أحداث الحدود وجبهة التضامن
في الوقت الذي قل فيه الاهتمام بالقضايا السياسية والوطنية على خلفية هبوط حركة التغيير من ناحية، وصعود حركة الاحتجاج الاجتماعي خلال العام الماضي من ناحية أخرى، اندلعت أحداث الفلسطينيون على الحدود المصرية مع قطاع غزة، لتعيد مرة أخرى القضايا الوطنية على أجندة المناضلين في مصر، وكما خلقت الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000 حركة واسعة من التضامن شملت بالإضافة إلى حركة الشارع العفوية، كافة القوى والتيارات السياسية بكل ألوانها، حظيت حركة الفلسطينيون على الحدود مع مصر بحركة تضامن واسعة من كافة القوى الوطنية، حيث تسابق الجميع لمد يد العون إلى الشعب الفلسطيني الجائع الذي كسر الحدود بحثا عن لقمة العيش، فشكلت على الفور قوافل الإغاثة التي ضمت كل ما أمكن جمعه من طعام وشراب وملابس وغيره لتوصيله إلي غزة، في رسالة واضحة لكل من فرضوا الحصار على قطاع غزة، تقول رأي الجماهير المصرية الرافض لهذا الحصار وبالتالي لخنوع نظامه أمام الإرادة الأمريكية والصهيونية.
لكن المفارقة الغريبة أنه على الرغم من أن أحداث تحطيم الحدود وكسر الحصار لا تقل في أهميتها عن أحداث الانتفاضة، لم يكن مستوى التضامن بالقوة وبالوحدة التي شهدها عام 2000، وهو ما يستوجب التوقف لمحاولة فهم الأحداث وواجبات الحركة السياسية تجاهها، خاصة وأن الوضع مرشح للانفجار مرة أخرى، وربما بشكل أقوى مع عودة الحصار على ما هو عليه.
أهمية أحداث الحدود
ربما يكون اقتحام مئات الآلاف -750 ألف- من الفلسطينيين للحدود مع مصر والعبور إلى رفح المصرية ومنها إلى سيناء ثم إلى مناطق مختلفة، هو الأول من نوعه في تاريخ العلاقات المصرية الفلسطينية وفي مجرى الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، لكن أهمية الحدث لا تنبع فقط من كونه الأول من نوعه، بل أيضا في الطريقة التي تم بها الاقتحام ومغزاها والخلفيات التي دفعت إليه على مدار العامين الماضيين.
فالذين اقتحموا الحدود لم يكونوا مجموعات مقاومة مسلحة، عبروا من خلال أنفاق حفروها تحت الحدود لتهريب المؤن والسلاح للقطاع المحاصر، وإنما كانوا مئات الآلاف من المواطنين العاديين الذين دفعهم الجوع والفقر لعبور الحدود بحثا عن كسرة خبز وبعض الوقود، لم يكن ممكنا تحطيم الجدران العازلة على الحدود التي بناها الاحتلال الإسرائيلي خلال تواجده في غزة، جدارا أسمنتيا يبلغ ارتفاعه ثمان أمتار، ثم جدارا حديديا بنفس الارتفاع تقريبا، ثم إزالة الأسلاك الشائكة، لم يكن ذلك ممكنا سوى بقوة هائلة هي قوة الجماهير الفلسطينية الفقيرة، هذه الطريقة لها معني في حد ذاتها، فما عجزت عنه النظام المصري –وكافة الأنظمة العربية- طوال العامين الماضيين من فك الحصار الذي ضربته إسرائيل عقب فوز حماس في الانتخابات التشريعية وتشكيلها للحكومة، هذا العجز الذي بررته الأنظمة بالكلام الأجوف حول الالتزام بمعاهداتها مع إسرائيل والشرعية الدولية والسيادة الوطنية والأمن القومي.. وغيرها من المبررات الجوفاء، حطمته الجماهير الفلسطينية مع تحطيم الجداران العازلة على الحدود مع مصر، وليس صحيحا ما إدعاه مبارك من أكاذيب حول سعة صدره وشفقته على الجوعى والمرضى من الفلسطينيين، ومن ثم سمح لهم بالعبور لقضاء احتياجاتهم ثم يعودوا !!، الحقيقة أن مبارك وجد نفسه مرغما على فتح الحدود، لأن البديل كان مجزرة حقيقية ضحاياه ستشمل من الجانبين المصري والفلسطيني، الأمر الذي سيفجر الأوضاع –المتفجرة أصلا- داخل مصر وستضيف مأزق جديدا لمآزق نظام مبارك.
هنا كان يمكن أن يكون لحركة تضامن واسعة ومنظمة تأثير قوى وكبير في الشارع المصري، تضغط أكثر على نظام مبارك –الهش أصلا- وتدفع حركة الفلسطينيين خطوة للأمام، وتشكل لهم ظهيرا قويا ضد القمع الذي يمارسه النظام المصري لهم على الحدود كما حدث بعد ذلك.
ورغم أنه كان هناك محاولات سريعة ومخلصة للتضامن تحركت سريعا لمد يد العون، إلا أنها تركزت في الجانب المادي، ولم تمتد لتشمل التضامن السياسي –وهو الأهم- الذي يستهدف حشد وتعبئة الشارع، فوجدنا العشرات من قوافل الإغاثة التي نظمتها القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني، والتي نجح بعضها في الوصول إلى غزة وفشل البعض الآخر نتيجة منع السلطات المصرية لها، لم تكن هناك الحالة التي شاهدناها في التضامن مع الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000، لم نشاهد حالة العمل السياسي المشترك الذي يستهدف توحيد كل القوى من أجل خلق فعل سياسي داخل الشارع المصري يمكنه الضغط على نظام مبارك لعرقلة خططه –التي وضحت بعد الأحداث- لإعادة الحصار كما كان بل وتشديده، خاصة بعد التوبيخ الذي ناله من حلفاءه الإسرائيليين والأمريكان.
جبهة تضامن متحدة
لم يكن الضعف النسبي لحالة التضامن مع أحداث غزة الأخيرة مفصولا عن التطورات الدرامية على الساحة الفلسطينية خلال العامين الماضيين، فالانقسام داخل حركة المقاومة الفلسطينية، والذي تجلي بشكل واضح في الصدام بين حركة حماس وحركة فتح بالأساس منذ تشكيل الأولى للحكومة عام 2005، والذي أفضي إلى الصراع المسلح على السلطة في قطاع غزة ثم سيطرة حماس على القطاع وتراجع سلطة أبو مازن إلى الضفة الغربية، هذا الصراع انعكس بشكل واضح داخل حركة التضامن ليس فقط داخل مصر بل وفي المنطقة العربية كلها.
فقد وجد تيارا ليس بالقليل داخل حركة التضامن مسلك حماس في الاستيلاء على السلطة بالقوة في القطاع شقا للصف الفلسطيني وتعبيرا عن اتجاها انتهازيا “فاشيا” تعززه مرجعية رجعية للمقاومة، وهذا الاتجاه بنى تصوره على موقف مسبق من طبيعة الحركة الإسلامية بشكل عام والمقاومة منها بشكل خاص، في حين أيد آخرون ما فعلته حماس تأييدا غير مشروطا ملقين باللائمة على مسلك فتح التصفوي تجاه المقاومة وارتماءها في أحضان الصهيونية والإمبريالية العالمية، وهناك رأي ثالث يرى أنه بصرف النظر عن بعض الأخطاء التي قامت بها حماس والتي تجسدت في ممارسات قمعية داخل القطاع بعد استيلاءها على السلطة هناك، إلا أنها –أي حماس- تمثل حركة المقاومة الحقيقية داخل الشارع الفلسطيني رغم كل التحفظات على إستراتيجيتها في المقاومة، وأنها وجدت نفسها مدفوعة إلى ذلك حفاظا على تواجدها تحت وطأة ضغط سلطة أبو مازن المدفوع من الاحتلال الصهيوني والإمبريالية الأمريكية والأنظمة العربية لتصفية المقاومة، كما يرى هذا الاتجاه أن حماس هي من قادت الانتفاضة الأخيرة وقدمت من بين صفوفها مئات الشهداء والآلاف من المعتقلين، وأن دورها ذلك كان جوهريا عرقلة الاستقرار الصهيوني، بل ودفعه إلى الانسحاب من غزة عام 2005 يجر أزيال الخيبة.
وبصرف النظر عن تقييمنا لصحة الآراء والاتجاهات المختلفة إلا أنه في المحصلة النهائية انعكس هذا الخلاف في انقسام حركة التضامن مع أحداث الحدود، فوجدنا كل اتجاه يعمل منفردا ويتضامن بطريقته، متناسين الدرس الهام الذي تعلمته الحركة عام 2000 من أنه مهما كان حجم وقوة اتجاه ما، لن يكون قادرا في ظل دولة مبارك البوليسية على بناء حركة تضامن قوية يكون من شأنها حشد وتعبئة أكبر قطاع ممكن من الجماهير المصرية لدعم المقاومة، ومتناسين أيضا قواعد العمل المشترك التي تعلي بالأساس من شأن القضية أو المعركة المتفق علي أهميتها بين الجميع والتركيز على ما هو مشترك بينهم، مع احتفاظ كل تيار على استقلاليته وحريته في نقد الآخرين.
نحن جميعا متفقون على دعم المقاومة، أما اختيار طبيعة هذه المقاومة، إسلامية، يسارية، رجعية، تقدمية، هو خيار الشعب الفلسطيني، ويحكمه عملية مركبة ومعقدة من التفاعلات التاريخية والسياسية التي تحسمها الجماهير في لحظة تاريخية معينة لصالح خيار محدد.
إن التوتر على الحدود بين مصر وغزة لم ينته، لأن أسبابه لم تنته، فقد عاد الحصار يخنق أهل غزة، وعاد شبح الموت جوعا يخيم بقوة على حياة مئات الآلاف من البشر، في الوقت الذي مازالت فيه الآلة العسكرية الصهيونية تشن كل يوم هجماتها البربرية على الفلسطينيين، الأمر الذي يفاقم معاناتهم، وهو ما يعني أن أحداث الحدود مرشحة بقوة للتكرار، لكن هذه المرة ستكون المواجهة غير معلومة العواقب، فمبارك توعد على لسان وزير خارجيته “بكسر رجل أي فلسطيني يدخل مصر”.
وكما يستعد مبارك ونظامه لذبح الفلسطينيين على الحدود، يجب على كل المناضلين أن يعدوا العدة أيضا لمواجهة ذلك، ولن يكون ذلك سوى من خلال بناء جبهة قوية واسعة ومفتوحة، تشمل الجميع ولا تستبعد أحد للتضامن مع كفاح الشعب الفلسطيني.