”حكامنا وأعداءنا .. إيد واحدة“
حكامنا وأعداؤنا .. علاقة محرمة يحاكمها التاريخ
كان انتقال السلطة لمبارك بعد مصرع سيده، انتقالا آمنا برعاية امريكية وطمأنينة إسرائيلية، حيث استكملت خطة الانسحاب البطيئة من سيناء. وقد استكمل مبارك مسرحية الديمقراطية المقترنة بأغاني الرخاء والسلام، من ناحية، مع اتخاذ بعض المواقف المائعة تجاه القضية الوطنية، على الصعيد المصري، والفلسطيني والعربي ككل. بسحب السفير المصري بعد اجتياح إسرائيل لجنوب لبنان، أربعة شهور بعد إتمام انسحابها من سيناء، وبالقرقعة الإعلامية حول قضية طابا، التي مهدت لإعادة السفير المصري لإسرائيل في 1986، حتى قبل الانسحاب من طابا، وقبلها بقضية تنظيم ثورة مصر. لكن العصا الإسرائيلية كانت هي الأعلى، فلم يستطع أن يتخذ مواقف أكثر من ذلك، كما تم قمع المظاهرات التي تدين التطبيع، وقتل سليمان خاطر الجندي لمصري الذي قتل مجموعة من الإسرائيليين تعدوا على منطقة خدمته في 1986. ثم ادعاء انتحاره. ولم تتوقف السياحة الإسرئيلية، حتى بعد حادث إطلاق النار على أوتوبيس سياحي في 1989.
علاوة على توجيه مناهج التعليم، والإعلام الحكومي، الذي ظل مسيطرا، ثم الإعلام الخاص، نحو ثقافة التطبيع، وتمييع الحس الوطني، وتربص الإسرائيليين لأية مظاهر لمناهضة التطبيع. بينما ظلت الجعجعة ضد إسرائيل للاستخدام المحلي فحسب، وكثير منها اضطلع بها عمرو موسى رجل النظام اللبق.
اتضحت ابعاد العلاقة الإسرائيلية بالنظام المصري بشكل أكبر منذ صعود شارون للسلطة، فكان الموقف البارد لمبارك إزاء المذابح الإسرائيلية للفلسطينيين، خلال الانتفاضة الثانية، التي أضرمها شارون نفسه حتى قبل اعتلاءه رئاسة الحكومة. بينما تودد مبارك للإسرائيليين بإطلاق سراح جاسوسهم عزام عزام، الذي سمن وترعرع في السجن المصري، حيث تردد عليه الساسة والديبلوماسيين الصهاينة-في زنزانة يشرف فيها الآن حبيب العادلي سفاح الثوار- ثم تعيين سفير مصري جديد لدى إسرائيل، هو محمد عصام إبراهيم المقرب لمبارك. وازداد الأمر سوءا بعد انفضاح أمر النظام خلال الحرب الإسرائيلية على جنوب لبنان، والذي انتهى لسوء حظ مبارك بهزيمة حلفاؤه في تل أبيب. وخلال عملية الرصاص المصبوب 2008-2009، التي شنتها إسرائيل على غزة، ساند النظام المصري العملية، بشكل غير مباشر، وحمّل حكومة حماس "المنتخبة" المسئولية. ثم شرع في بناء جدار فولاذي بتوجيهات أمريكية إسرائيلية لمنع تهريب الأسلحة والمواد التموينية لغزة المحاصرة. وقد صرح وزير المالية الإسرائيلي، يوفال شتاينتس، والمنتمي لليمين المتطرف،في 12فبراير أن التنسيقات الأمنية مع مصر بلغت قمتها خلال العامين الأخيرين على سقوط مبارك
”حكامنا وأعداءنا..إيد واحدة“
التاريخ بيقول كده..
كان المشروع الصهيوني جزء من المشروع الاستعماري الأكبر، وقد عملت القوى الاستعمارية على التوغل في الوطن العربي، أو "الشرق الأوسط" في اصطلاحهم، منذ أن تنبهت لمشروع محمد علي الطموح، واستطاعت الراسمالية الأوروبية أن تسيطر على المنطقة، وأن تحدث "تحولات"، ولا نقُل "تطورات"، من شأنها ربط المنطقة بمراكز الرأسمالية الأوروبية، ثم كان التدخل العسكري لإتمام السيطرة، فكان الاحتلال البريطاني لمصر، والذي تواكب مع بدء الخطوات الاولى للمشروع الاستيطاني الصهيوني، جاءت النقلة الثانية من المشروع الاستعماري، بعد الحرب العالمية الأولى، وتقسيم تركة الإمبراطورية العثمانية، رجل اوروبا المريض، فيما عُرف باتفاق سايكس-بيكو، بين القوتين العظميين، بريطانيا وفرنسا، فكانت مصر وفلسطين(التي كانت حتى وقتها جزء من سورية الكبرى) من نصيب بريطانيا. وكان وعد بلفور سيء الصيت عقد أُبرم بين الأسد الاستعماري البريطاني، وبين كلبه المسعور، المشروع الصهيوني.
لم يكن هدف الاستعمار هو النهب السريع للثروات، كما كان الحال في الحقبة الاستعمارية الأولى. حيث كان من مصلحة الرأسمالية الصناعية الأوروبية، كما أسلفنا، إحداث تحولات في البلدان المستعمَرة، من حيث بنيتها التحتية وجهازها الإداري، وحتى إعداد جيل من العمال المهرة والموظفين، للوفاء باحتياجاتها، والأهم من كل ذلك في سياقنا هو خلق طبقة حاكمة ذات مصالح مباشرة مع الاستعمار، وهنا مربط الفرس.
فمنذ البوادر الأولى للمشروع الصهيوني، تنامى وعي عربي بخطورة المشروع، وبارتباطه بالاستعمار البريطاني، لكن الأعيان المنتمين إلى طبقة كبار الملاك، لم يكونوا ميالين لأية مواجهة مع الباب العالي ، ثم مع الاستعمار البريطاني، فيما بعد.
ولما كانت الحرب العالمية، تعذر الاتصال بين المستعمرات وبين المراكز الاستعمارية، فكانت الحاجة لتنمية صناعة محلية، ومن هنا نشأت البرجوازية العربية، في مصر وفلسطين على السواء، من طبقة كبار الملاك الجبانة، التي لم تتجرأ حتى على الدخول في سوق الرأسمالية الصناعية قبل ذلك، ومرتبطة ارتباط وثيق بالاستعمار، الذي كان أكثر ميلا في فسطين لصالح الصهاينة، فتطور اقتصاد القطاع الصهيوني بدرجة أعلى، وكان للبرجوازية المصرية دورا "لا وطنيا" في الارتباط بالمستعمر، و"لا قوميا" بالارتباط بمشروعات اقتصادية مع الصهاينة، ومن أشهر الأمثلة إسماعيل صدقي وزير الداخلية ثم رئيس الوزراء.
كان موقف الرجعية العربية المتمثلة في حكام الموائد، والبرجوازية المكترشة، شديد الرداءة من الثورة العربية الفلسطينية 1936، حيث تاثرت مصالحهم بالثورة، فعملوا على وقفها بأي شكل اعتمادا على "النوايا الحسنة لصديقتنا بريطانيا".
مثلما كانت الحرب العالمية، عاملا على تكون برجوازية عربية، كانت ايضا عاملا على تكون طبقة عاملة عربية، في مصر وفلسطين، ارتفع وعيها بذاتها شيئا فشيئا، وتصدرت النضال السياسي، وإن لم تقُده عمليا. وكانت الحرب العالمية الثانية نقلة تالية في تاريخ الصراع في الوطن العربي، فما ان انتهت الحرب حتى تصاعدت موجة من النضالات، التي ربطت تلقائيا الوطني بالاقتصادي، فكان هناك خطرا محدقا بالاستعمار، وبالطبقات الحاكمة الموالية له. وكانت حرب 1948، مسرحية هذلية، حينما قامت القوات العربية بنزع سلاح المقاومة الشعبية العربية، التي حققت انتصارات، رغم اختلال الميزان لصالح الصهاينة، ثم اندحرت القوات العربية بعد أن هُزمت شر هزيمة، وأضاعت فلسطين.
صعود الضباط الأحرار
كان صعود الضباط للسلطة في 1952، محطة جديدة في تاريخ الوطن العربي، غير منعزلة عن السياق العالمي، فكان هؤلاء الشبان ابناء الطبقة المتوسطة يكون العداء للاستعمار، ويحلمون بتنمية البلاد، لكن البرجوازية المحلية كشفت عن تواطؤها مع الاستعمار، بمعاداة حكم الضباط، الذي كوّن شعبية كبيرة، وتخاذلها عن مشروعاته التنموية، فتصاعد الصراع مع الاستعمار على كافة الأصعدة، وجددت إسرائيل عداءها خلال العدوان الثلاثي 1956.
وبتبني النظام الناصري للمقاومة الفلسطينية، وتزعمه للمشروع القومي العربي، وانخراطه في حركة عدم الانحياز، أصبح لا بد من القضاء عليه قضاءا مبرما باي شكل، فكانت التهديدات الأمريكية بتحريك وحداتها البحرية، بالتزامن مع رفع درجة الاستفزازات الإسرائيلية، فقد شهد عام 1966، تصعيداً للسياسة الأمريكية للضغط على عبد الناصر، تمهيداً للقضاء عليه. فحسب جريدة لوموند الفرنسية، قدمت الولايات المتحدة كمياتٍ كبيرةٍ من الأسلحة الهجومية في ربيع 1966، بينما كانت قد أوقفت شحنات القمح إلى مصر في مطلع العام نفسه. ويحدد أحد أهم مندوبي المخابرات الأمريكية في الشرق الأوسط بنود الإنذار الأمريكي لعبدالناصر:
1-خروج مصر من المعركة العربية.
2-تصفية الإتحاد الإشتراكي.
3-إدخال نوع من التنظيم على الإدارة، وتحديد عدد الموظفين بـ180ألف.
4- تحديد عدد الجيش بـخمسين ألف عسكري.
5-إلغاء التأميم وتصفية القطاع العام.
كان تصور النخبة المصرية الحاكمة، بجناحيها العسكري والمدني، أنه يمكن الحصول على الكثير، إذا أمكن إيجاد مكان بجوار واشنطن، وأن إسرائيل في حد ذاتها ليست خطراً عليها. كان الاعتقاد بأن إحداث توتر عسكري يمكن أن يحقق نتائج إيجابية. إن طبيعة تصور القيادة لأسلوب تسوية الصراع قد تأثر بعوامل ثلاث، هي: طبيعة التكوين الاقتصادي- الاجتماعي للنظام، وطبيعة التوارزنات السياسية داخل النخبة الحاكمة، التي تمثل شرائح وأجنحة البرجوازية المصرية بدرجات مختلفة.
بحثت النخبة الحاكمة، التي ينتمي معظمها إلى الشريحتين الصغيرة والمتوسطة من البرجوازية، عن تسوية عن طريق الولايات المتحدة، واستغلت التقرب إلى الكتلة الشرقية، كورقة ضغطٍ، مع إحداث توترٍ عسكريٍ، بغرض تشكيل ضغطٍ على الإمبريالية، للحصول على موضع أفضل.
إن قيم الطبقة تشكل إطاراً لقيم وأ فكار وسلوك افرادها، إلا أن التمسك بقيم الطبقة، يختلف في درجته، حسب الشريحة التي ينتمي إليها الفرد داخل هذه الطبقة. وقد كان عبد الناصر ينتمي إلى الشريحة الصغيرة من البرجوازية المصرية، فجده كان فلاحاً ميسوراً، ووالده موظفاً بالبريد. لكنه تمسك بموقفه حتى آخر ايامه.
بعد الهزيمة انقسمت أجنحة النخبة الحاكمة المصرية، في توجهاتها حول مدى أولوية العمل السياسي أو العسكري. كان اليمين الناصري، والذي يمثل مصالح كبار الملاك في الريف، والرأسمالية المحلية، الذين لم تنلهم أيدي التأميم، يرفض الحل العسكري، تماماً، ويطالب بالعودة إلى الولايات المتحدة، وتنفيذ جميع شروطها في الداخل والخارج، ويهاجم العلاقات بالاتحاد السوفييتي، ولهذا الجناح ينتمي السادات. بينما كان الوسط الناصري، الذي يمثل مصالح الطبقة الجديدة بجناحيها المدني والعسكري، والبرجوازية المتوسطة في الريف، والرأسمالية المتوسطة، يستبعد الحل العسكري، ويدعو إلى التهديد بالحرب، واللعب بأوراق الوجود السوفييتي، والمصالح الغربية، والاعتدال في السياسة الداخلية والعربية، كل ذلك من أجل التوصل إلى تسوية سلمية. حتى اليسار الناصري، الممثل للبرجوازية الصغيرة الاشتراكية، والذي يرتكز على مواقع داخل التنظيمات السياسية الناصرية، ويعادي الإمبريالية، فإنه كان ينادي بالتسوية السلمية، دون الإفراط في التنازلات، عن طريق عملياتٍ عسكريةٍ محدودةٍ. وقد شكلت سياسة عبد الناصر مزيجاً من التوجهات الثلاثة.
كان صعود السادات نقطة النهاية الحقيقية للمشروع الناصري، فعلاوة على ما يتمتع به شخصه من انتهازية، وكراهية شديدة لكل ما يتعلق بالاشتراكية، وتطلعاته البرجوازية، كان السادات يُصنف ضمن الجناح اليميني للنظام الناصري، ثم ضرب ضربته الشهيرة بـ"مراكز القوى" مطيحا بصقور النظام الناصري، الذين اغتروا بقوتهم، واعتقدوا أنه سيكون ألعوبة يحركونها. في حين تصاعدة الحركة العمالية والطلابية منذ 1968، اي قبل وفاة عبدالناصر، جاءت حرب "التحريك" في اكتوبر 1973، لتعطية شعبية، وتجدد شرعية الجيش في الشارع المصري. ومن ثم بدأ السادات في تنفيذ كل ما يريده الاستعمار، وسبق أن رفضه عبدالناصر، وفضل الموت عليه، حيث أعلن السادات قوانين الانفتاح الاقتصادي، ثم تمثيلية المبادرة في مجلس الشعب، واكتمل السيناريو بزيارة القدس وإجراءات توقيعه على معاهدة كامب ديفيد، التي صاغها الصهاينة والأمريكان. في غضون ذلك حدثت انتفاضة يناير 1977. وبينما كان الجيش كالأسد في قمع الانتفاضة وإعادة السادات من جحره ، كان كالنعامة حين مرغ السادات أنفه في حبر المعاهدة،
كامب ديفيد كانت بمثابة عقد زواج جديد بين الاستعمار وبين النظام المصري، وتعهدت أمريكا بالرفاء، واشترطت تربية"البنين" !.
اقتصاديا:
كانت المعاهدة المشئومة "شروة واحدة"، وكما ذكرنا كانت تعني تصفية المشروع الناصري بأكمله فلم ينفصل الانقلاب على القضية الوطنية عن الانقلاب على المكتسبات الاقتصادية الاجتماعية للشعب المصري، بتطبيق سياسات الليبرالية الجديدة. وقد وعدت أمريكا بمعونة سنوية، تقدر بثلاثة مليارات، وإن كان ذلك هو "الرفاء"، فكان لابد من "البنين" وهم طبقة من البرجوازية المصرية الطفيلية، التي راكمت شيء من الثراء خلال العهد الناصري، من أنشطة وعمولات ورشاوى، وكان الانفتاح إشارة لها بإخراج ما اكتنزته، لتنهل من شهد الأمريكان، وتشكل طبقة ذات مصالح مباشرة مع الاستعمار الصهيوني الأمريكي، فما من أحد من حيتان نظام مبارك، ممن راكموا المليارات من علاقتهم الفاسدة بالنظام ومن تقطيع أوصال البلاد وبيعها، إلا وارتبط بانشطة اقتصادية مع الصهاينة بشكل مباشر أو غير مباشر
فبعد شهر عسل قصير من التطبيع، قبيل وبعد مصرع السادات، توقف التطبيع السافر على القطاع الاقتصادي(وهو ليس بهيّن). في معظم مجالات الأنشطة الاقتصادية. وكانت اتفاقية الكويز، وصفقة الغاز، تصعيدا للشراكة بين الاستعمار الصهيوني، والبرجوازية المصرية، جدير بالذكر ان اتفاقية الكويز تم توقيعها أيضا مع الأردن، فالفساد الذي فاح من تلك الصفقات والاتفاقات، هو شرط مرتبط بالمعادلة، التي تؤدي إلى المزيد من الارتباط بين البرجوازية المصرية وعلى رأسها مبارك وابنه، وبين المشروع الصهيوني، برعاية امريكية.