هذا دستورهم

أسوأ ما في الدستور الذي سيتم إقراره بعد حوالي شهر من الآن أن عددا من “الديمقراطيين المحسوبين على الثورة” يروّجون له باعتباره لا مثيل له من حيث إقراره لحقوق الناس السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وكما هو متوقع، فإن تكتيك الترويج هو تصدير دستور الإخوان على أنه المسطرة التي ينبغي أن نقيس عليها، فإن كان “دستورنا” أفضل من هذا الأخير، كان علينا أن نشكر العسكر وما يطلق عليه القوى المدنية على هبتهم الكريمة للشعب.
أنا أرفض هذه المسطرة – حتى بالرغم من أني أرى أنها لن تؤدي بالضرورة إلى إعطاء الأفضلية للدستور الحالي – وذلك لقيامها على المقارنة بين رديئين لا يمكن اعتبار أي منهما مثالا على ما ينبغي أن نحلم به بعد ثورة بحجم الثورة المصرية، وأظن أن المسطرة الوحيدة التي ينبغي القياس عليها هي مطالب وآمال الثورة المصرية. فهل يكبح هذا الدستور الآليات والمؤسسات والقوى التي قامت الثورة ضدها؟ وهل يمكّن الشعب ضدها؟ إجابتي هي لا.
قامت الثورة المصرية من أجل العدل الاجتماعي والكرامة الإنسانية والحرية السياسية. والعقبات الأساسية التي كانت، ولازالت، تمنع تحقيق هذه المطالب هي، كما نعلم جميعا، سيطرة حفنة من الرأسماليين الاحتكاريين الكبار لم ينتخبهم أحد على المقدرات الاقتصادية للبلاد، وسيطرة مؤسسة عسكرية لا تخضع لأي رقابة شعبية على ثروات وأراضي شاسعة يعمل فيها مئات الآلاف من “المجندين” بنظام أشبه بالسخرة، والنفوذ الواسع الذي يصل إلى درجة الهيمنة للمؤسسة العسكرية وللداخلية والمخابرات على النظام السياسي وإدارته من وجهة نظر عزبة يديرها رجل أمن وصاحب بيزنيس، وسيطرة أتباع هؤلاء ومنتفعيهم على مجمل الجهاز البيروقراطي والإعلامي للدولة من التليفزيون إلى الصحافة الحكومية إلى كل المصالح والإدارات المحلية، وسيادة نظام السوق الحر (التي لا يمنع طبعا دور الفساد والنفوذ السياسي في توزيع الهبات على المنتفذين) على آليات الإنتاج والتوزيع بدون حماية للكادحين والفقراء.
فهل يفكك الدستور هذه الشبكات؟ هل يضعف هذه القوى؟ هل يعطي السيادة للشعب عليها فعلا؟ المسألة ليست كلاما جميلا. المسألة إجراءات واضحة تتضمن على سبيل المثال وليس الحصر نظام عدالة انتقالية حاسم وناجز يحاكم من أثروا في ظل النظام السابق وأصبحوا حيتانا للمال والأعمال بفضل صلاتهم المشبوهة بنظام مبارك ويصادر الأموال التي نهبوها لمصلحة الشعب، ويحاكم كذلك من عذبوا الشعب وأهانوا كرامته من خلال أدوارهم في مؤسسات كالداخلية والمخابرات، وإقرار دستوري واضح بضرورة تفكيك إمبراطورية الجيش الاقتصادية التي لا علاقة لها بدوره في الدفاع عن الحدود وإدماجها في ميزانية الدولة من منظور المصلحة الشعبية وإخضاعها للرقابة الشعبية، وإجراءات واضحة بخصوص إعادة هيكلة الداخلية والأجهزة الأمنية والقضاء والإعلام، وآلية واضحة لإعادة توزيع الثروة مثل فرض ضريبة خاصة على كل الثروات والأرباح لعدد من الأعوام ومثل ضمان الإدارة العامة غير الربحية للمرافق العامة، ووضع مبادئ محددة لتمكين الفلاحين والصيادين الفقراء مثل الدعم المباشر لمستلزمات إنتاجهم وتسويق منتجاتهم تحت إشراف الدولة في إطار تعاوني قائم على نموذج جديد غير شكلي كالحالي، وغيرها كثير من الإجراءات.
لكن الذي حدث هو أن من قام بكتابة الدستور هو – بالأساس – جماعة المنتفعين نفسها التي نحتاج إلى محاربتها. حيث جلس على طاولة المفاوضات (الحقيقية) قيادات الجيش والداخلية وبيرقراطية الدولة والقضاء وكبار رجال الأعمال وحزب النور السلفي مع عدد من الديمقراطيين إياهم الذين رضوا ببعض التحسينات التي لا تمس الجوهر. ولذا لم يكن مستغربا أن تكون النتيجة أن الدستور الحالي لا ينبس ببنت شفة حول العدالة الانتقالية إلا في مادة انتقالية لا تعرف شيئا ولا تحسم شيئا، ولا يتحدث عن إصلاح الداخلية والمخابرات، أو تحجيم الجيش (وطبعا في حالة الجيش العكس هو الذي حدث)، أو تقليم أظافر رجال الأعمال، أو كبح آليات السوق. بل إن هذا الدستور ينص صراحة على أنه سيكون من حق القطاع الخاص الحصول على “التزام مرافق عامة”، وأن حقوق الملكية الفكرية، التي تعني حقيقة حقوق الشركات الكبرى في ابتزاز شعوب العالم الثالث، لابد من احترامها في كافة المجالات وبكافة الأساليب، وهو كذلك ينص – لأول مرة – على أن من أهداف السياسة الاقتصادية التوازن المالي والتجاري، وهو ما يعني بالضرورة دسترة السياسة المالية الانكماشية لغير مصلحة الفقراء.
من هنا فإن خلاصة رأيي أن هذا دستورهم وليس دستورنا. هذا دستور يحافظ على مؤسسات الظلم والفساد السائدة ويقوي بعضها، ويدعم آليات النهب القائمة ويعطيها شرعية، ولكنه يأتي بعد كل ذلك ليجمل الصورة ببعض الحديث عن زيادة الإنفاق العام في مجالات كالصحة والتعليم وغيرها، وببعض الحديث عن الكرامة ومنع التعذيب. فكيف إذا أنت حافظت على المؤسسات التي تنتج التعذيب والإفقار ولم تعد هيكلتها أو تعاقب قادتها من السارقين والجلادين، بل في أحيان كثيرة وسعت من صلاحيتها وحصنتها، كيف إذا أنت فعلت ذلك تتوقع أن تنجح في منع التعذيب أو رفع الإنفاق على الصحة؟ أن تصنع آلة تنتج القهر ثم تطالبها بإنتاج العدل لهو قمة العبث الذي لا معنى له.
ولذلك كله فأنا أرفض دستورهم.