بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

دستور العسكر.. دستور الثورة المضادة

في الوقت الذي تمارس فيه أجهزة الدولة الأمنية أقصى درجات العنف والقمع والاعتقالات ضد الحركات الثورية والاحتجاجات العمالية المناهضة لتوحش الداخلية وسياسات النظام الاقتصادية، وبينما تصادر مجال الحريات العامة بقانون منع التظاهر، وتحاول إعادة هيكلة المجال السياسي بما يسمح بعودة رجال مبارك وأجنحة النظام القديم وسيطرة الجيش والأجهزة الأمنية على الدولة بشكل واضح (حتى وإن كان تحت مسميات الحكومة المدنية والديمقراطية)، يعلن النظام عن إجراء استفتاء عام على الدستور الذي كتبته “لجنة العشرة” المعينة من قِبَل السلطة العسكرية، وأعدت صياغته “لجنة الخمسين” غير المنتخبة، التي يهيمن عليها أركان النظام تماما برؤيته وسياساته العامة في مجالات السياسة والاقتصاد وإدارة المجتمع.

الدستور وإعطاء الشرعية للنظام الرأسمالي
يُعتبر الدستور من ضمن القواعد المؤسسة لشرعية النظام الرأسمالي، ويتخذ بعدا رمزيا زائفا باعتباره الأب الشرعي لكل القوانين التي تطبقها الدولة في كل مجالاتها، وذلك تبعا للمفهوم الذي وضعه المفكر السويسري “جان جاك روسو” في كتابه “العقد الاجتماعي”، الذي يعمق أوهاما متعددة، من بينها أن الدستور يُعتبر وثيقة حيادية وموضوعية، وتكفل جميع الحريات، وتضمن مصالح وحقوق كل الطبقات الاجتماعية باعتبارها طبقات وظيفية تقوم العلاقة بينها على أساس التبادل والتكافل والاحترام المتبادل، وبالتالي يتم التغطية تماما على طبيعة الانحيازات الطبقية والاجتماعية التي يتأسس عليها الدستور لصالح الطبقة الحاكمة والرأسماليين من رجال الأعمال، والتي ترسم حدود العلاقات بين كل الطبقات الاجتماعية، وتُحدِّد مراكز القوة والسيطرة تبعا لنفوذ وتملك الطبقة الرأسمالية لأدوات الإنتاج، وبالتالي مجمل أدوات الدولة وأجهزتها الإدارية والقضائية والأمنية وغيرها.

الدستور هو بامتياز مجموعة القواعد التي تؤسس لسيطرة الطبقة الحاكمة، ويُعتبر انعكاسا لموازين القوى الاجتماعية وعلاقاتها على الأرض، التي تفرض انحيازا صريحا لمصالح الطبقة الحاكمة ورموزها السياسية والاقتصادية.

طبيعة النظام السياسي الراهن وعلاقات القوى
سقطت شرعية الإخوان جماهيريا عقب موجة 30 يونيو، وبسبب الفراغ السياسي وغياب قيادة سياسية ثورية للجماهير، أُتيحت الفرصة للجناح البرجوازى الأشد قوة وعنفا وتحكما في كل مقادير السلطة والثروة والنفوذ ممثلا في المؤسسة العسكرية، تولي زمام الأمور، وإعلان خارطة طريق ترسخ لعودة نظام مبارك تحت رعاية الجيش ومؤسسات الأمن وأجهزة الدولة المختلفة.

وبالتالي فرغم توافق الإخوان والمؤسسة العسكرية وفلول مبارك على نفس التوجهات السياسية الرأسمالية، وعلى نفس القواعد والبُنَى الأساسية للدولة، ومحاولة الإخوان التحالف معهما، لكن فشل الإخوان في كبح الحراك الاجتماعي وإنقاذ الرأسمالية المصرية المأزومة، وانفجار الغضب الشعبي ضد الجماعة، كل ذلك مكَّن الجيش من الإطاحة بالتنظيم الإخواني، وتكريس استقطابا سياسيا حادا، يغطي على عمق التناقضات الطبقية الرئيسية في المجتمع، باستخدام خطاب يروج للحرب على الإرهاب للحفاظ على الدولة وحماية المواطنين والاستقرار وعودة الإنتاج.. إلخ.

كتلة واحدة من المصالح
يجب قراءة الدستور وتفكيك بنيته الكلية على أساس من التحليل الطبقي، واستقراء مفهومه عن القضايا الأساسية (في النظام السياسي للدولة، وأجهزتها، ومنهجها الاقتصادي، ومنظومتها الاجتماعية، والحقوق الاقتصادية والاجتماعية، والحريات العامة، ورؤيته للأقليات وحقوق المرأة والطفل، والثقافة). وبالتأكيد فإن الخيوط الرئيسية، التي تجمع كل مواد الدستور في نسيج واحد يرسخ في النهاية لمصالح الطبقة الحاكمة، تجعل من الدستور ككل خطابا برجوازيا بامتياز، على الرغم من بعض المواد الشكلية عن الحريات والحقوق، والادعاء الوهمي بالفصل بين السلطات وحيادية الدولة وانحيازها لصالح كل الجماهير.

وتظهر تلك التناقضات التي تفضح طبيعة انحيازات الدستور من خلال الجوانب التالية على سبيل المثال:

1- تتحدد هوية الاقتصاد المصري من خلال تبني اقتصاد السوق (أي سياسات الليبرالية الجديدة)، في المواد (13 – 27 – 28 – 32 – 33 – 35 – 36 – 38 – 40 – 42)، وبما يشمل الحرية الكاملة للقطاع الخاص وإدارته للاقتصاد، والحرية المطلقة لقوى السوق، وحرية التبادل والاستثمار والعرض والطلب، وهذا يوضح بشكل كامل انحياز الدولة لمصالح حفنة قليلة من رجال الأعمال المحتكرة لوسائل الإنتاج.

2- تكثيف استغلال الطبقة العاملة والفقراء من خلال عملية ربط الأجر بالإنتاج (نتيجة الارتباط الحتمي باقتصاد السوق وقوانين العرض والطلب)، وعدم إقرار حد أدنى للأجور يرتبط بمستوى التضخم وارتفاع الأسعار، وأيضا عدم إقرار حد أقصى للأجور يقتطع من الأجور الخرافية لطبقة رجال الدولة وقوى النظام البيروقراطي، وعدم إقرار الحرية الكاملة لإنشاء نقابات مستقلة للعمال، وفرض التبعية على العمال للاتحاد العام لعمال مصر (التابع لسيطرة النظام والمعروف بوقوفه ضد مطالب العمال)، وتقييد حق التظاهر والإضراب، وربطه بالقانون وفقا للمادة 15.

3- الحفاظ على الملكية الخاصة وامتيازات رجال الأعمال، بما يمنع استرداد الشركات المنهوبة للدولة، ويمنع مصادرة ثروات رجال الأعمال المتراكمة بالفساد وبنهب حقوق العمال.

4- عدم إقرار نظام ضرائب تصاعدي حقيقي، بما يضرب كل ادعاءات النظام في هذا الشأن، لأن مواد الدستور لا تشمل ضرائب تصاعدية على الشركات، أو ضرائب على الأرباح الرأسمالية في البورصة، وبالتالي يظل الاختلال الرهيب في توزيع الثروة لصالح كتل ومنظومات رجال الأعمال وشركاتهم، بما لا يحقق العدالة الاجتماعية ويعمق من التفاوتات الطبقية الهائلة.

5- انهيار دور الدولة وانسحابها من الدور الاقتصادي، وبالتالي هيمنة القطاع الخاص على الاقتصاد، وهو القطاع الذي يبحث فقط عن تحقيق الحد الأقصى من الأرباح، وتحويل البشر لآلات استهلاكية تطحنها قوى العرض والطلب في السوق، ومن الكارثة في هذا الدستور منح القطاع الخاص حق الانتفاع بتقديم الخدمات العامة (بما يشمل وسائل الطاقة والمواصلات والكهرباء وشبكات المياه والصرف الصحي وغيرها) لمدد تتراوح من 15 إلى 30 سنة.

كما تفضح مواد هذا الدستور طبيعة النظام السياسي للدولة، الذي تحتكره المؤسسة العسكرية وقوى رجال الأعمال وكبار رجال الدولة وأعمدة نظام مبارك، ويظهر ذلك جليا في تحصين الجيش وحماية شبكة امتيازاته وامبراطوريته الاقتصادية، من خلال منع مناقشة ميزانية الجيش، وجعلها رقم واحد (إجمالي دون تفصيلات) في الموازنة العامة للدولة، وأيضا مادة المحاكمات العسكرية للمدنيين، التي تفرض سطوة النظام العسكري، وتتعدى على حق المواطنين في محاكمتهم أمام القاضي الطبيعي مدنيا.

كما يُشكِّل الدستور المجال السياسي، ويرسم توازنات الأدوار بين الكتل الحاكمة، ويصوغ ويترجم المنظومة الاجتماعية ومظلتها من الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والقانونية والثقافية وغيرها، طبقا لمباديء وقوانين المنهج الاقتصادي الحاكم، ونرى ذلك من خلال:

1- عدم التزام الدولة بتغطية الاحتياجات الاجتماعية العامة، من الصحة والتعليم والإسكان وغيرها، فالصحة في المادة (18) تخضع لمنظومة اقتصاد السوق، وتفتح المجال لخصخصة قطاع الصحة، بالإضافة إلى غياب مظلة للتأمين الصحي الشامل لكل المواطنين بالمجان، وأيضا ربط العلاج للفقراء بقانون تحدد فيه وزارة الصحة قيمة الاشتراكات ومساهمة المرضى في دفع فواتير العلاج وغيرها من المصروفات، وأيضا تحديد نسبة 3% للصحة من الناتج القومي، وهذا خداع لأن النسبة الحالية للصحة في الموازنة العامة تبلغ 4.2% (الموازنة العامة الأخيرة حوالي 820 مليار جنيه)، بينما الناتج القومي حوالي 2 تريليون جنيه (ويشمل كل أرباح الأنشطة الاقتصادية من القطاع العام وقطاع الأعمال والقطاع الخاص وشركات الجيش وغيرها)، وبالطبع فإن النسبة التي تخصصها الدولة للصحة من هذا الناتج تأتي فقط من أرباح القطاع العام للدولة الذي لا تتعدى نسبته 18% من مجمل النشاط الاقتصادي، مما يؤدى عمليا إلى خفض نسبة الإنفاق الحكومي على الصحة وانهيارها على المدى المتوسط.

2- تفتح الصياغة غير الواضحة للمادة (19) الباب أمام اقتصار إلتزام الدولة بمجانية التعليم على التعليم الإلزامي فقط (حتى المرحلة الثانوية أوما يعادلها)، مما يحول مرحلة الجامعة واستكمال الدراسة إلى تنافس لا ينجح فيه سوى أبناء الأغنياء فقط.

3- تقع وسائل الاتصال الاجتماعي والوسائط الإعلامية تحت طائلة الرقابة في المادة (31)، وتحت ضغط ترسانة من القوانين المقيدة لحرية تدوال المعلومات والنشر، وحرية الفكر والتعبير، وإنشاء الصحف والقنوات وغيرها (كله وفقا لما ينظمه القانون!!).

4- يُعتبر تحرير المرأة جزءا لا يتجزأ من تحرير الإنسان من قيود المجتمع الرأسمالي وقوانينه الاجتماعية التي تكبل حرياته وتسلبه كرامته، وبالتالي فلا وجود فعلي لمواد تضمن حقوق المرأة وتحميها، في ظل نظام يكرس النظرة الدونية للمرأة، مرة بقوانين الرأسمالية وتحويلها لأداة للجنس أو أداة للدعاية والإعلان، واستلاب حقوقها الاقتصادية عبر استغلالها في الوظائف (سواء في القطاع العام أو الخاص) بأجور أقل من الرجل، ومرة باسم الدين وقمعها تحت سطوة القوانين الذكورية للمجتمع ومنظومته القيمية والأخلاقية.

5- ترتبط حرية الاعتقاد فقط بمنظومة المجتمع الدينية وبما يعترف به فقط من الأديان، وبالتالي لا نرى حرية اعتقاد حقيقية، بل حرية منقوصة ومبتورة، تتوقف عند الأديان السماوية فقط، ولا تمتد لباقي الاعتقادات والطوائف الأخرى.

في النهاية نرى أن مواد الدستور ليست موادا متجزأة منفصلة عن بعضها البعض، ولكنه ضفيرة محكمة الصياغة بما يضمن تماسك الخطاب، وتأسيس شرعيته الوهمية عبر تمريره شعبيا بالاستفتاء العام، وذلك ضمن مجال سياسي عام تتحكم في صنعه وسائل إعلام ضخمة تابعة لسيطرة النظام، تروج الأكاذيب وتحاول قمع التنظيمات الثورية التي تفضح ممارسات السلطة وتكشف سياستها الاستغلالية والاستبدادية، وتهيمن على صناعة الرأي العام من خلال استقطاب سياسي حاد يخفي الأزمات الحقيقية للمجتمع وما يعانيه من أزمة اقتصادية حادة وتفاوت طبقي رهيب وارتفاع للأسعار وانتشار أحزمة الفقر والبطالة والمرض، مهمتنا ليست فقط رفض هذا الدستور وفضحه، بل المشاركة في الاستفتاء والتصويت بـ(لا)، وعدم ترك المجال فارغا أمام السلطة للتوغل واحتلال المجال السياسي، وفرض استراتيجية النظام المؤسَّس على القهر والقمع والاستغلال.