بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

ساحة سياسية

وداعًا أحمد شرف

في الليلة المظلمة نفتقد البدر

المحامي الشيوعي أحمد شرف

في صيف عام 1969 ذهبنا الى الإسكندرية في رحلة جماعية تضم شباب داير الناحية وعزبة أولاد علام. كنا حوالي تسعين شابا، جلسنا في الحديقة العامة بميدان المنشية وأخذنا ننشد الأغاني الجماعية، والتف الناس حولنا، وكانت ليلة مدهشة.

في هذه الليلة وقف ابن أولاد علام أحمد شرف الدين يلقي أشعاره:

ليه .. ليه كل كلمة فوق لسانا ينصبوا لها مشنقة.. والفكر عايزينه دايما دودة نايمة ف شرنقة.. آه يا بلد الكدابين.. والرقاصين.. والمخبرين.. آه يا بلد الرشاوي.. والحكاوي.. والرغاوي..

صفق الناس بحرارة، وأحاطنا المخبرون وتم تفريقنا بحرارة أيضا.

تقريبا منذ هذه الرحلة كانت معركة كفاح طويلة، كان في القلب منها أحمد شرف الدين مناضلا شجاعا، ثابتا على العقيدة لا يتلون، لا يملك في هذه الدنيا سوى قلما شجاعا ولسانا فصيحا، وفكرا لا ينحاز إلا للمضطهدين والفقراء.

أحمد شرف كان وراء أول مجلة حائط تعلق في ميدان الدقي عام 1969، أول مجلة حائطية يحررها شباب حي شعبي وتوجه سهام النقد لنظام يوليو والاتحاد الاشتراكي.

أحمد شرف كان القائد الحقيقي لجميع التحركات الجماهيرية للشباب في داير الناحية وأولاد علام في معارك انتخابات مجلس الشعب والمجالس المحلية، وفصول التقوية ومحو الأمية، والدفاع عن حق أهالي أولاد علام في أرض العزبة والتصدي لجحافل قوات الأمن المركزي ضد طرد السكان. أحمد شرف كان أول لسان يتحدث عام 1965 في مدرسة السعيدية الثانوية عن الاشتراكية العلمية، وأول مؤسس لجمعية الدراسات الاشتراكية بكلية الحقوق أوائل السبعينات.

أحمد شرف ظل ملتصقا بالعمل الدؤوب والمستمر مع عزبة أولاد علام حتى وإن كان فتح مكتب للمحاماة وسكن في بولاق الدكرور، إلا أنه ظل على اتصال دائم مع هموم العزبة، وكان يسعى في سنواته الأخيرة من أجل تأسيس حضانة طفل أولاد علام.

أحمد شرف كان قائدا شجاعا وملهما في الحركة الطلابية 1972-1977، كان قائدا للمظاهرات ومحرضا جماهيريا فذا. وكان أول ضحايا تيار الإسلام السياسي حينما رفع سلاحه وجنازيره ضد الطلاب، فأثر الجرح الذي كان فوق شفتي أحمد كان نتيجة أحد المعارك مع هذا التيار حينما تحالف مع الدولة ضد الطلاب.

“شوفوا تنظيم السياسي ضد أهلي وبلدي وناسي.. سيد مرعي الأمين يبقى حرامي الفلاحين.. وسي محمد بيه عثمان دا إقطاعي من زمان”… كان هذا شعار أحمد شرف في مظاهرة 11 فبراير 1973 التي طافت بالحرم الجامعي، ثم خرجت إلى الشارع ووصلت إلى ميدان الجيزة، ثم انتقلت الى حواري الجيزة.

وفي المساء تم القبض على أحمد شرف من قبل مباحث أمن الدولة، ووصلنا الى سجن القناطر سويا، ووقف أحمد شرف من نافذة الزنزانة يلقي اخبار الحركة الطلابية في الخارج، وهلل السجناء الطلاب فرحا عندما أعلن أحمد شرف: “لقد اختطفنا من مظاهرة طلابية وشعبية بحواري الجيزة وكانت المظاهرة تضم أكثر من ألف طالب”.

فقد كانت الأخبار داخل السجن أن الحركة همدت وتم القضاء عليها. ونظم أحمد شرف طوال فترة الاعتقال، والتي تخطت الثمانية أشهر، مجلة ناطقة باسم “إذاعة جمهورية سجن القناطر الديمقراطية”، وظل يحررها يوميا في الصباح ويلقيها في المساء من شباك الزنزانة.

قلم أحمد شرف هو الذي صاغ الغالبية العظمى من أوراق نادي الفكر الأشتراكي التقدمي أعوام 1975، 1976. كان هو الذي خط بيديه برنامج النادي السياسي،

وهو الذي صاغ وثيقة 25 نوفمبر 1976، وصاغ البيان الشهير بعنوان “لماذا نحن مع المسيرة”؟ ولشرف دراسة ثمينة عن الحركة الطلابية لم تنشر بعد وعلى كل من أحب أحمد شرف وتعلم على يده أن يساعد على خروج هذه الدراسة للنور.

لم يناضل أحمد شرف وسط أبناء حيه أو سط الحركة الطلابية فقط بل ناضل بشكل أشمل وأعم داخل صفوف العمال والفلاحين. يشهد على ذلك عمال السكة الحديد وعمال النقل الخفيف ومصانع الحديد والصلب في حلوان، فقد كان الدينامو المحرك للجنة التضامن مع عمال الحديد والصلب عام 1989. ولا يمكن أن ننسى نضاله العمالي مع عمال مصنع بنها الحربي وعمال المحلة وكفر الدوار والإسكندرية. كان شرف قاطرة عمالية متحركة لا تكل ولا تمل في تحرير بيانات العمال والنشرات التى تدافع عن العمال، ولعل من أشهرها مجلة “صوت العامل”.

كما عمل شرف على تأسيس العديد من اللجان للتضامن والدفاع عن حقوق العمال.لقد  كان حقا وبدون مبالغة بمثابة مؤسسة متحركة متنقلة للعمل العمالي، ولكن أعظم أعماله في مجال العمل العمالي لم ينشر بعد، ولم تر النور بعد.

له كتابان من أروع ما كتب:
1 – كتاب “أعيدوا محاكمة خميس والبقري”، والذي بذل فيه مجهودا مضنيا بالمقابلات الشخصية والصحفية مع كل من كان له صله بمذبحة عمال كفر الدوار، وخاصة العمال الذين سجنوا في هذه القضية.

2 – كتاب “حق الإضراب” والذي أهداه إلى خاله المناضل الاشتراكي في الأربعينات. أما عن كفاح أحمد شرف وسط الفلاحين فإن أهالي وفلاحين قرية سراندو بمحافظة البحيرة وفلاحين قرى بهوت ودكرنس هم أفضل من يتحدثون عن أحمد شرف محامي الفلاحين وإبنهم المخلص الأمين.

أما عن تاريخه في النضال داخل الحركة الاشتراكية فأحمد شرف هو محرر أجمل وأعظم دراسة نشرت سرا وتتلمذ عليها الكثيرون وهي دراسة: “التحريفية هي الخطر الرئيسي داخل الحركة الشيوعية المصرية”.

كتب شرف هذه الدراسة بلغة بسيطة وراقية ضد أفكار سادت بعد حل الحزب الشيوعي في مارس  1965: “أفكار التطور الرأسمالي، والانتقال السلمي للاشتراكية، والمجموعة الاشتراكية في السلطة الناصرية”.

كان لأحمد شرف دراسات ومقالات عديدة في الأوراق السرية لمنظمة 8 يناير، والذي كان أحد أعمدتها الرئيسية وأحد أهم كوادرها.

تعلمنا الكثير منك يا شرف، لم نشاهدك سوى مناضلا في الشارع أو جالسا في غرفتك المتواضعة داخل البيت الطيني بعزبة أولاد علام ممسكا بقلمك وأوراقك تكتب وتكتب، ونشرب معك الشاب وتقرأ لنا ما كتبت، ونتناقش، ثم تختفي فجأة أياما وتعود. فينك يا أحمد؟ كنت فين يا بطل؟ نعلم منك أنك كنت في بنها، في المحلة، في الأسكندرية، في بهوت.

ترحل دائما ثم تعود، لا تعرف طعما للراحة. تسافر ثم تكتب ونتناقش. ثم سافرت أخيرا.. ولكنك لن تعود هذه المرة… وأنا لا أصدق ذلك.

أثق أننا سنتقابل ثانية لتقول لي: كنت في بهوت أو في حلوان.. ستعود محملا بالأوراق والكتابات والأفكار.. ستعود بدرا نفتقده في ليلة ظلماء.

أعطيت بلا حدود.. دافعت بإخلاص عن قضايا العمال والفقراء والفلاحين وسائر المضطهدين، ثم رحلت في صمت.

لن ننساك يا أحمد فأنت حفرت نفسك داخل العقل والقلب.