقيقيا تجاه الطبقات الشعبية. لكن كانت هناك تناقضات. مثلا قد يقال أن الطبقة الوسطي هي من استفاد من إصلاحات النظام. وقد يقال أيضا أن أعيان الريف هم أكثر مَن استفاد من قانون الإصلاح الزراعي. هذا صحيح إلى حد كبير.
فالفئات الوسطى والصغرى من أعيان الريف، وهم من كانوا يملكون بعض الأفدنة أو يستأجرونها، وليس المعدمين والفقراء، هم الذين أنعشتهم إجراءات ثورة يوليو. من لم يكن يملك 80 جنيها ليدفعها مقدما كإيجار فدان من الأرض لمدة سنة، ولم يكن أي من الفلاحين الفقراء يمتلك هذا المبلغ، لم تكن لديه فرصة للاستفادة من قانون الإصلاح الزراعي.
* هل تتفق معنا أن الطبيعة الطبقية لسلطة يوليو، وميلها إلى الإصلاح من أعلى بدون دور لمؤسسات جماهيرية ديمقراطية من أسفل، يفسران حدود إصلاحات الثورة وتناقضاتها؟
أتفق مع هذا الرأي إلي حد ما، ولكن ليس بشكل مطلق، لسبب بسيط هو أن التاريخ حركة قوى اجتماعية. وقيادة ثورة يوليو كانت أقرب في تركيبتها لجبهة وطنية ضمت معظم القوى السياسية والفكرية الموجودة في الساحة، فيها اليسار الماركسي وفيها اليمين مثل الإخوان المسلمين وفيها الجناح الوسَطي الأميل للتقدمية مثل عبد الناصر. في هذا الإطار كان طبيعيا أن تفرز هذه التركيبة لقيادة الثورة تناقضات، وكان طبيعيا أيضا أن تتساقط بعض القوى وتتخلف عن المسيرة.
أريد أن أقول أن بعض المنطلقات النظرية في الفكر الماركسي تحتاج إلي تحفظات. فأنت عندما تطرح قرارا سياسيا، فإن كل القوي الاجتماعية تحاول تفسيره لصالحها. فقد تصدر قرارا يكون في جوهره تقدميا، لكن يحدث التفاف حول هذا القرار. ثورة يوليو أخذت قرارا تقدميا بإجراء إصلاح زراعي، لكن حدث التفاف، فأفاد القرار شريحة من أعيان الريف.
لكن من ناحية أخرى أنا لي تحليل للأسباب الحقيقية لتبني الثورة لقانون الإصلاح الزراعي. هذا التحليل يقوم على النظر إلى جدلية الثورة والسلطة. فقانون الإصلاح الزراعي يبدو وكأنه جاء لرفع الظلم والاستغلال عن كاهل الفلاحين بإعادة توزيع الأرض. غير أن الحقيقة أنه جاء ليضرب طبقة كبار الملاك في واحدة من أهم مصادر قوتها وهي ملكيتها للأراضي الزراعية. فلقد أسقطت الثورة ـ في يوليو 52 ـ طبقة كبار الملاك سياسيا، لكنها كانت تحتاج إلى إسقاطها اقتصاديا واجتماعيا بتجريدها من ملكية الأرض الزراعية، وهذا ما قام به قانون الإصلاح الزراعي.
هذه الجدلية بين السلطة والثروة، بين السيطرة السياسية والسيطرة الاقتصادية، ممتدة في التاريخ المصري. فعندما جاء الحكم العثماني إلى مصر في مطلع القرن السادس عشر، أسقط حكم المماليك بمعركتين عسكريتين، ثم في مرحلة أخري ألغي نظام الإقطاع المملوكي العسكري. فلقد قرر العثمانيون الإبقاء على المماليك والاستعانة بهم في شئون الإدارة المحلية، ولكن قرروا كذلك القضاء على مصدر قوتهم، وهو سيطرتهم على الأرض، فتم كما قلنا إلغاء نظام الإقطاع المملوكي في مصر، بالرغم من أن هذا النظام ظل مستمرا في العراق والبلقان وبعض مناطق آسيا الصغرى.
الشيء ذاته حدث في عهد محمد علي الذي تخلص من المماليك سياسيا وعسكريا، وقضى كذلك على الأساس الاقتصادي لقوتهم، وهو نظام الالتزام (تقول بعض المصادر أنه من بين 600 ملتزما، كان هناك 300 ملتزم من المماليك يمتلكون ثلثي مساحة أرض مصر).
* إذا كانت ثورة يوليو قد قضت على سلطة كبار الملاك سياسيا واقتصاديا، فمن الذي حل محل هؤلاء الملاك الكبار؟ بعبارة أخرى: ماذا كانت الثورة تمثل طبقيا؟
بالنسبة للجزء المتقدم في قيادة ثورة يوليو، فإن جمال عبد الناصر كان ينتمي للشريحة الأدنى من الطبقة الوسطي، وهي شريحة لها تفكيرها الخاص بالطبع. أبناء هذه الشريحة ليسوا بروليتاريا، ولا يحبون أن يكونوا بروليتاريا. فأصغر موظف في الدولة، حتي ولو كان غفيرا، يعتبر نفسه في وضعية أفضل من الفلاحين والعمال. هذه هي تركيبة الطبقة الوسطي. فهي تقاوم لكي لا تهبط إلى وضعية العمال، وتناضل من أجل أن تصعد طبقيا.
هذه بالضبط هي مشكلة الطبقة الوسطي، وهي كذلك مشكلة النظام في ظل ثورة يوليو. فالثورة لم تأت بعامل أو فلاح لكي يقود المجتمع، وإنما قيادتها كانت كما قلنا من الطبقة الوسطى. اتخاذ هؤلاء لبعض السياسات التقدمية أمر جيد ويصب في صالح تقدم المجتمع، ولكن لابد من الاعتراف أنهم لا يمتلكون حس الطبقات المهمشة أو المقهورة.
لكن كذلك لابد من التأكيد على أن ثورة يوليو تبنت بشكل فعلي مجمل شعارات الحركة الوطنية في الأربعينات. وهذا معناه أنها أنجزت ما كانت تطرحه قوى التقدم في تلك المرحلة. وهذا يحسب لها. أما النقد الذي يمكن أن يقدم لثورة يوليو بأنها لم تكن جذرية بما فيه الكفاية، لأنها لم تهدم جهاز الدولة القديم الموروث عن عهد الملكية بل تحركت في إطاره، فهو نقد يضع افتراضات جدلية لا يصح أن يطرحها من يحلل الحدث التاريخي.
فجمال حمدان يطرح أن جهاز الدولة ضرورة في المجتمعات النهرية. وهذا في حالة مصر يضيف صعوبة إضافية إلى المصاعب المرتبطة بتغيير جهاز الدولة عموما. انظروا إلى تجربة الأمريكان في العراق. فلقد تخلصت سلطات الاحتلال الأمريكي من جهاز الدولة القديم في العراق، وهي الآن في ورطة لا مخرج منها.
إذن فطرح قضية ضرورة تغيير جهاز الدولة يمثل تجاوزا لسياق تاريخي فرض مسار الأحداث. ولا ننسى في هذا السياق أن نؤكد على المفارقة الآتية: أن الفنيين والتكنوقراط الذين أداروا القطاع العام، أكثر المؤسسات تعبيرا عن مشروع ثورة يوليو، كانوا أبناء الطبقات العليا والارستقراطية السابقة الذين تلقوا تعليما جيدا أهّلهم لهذا الدور! بعبارة أخرى: احتاجت الثورة إلى مساهمة أبناء الطبقة التي أتت لكي تقضي عليها لكي تحقق أهدافها!
* وماذا عن ما بعد ثورة يوليو؟ ماذا عن العصر الراهن؟ بعبارة أخرى: ما هو تقييمك لعصر مبارك في لحظة شيخوخته الراهنة؟
أنا أرى أن مصر تعيش حالة أزمة اجتماعية غير مسبوقة. مظاهر الأزمة موجودة في كل مناحي الحياة. فهناك ملايين الخريجين في حالة بطالة تسببت فيها الدولة، لأنها تنازلت عن كل ممتلكاتها التي كانت من الممكن أن تستخدمها في تشغيل الشباب؛ والتعليم يتم تطويعه لمخططات أجنبية؛ ودروس التاريخ يتم تقليصها في المدارس حتي يصبح هناك تغييب للشباب في وطنهم؛ والناس تقف في طوابير الخبز ليل نهار.. تخيل عندما يصبح هم الغالبية العظمي من المواطنين هو كيفية الحصول على رغيف الخبز؛ والأسعار تلتهب ولن يلحق بها أي مصدر للدخل طالما أنك غير مرتبط بوظيفة تتيح لك السرقة أو النهب أو تقاضي رشوة؛ والقرار السياسي تابع بالكامل للخارج؛ باختصار هناك عشرات المظاهر للأزمة، كلها يعبر عن أن الأوضاع مصر يصعب أن تستمر على ما هي عليه.
* وفي رأيك هل الحركة الجماهيرية مؤهلة لأن تلعب دورا في تغيير الأوضاع؟
بالطبع هناك إرهاصات نلمسها كلنا. هناك إضرابات مستمرة واحتجاجات فئوية. ولكني أري أن هذا غير كافي. الاحتجاجات الفئوية خطوة ينبغي أن تتلوها خطوات. وهي ربما تتحول إلى حركة عامة ضد النظام. هنا يبرز عنصر التجمع والتنظيم. فهل من الممكن أن تتطور الأمور وينفجر تحرك اجتماعي ضخم يسقط النظام؟ ربما. ولكن السؤال هو: أين القوى السياسية الجاهزة كبديل؟ أشعر بأن الأحزاب الرسمية الموجودة في مصر كلها مستأنسة. القوة الوحيدة الجاهزة، وغير المستأنسة، هي الإخوان المسلمون. لكن بعض التفكير يكشف أن الإخوان ربما يتحولون إلى صف النظام في اللحظة الحاسمة، وربما يدخلون معه في مساومة.
الحقيقة أن ما نحتاج إليه هو قوة سياسية قادرة على الممارسة السياسية وتحريك الشارع. هنا لابد من التأكيد على حقيقة أساسية: الممارسة الديمقراطية لا تفرضها البرلمانات أو صحف المعارضة؛ الممارسة الديمقراطية يفرضها الشارع. فكلنا رأينا ما حدث في فرنسا منذ عامين تقريبا، وكيف أن الشارع أرغم النظام على التراجع وتغيير قراراته. كذلك، ففي 1977 أرغم الشارع المصري السلطة على التراجع. صحيح المطلب لم يكن سياسي، إلا أن الشارع في النهاية أرغم السلطة على التراجع. هذا هو المحك الحقيقي. فعندما تتعرض الديمقراطية للخطر، وعندما تتعرض مصالح الناس للخطر، فإن نضال الشارع، وليس البرلمان أو الكتابة في الصحف، يكون هو الفيصل لحماية أصحاب المصلحة الحقيقية في التغيير الجذري.
* في هذا السياق، ما هو تقييمك لمدى استعداد الجماهير الشعبية، أصحاب المصلحة الحقيقية في التغيير الجذري، لإجراء تغيير ثوري وحمايته؟
عملية التغيير لها مكونان: الأول هو الوضع الثوري الذي يرفض فيه شعب استمرار الظلم، والثاني هو القيادة التي تخرج من صفوف الشعب في اللحظة المناسبة لتقود عملية التغيير.
عندما يصل وعي الناس، وتصل حركتهم، إلى مرحلة ثورية، فإن التغيير يصبح ممكنا. لكن هنا تبرز أهمية النقطة الثانية، وهي توفر قيادة جاهزة ومستعدة. فالدولة مؤسسة في غاية التعقيد. وإدارة الحياة اليومية فيها أمر في غاية الصعوبة. وإذا كنا اليوم نوجه اللوم لثورة يوليو لأنها أدارت المجتمع باستخدام جهاز الدولة القديم دون أن تغيره، فيجب، استعدادا لأي ثورة قادمة، أن يكون هناك من هم قادرون على قيادة مرافق الدولة وشئونها من أوساط الطبقات الثورية. ولكي نصل إلي هذا نحتاج إلي عمل سياسي.
ولكن هل نستنج من هذا أن الثورة مؤجلة في حالة الشعب المصري؟ بالطبع لا. فلا يوجد أحد يمكنه رسم مسيرة شعب بالقلم والمسطرة. فمن الممكن جدا أن ينزل الشعب غدا إلي الشارع في انتفاضة عامة. كذلك من الممكن أن يكون ما يطيل عمر النظام هو تساؤل الناس: وماذا بعد النزول للشارع؟ هل سيتدخل الجيش؟ ولصالح من؟ وما البديل؟ القضايا كثيرة ومعقدة ولا يوجد حل سهل. ولكن المؤكد أن المجتمع يمر بأزمة.
* كلامك يوحي بأنه من الضروري أن تتبلور القيادة الثورية قبل اندلاع الثورة؟ أليس من الممكن أن تتشكل القيادة أثناء النضال الثوري نفسه؟
القوانين الحاكمة للمجتمع ليست قوانين رياضية. من الممكن أن تحدث مفاجآت، ومن الممكن أن تتطور قيادة خلال الأحداث، وهذا ما حدث خلال ثورة القاهرة سنة 1805 التي برز فيها رجل يعمل بائعا للخضروات ليصبح قائدا شعبيا. إذن فمن الممكن طبعا أن تتخلق في غمار الأحداث قيادات. لكن الشرط هنا هو أن تطول الأحداث. فهبة ليوم أو اثنين لن تتمكن من تطوير نفسها، خاصة مع دولة مركزية نهرية مثل مصر تمتلك السلطة فيها أساليب شتي للقمع.
ولكن على كل الأحوال أنا رأيي أن الواقع الحالي واقع متأزم ولا يمكن له أن يستمر. أي شخص اليوم، حتى لو كانت قدراته على التحليل بسيطة، سوف يدرك أننا نعيش في أزمة متعددة الجوانب. فنحن نعيش في ظل منطقة تهيمن عليها إسرائيل، وفي ظل هيمنة ثقافة الأمر الواقع والاستسلام، والمليارات التي أنفقت على قصور وقرى الساحل الشمالي السياحية، وكذلك على قصور ساحل البحر الأحمر، ستدفع أصحاب هذه القصور والقرى السياحية، وهم أصحاب مصلحة في استمرار الوضع الراهن، للتضحية بمصالح الأغلبية، حفاظا على ملكياتهم وأموالهم.
هذا هو مضمون الأزمة التي نعيشها. وهو ما يدعونا إلى توقع أن الأوضاع لن تستمر طويلا على ما هي عليه. فقط نأمل أن تتوفر الشروط التي تجعل التغيير الجذري ممكنا.