بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

ساحة سياسية

الاتحاد الأوروبي وحقوق الإنسان:

حقوق الإنسان على موائد اللئام

في فيلم يوم مر ويوم حلو (خيري بشارة وفاتن حمامة والثمانينات) كان هناك مشهد في منتهي الدلالة. كان كل شيء جاهز للعرس في الحي الشعبي الذي تجري فيه أحداث الفيلم. وفجأة “طفحت” المجاري في الشارع كله، بل وفى حوش المنزل الذي سوف تخرج منه الزفة. بدأ الجميع في الصراخ : لوح خشب.. لوح خشب .. استمر الأمر لوقت طويل ولم يتحرك أحد ليأتي بـ”لوح الخشب.”

ربما يذكرنا المشهد بالأزمة الأخيرة التي بدأت بتوجيه البرلمان الأوروبي انتقادا للحكومة المصرية على انتهاكات حقوق الإنسان المُنظمة التي تقع على أراضيها. الفارق الأساسي بين المشهد والواقع أن “لوح الخشب” كلمة حيادية لا تزعل أحد، بينما كلمة حقوق الإنسان أصبحت محملة بأعباء وتُهم كثيرة ( يلقيها الجميع على الجميع، ما بين تدخل خارجي وسيادة وطنية وتمويل وعمالة .. الخ). ويُذكر أن أحد نواب الحزب الوطني، وهو لواء شرطة سابق، قد قال في لجنة الأمن القومي والدفاع بمجلس الشعب إنه يصاب بـ”أرتكاريا” كلما تذكر كلمة حقوق الإنسان. أما الفارق الثاني الأساسي بين مشهد الفيلم والأزمة الأخيرة فهو أن الذين يصرخون في الفيلم هم ضحايا المجاري “الطافحة”، لكن معظم الذين يصرخون حول حقوق الإنسان هم الجناة أنفسهم (طبقات حاكمة تتهاوش) أو من يتاجرون بالقضية (بعض النخب التي لا يهمها أن تكون الجماهير صاحبة صوت في معركة الدفاع عن حقوقها).

ورداً على القرار، وقف الديكتاتور العجوز ليوجه نصائحه “لأوصياء حقوق الإنسان” بالالتفات إلى الجرائم التي تُرتكب في غزة. بينما خُصصت جلسة كاملة في مجلس الشعب لمحاضرات طويلة في انتقاد الكيل بمكيالين في المحافل الدولية. وقال رئيس مجلس الشعب إن هناك خطأ إجرائي في القرار، هو أنه صدر من قِبَل البرلمان الأوروبي الذي لا يضم مصر في عضويته، لكن كان البرلمان الأورومتوسطي هو المكان الذي يفترض أن يطرح فيه مثل هذا القرار، لأن مصر عضوة فيه. وقال الوزير مفيد شهاب إن القرار له أهداف مريبة، وخاصة أنه صدر بتحريض من أصدقاء إسرائيل بأوروبا. وبالإضافة إلى الإعلام الحكومي الذي تبارى في ترديد إسطوانة سيادة مصر، ذهبت الكثير من أصوات المعارضة لتصب بجام غضبها على الاتحاد الأوروبي بسبب “تدخله في شئون مصر”. المشكلة الحقيقية في الصراخ وازدحام مصطلحات الاتهام كانت هي تجاهل بعض الأبعاد الجوهرية حول هذه الأزمة. ونعتقد أن هناك قضيتين أكثر جوهرية في سياق هذه الأزمة المفتعلة، هما: التشويش على عدالة قضية حقوق الإنسان بسبب نفاق الطبقات الحاكمة وجعجة الكثير ممن يتحدثون باسمها. أما القضية الثانية فهي فض الاشتباك حول قضية التدخل الخارجي أو الإستقواء بالخارج. وقبل الدخول في هاتين القضيتين ربما يكون من المفيد التعرض لدوافع هذا القرار ورد الفعل المبالغ فيه للحكومة المصرية.

دوافع النقد ورد الفعل الزاعق:

إذا نظرنا لمناوشات الطبقات الحاكمة بصفة عامة (سواء سياسية أو اقتصادية أوغيرها) على أنها إما صراع على مناطق النفوذ أو على البيزنس، ربما يُسهل ذلك علينا فهم دوافع توجيه النقد من قبل البرلمان الأوروبي ورد الفعل المبالغ فيه من قبل النظام المصري.

فالاتحاد الأوروبي ليس له دور سياسي يذكر في الشرق الأوسط (دوره في الرباعية والأزمة اللبنانية وفى الحوارات مع إيران مثل خيال المآتة، كما أنه ليس له دور يذكر في العراق). والنفوذ الأكبر للاتحاد الأوروبي في المنطقة نفوذ اقتصادي. لكن ولأن الأمر”ما يسلمش” تضمنت بعض الاتفاقات التجارية واتفاقات الشراكة عددا من الشروط السياسية عن الديمقراطية وحفظ الأمن والسلام والتنمية وحقوق الإنسان. ومن بين هذه الاتفاقيات اتفاقية الشراكة التي وقعت عليها مصر والمعروفة باتفاقية الشراكة الأورومتوسطية ( أو إعلان برشلونة) التي تم التوقيع عليها عام 1995. وتطور الأمر ليصبح هناك برلمان أورومتوسطي يجتمع بصفة رمزية على غرار البرلمان الأوروبي نفسه. ويمكن النظر للقرار الأخير على أنه محاولة لاستعادة نفوذ سياسي رمزي في الشرق الأوسط عن طريق تفعيل البنود السياسية من هذه الاتفاقيات. كما أن الاتحاد الأوروبي لديه أزمة مصداقية أمام الرأي العام الأوروبي بسبب جرائم التعذيب المُنظم والمحاكمات العسكرية وسجن الصحفيين والمدونيين في دول المنطقة، ومن بينها مصر والتي تعيش في حالة طوارئ لأكثر من ربع قرن. والدليل على ذلك عدم رضوخ البرلمان الأوروبي للتهديدات المصرية قبل إصدار القرار بأن البرلمان المصري سوف يقاطع مستقبلاً المشاركة في أي اجتماعات مع نظرائه الأوروبيين. كما يذكر أن القرار قد صدر بأغلبية كبيرة حيث قام بالتصويت لصالح القرار 52 دولة من الحاضرين وعددهم 59، كما امتنع التسعة الباقون عن التصويت.

أما النظام المصري الحاكم فقد قام بسلسلة من ردود الأفعال المبالغ فيها جداً مثل: مقاطعة البرلمان الأورومتوسطي وتحريض الدول العربية على عدم حضوره، ومقاطعة بعض الاجتماعات مع الاتحاد الأوروبي (مثل اجتماع اللجنة المصرية – الأوروبية وهى أحد لجان التعاون الفرعية للشئون السياسية)، واستدعاء 27 سفير أوروبي في مصر من قبل وزير الخارجية المصرية، وتدشين حملة إعلامية ضخمة ضد القرار، ناهيك عن جلسة مجلس الشعب المخصصة للصراخ ضد القرار، وتصريحات رئيس الجمهورية.

يمكننا فهم هذه المبالغة بوجود “بطحة” كبيرة على رأس النظام المصري بسبب سجله السيء المعروف دولياً في حقوق الإنسان. والسبب الثاني لرد الفعل المبالغ فيه هو أن النظام المصري يريد ألا تكون هذه المرة سابقة يستمر بعدها الاتحاد الأوروبي في انتقاد حقوق الإنسان في مصر في المستقبل القريب. وقد قال بعض المحللين إن الطبيعة غير الملزمة للقرار سمحت للحكومة المصرية باستعراض عضلاتها واستغلال المناسبة للاستهلاك المحلي، أو للزعم بوجود تحسينات في مجال حقوق الإنسان تشهدها مصر. وربما يكون هذا صحيح. ففور القرار، وفى سياق الحملة الإعلامية ضده، أجرت صحيفة الأهرام حوارا مطولا مع بطرس غالي، رئيس المجلس القومي لحقوق الإنسان، أشاد فيه بسجل مصر في حماية هذه الحقوق. كما شهد الإعلام المرئي والمسموع إشادة مكثفة بمبادرات تحديث السجون ومعاملة السجناء، وقام وزير الداخلية بعمل حوارات عن طريق الفيديو مع بعض السجناء في السجون المصرية. أما السبب الثالث لرد الفعل المبالغ فيه فهو ارتباط هذا القرار بالمفاوضات التجارية بين مصر والاتحاد. فيذكر أن الاتحاد الأوروبي هو أكبر شريك تجاري لمصر، حيث تصل نسبة واردات مصر من الاتحاد إلى 43% من إجمالي واردات مصر، أما نسبة صادرات مصر إلى الاتحاد فتقدر بـ 31 %، مشتملة على الغاز الطبيعي، وذلك وفقاً لإحصاءات الاتحاد نفسه.

عدالة قضية حقوق الإنسان:

لعل القضية الأساسية التي يجب أن نتعرض لها هنا هي القضية التشويش على عدالة قضية حقوق الإنسان بسبب نفاق الطبقات الحاكمة. فهناك مشكلة كبيرة ترتبت على الصراخ والنفاق المتبادل بين النظام المصري ونظرائه الأوروبي والأمريكي من جانب، وأيضاً بين النظام المصري وبعض النخب السياسية في الداخل من جانب آخر. وقد نتج عن التسييس المستمر لحقوق الإنسان تشويشاً على عدالة القضية. فالطبقات الحاكمة الأوربية تستخدمها بانتهازية للضغط أو التدخل في شئون الدول الصغرى. أما كثير من النخب السياسية فقد تاجرت بالقضية وحولتها لقضية بيزنس أو على الأقل قضية نخبوية. أما نظامنا الديكتاتوري فقد سخر آلته الإعلامية لتشويه كل كلام حول حقوق الإنسان. والضحية في كل الظروف هم المواطنون الفقراء.

والمشكلة الحقيقية هنا إن بعض اليساريين والقوميين وأيضا الإسلاميين قد انجروا وراء هذه المعارك الكلامية، وتناسوا أن نقد نفاق وجرائم النظام المصري والطبقات الحاكمة الأوربية، وتجارة بعض النخب بالقضية (الكثير من منظمات حقوق الإنسان)، يجب أن يسير جنباً إلى جنب مع جعل قضايا الحريات قضية جماهيرية. وتعتبر الأزمة الأخيرة مثالاً للاختزال المتعمد الذي يقوم به بعض اليساريين والقوميين الذين أكتفوا مثلاً بنقد “ازدواجية المعايير الدولية ونفاق الاتحاد الأوربي” أو أن “منظمات حقوق الإنسان ليست فوق مستوى الشبهات”. القضية المهمة التي تناساها هؤلاء أن قضية الجرائم المنظمة التي يرتكبها النظام المصري هي قضية عادلة، حتى ولو أصبحت “علكة” تلوكها أنظمة حاكمة مجرمة (يضغط كبيرها على صغيرها باسم حقوق الإنسان بسبب المصالح أو بسبب المنظر العام الدولي)، وحتى لو حولها بعض المثقفين إلى قضية نخبوية وقضية بيزنس. والمنطق يقول أن أي قضية لا تفقد عدالتها بسبب أن المصادفة قادتها لأيدي محامين غير شرفاء تولوا الدفاع فيها أو أنها ذهبت إلى محكمة غير نزيهة. ويمكن في هذا ذكر أن هناك بعض الجهود التي قام بها بعض اليساريين والنشطاء السياسيين من كافة القوى لجعل قضايا الحريات والحريات النقابية قضايا جماهيرية أو لتأسيس بعض التجمعات السياسية أو الشعبية، ومنها على سبيل المثال جمعية حماية سجناء الرأي واللجنة التنسيقية للحقوق والحريات النقابية وتجمع “مصريون ضد التعذيب”.

والقول بعدالة القضية لا يجب أن ينسينا أن الإطار الذي يتحدث فيه كثيرون عن حقوق الإنسان لا يتجاوز الدفاع عن حقوق النخب أو الحقوق المدنية والسياسية بشكل عام. يتناسى الجميع أن جزءاً لا يتجزأ من الحقوق الآدمية للبشر هو عدم تشريدهم وتعريضهم للجوع.

بين التدخل الخارجي والاستقواء بالخارج .. يا قلبي لا تحزن:

أما القضية الأساسية الأخرى فهي قصة التدخل الخارجي أو الاستقواء بالخارج. وربما يكون هناك خلط بين المصطلحين. فنحن نعرف أن التدخل الخارجي هو كلمة تشير إلى تدخل بعض الدول أو الأطراف الدولية في الشئون الداخلية لدول أخرى، باعتبار أن ذلك يعتبر تدخلاً في أمور تتعلق بسيادة الدولة على أراضيها. لكننا في الآونة الأخيرة بدأنا نعرف هذا المصطلح الآخر، “الاستقواء بالخارج” وخاصة بسبب ما يسلم به الجميع من حماية الإدارة الأمريكية للنظام المصري الحاكم في مقابل خدمات هذا الأخير للمصالح الأمريكية في المنطقة.

ونعتقد أن مبالغة الحكومة وأبواقها الإعلامية في اتهام الذين ينشرون جرائم النظام المصري بأنهم يمسون بسمعة البلاد يعتبر مجرد خطاباً تشويشيا ً علي الموضوع الأساسي وهو جرائم النظام المصري. والرد المبسط على ذلك هو أنه لا يوجد “دخان من غير نار.” وجرائم النظام المصري معروفة للجميع، ليس فقط بسبب نشر النخب لها في الداخل والخارج، ولكن لأن كل بيت وكل شارع مصري به من اكتوى بنار ظلم الديكتاتورية المصرية. والقول بذلك ليس معناه التقليل من الجرائم التي ارتكبتها وترتكبها بعض النخب التي تتاجر بقضية الحريات.

والمشكلة الحقيقة التي نراها هنا هي انزلاق البعض في الهجوم على “بعبع” التدخل الخارجي، بدون النظر في السياق الذي تحدث فيه هذه القضية. فمن جهة أولى ينبغي أن نتذكر أن الطبقة الحاكمة المصرية نفسها هي التي تسمح مراراً وتكراراً بتدخل الأمريكيين (والأوروبيين) في ما تسميه الحكومة بالشئون الداخلية وذلك مرة عن طريق رعاية مصالحهم في المنطقة، ومرة أخرى عن طريق هذه الاتفاقيات التجارية التي تحمل شروطاً سياسية. المفارقة في الأزمة الأخيرة أن النظام المصري بدا وكأنه يشفق على الفلسطينيين، وهو النظام المتورط في الجرائم التي ترتكب ضد الفلسطينيين ( أليس الحصار والقتل المستمر واغتصاب الأرض والاحتلال والتواطؤ ضد حق اللاجئين في العودة من قضايا حقوق الإنسان برضه ولا أيه؟). والكلام عن السيادة المصرية من قبل الحكومة المصرية كلام سخيف، لأن النظام المصري تناسى أن السيادة هي للشعوب (على حد تعبير بعض المنظمات المصرية)، وذلك وفقا للحد الأدنى لأي ديموقراطية برجوازية بها دستور محترم. والسيادة ليست للحكومات والطبقات الحاكمة (النظام المصري يدافع عن جرائمه على طريقة “شعبي وأنا حرة فيه”).

ومن جهة ثانية نعتقد أنه ينبغي التفرقة بين فضح تعاون ونفاق الطبقات الحاكمة من جانب (عن طريق الاستقواء الخارجي أو”الاستقواء” بالظالم الأكبر، وهنا نتذكر مباشرة الحكومة المصرية والادارة الأمريكية) وبين طلب الفقراء والمنظمات الشعبية (وكل ضحايا حقوق الإنسان) التضامن الدولي. وعندما تقوم المنظمات الشعبية والنقابية والرأي العام بطلب الدعم والتضامن الدولي، فأن هذا لا يمكن أن يتضمن اللجوء إلى طبقات حاكمة (حكومات خارجية). فهؤلاء هم أعداء الشعوب والفقراء في كل مكان. فبرغم الشد والجذب بين هذه الأنظمة، إلا أنه يجمعهم شيء واحد هو العداء لأي حلول جماهيرية لمشاكل الفقر والظلم والعدالة في العالم. ويذكر أن أحد المحللين السياسيين قد قال تعليقاً على الأزمة الأخيرة “الموضوع ها يخدله يومين، وبعدين سوف يرجع الطرفان للتفاوض حول الاتفاقيات التجارية بينهما”. كما أن المظلومون يلجأون لطرق شريفة في نضالهم، فهم لا يلجأون للجيوش والقمع ولكن فقط يعتمدون على الدعم المعنوي (عن طريق إرسال الرسائل وتنظيم المظاهرات التضامنية وتنظيم حملات الرأي مثلاً) من نظرائهم في العالم. والقول بغير ذلك معناه الانحياز لقيم الظلم والاستغلال. ولكن لا ينبغي أن ننسى أن النضال الجماهيري في الداخل أولاً هو الضمان الحقيقي لانتصار الفقراء في معركتهم ضد كل الطغاة.