حرب على الإرهاب.. أم قمع للحريات؟

لا تسقط الأنظمة الحاكمة فجأة، بل تتلقى ضربات تجعلها تترنح، ولكنها تعود دائماً لمقاومة سقوطها، وتظل تبدل أقنعتها لتوهم الجماهير بأن التغيير قد تم بالفعل. وتبدو الثورة المصرية مثالا جيدا على ذلك.
منذ قيام الثورة ومؤسسات الدولة المختلفة تتعمد إجهاض الثورة ونشر الفوضى والبلطجة. حدث ذلك عندما قامت وزارة الداخلية بفتح السجون للبلطجية إيان ثورة يناير، فضلاً عن التقاعس المتعمد عن القيام بدورها المفترض فى حماية المواطن كنوع من أنواع العقاب الجماعي للجماهير على القيام بالثورة، مع التسليم بمجموعة مكاسب للثورة مثل إطلاق حرية بناء الأحزاب وتغيير الدستور وغيرها مما تحقق عقب ثورة يناير.
ومع إندلاع موجة ثورية جديدة فى 30 يونيو الماضي أرادت المؤسسات القمعية إيهام الشعب بالإنحياز إلى ثورته ضد نظام مرسي المستبد. لقد كان ذلك ملحوظا فى بيانات المؤسسة العسكرية وتواجد عربات ورجال الشرطة داخل صفوف المتظاهرين كنوع من أنواع “التصالح مع الشعب”، وكأن تلك المؤسسات تحولت فى يوم وليلة من مؤسسات قمعية إلى مؤسسات وطنية تنحاز إلى إرادة الجماهير!
لا عجب فى ذلك، فالإطاحة بنظام مرسي وجماعة الإخوان المسلمين كانت الخيار الوحيد أمام تلك المؤسسات كمحاولة لإعادة السيطرة على مفاصل الدولة من جديد وإيقاف محاولات “الأخونة” والتي كانت تتم على قدم وساق، وكذلك التخلص من نظام “فاشل” و”عاجز” عن قمع الثورة، بالإضافة طبعاً لتقديم المؤسسة العسكرية والداخلية كمنقذ للشعب من حكم مرسي، بدلاً من أن تعيد الثورة تقديم نفسها بطريقة أكثر جذرية عبر الإطاحة بنظام الجماعة دون مساندة من مؤسسات الدولة.
ومع انتشار الحملات الإعلامية المكثفة التي تضخم فكرة وجود تنظيمات إرهابية “فاشية” تسعى لتدمير البلاد، وتصوير أي تحركات سياسية ذات مضمون إجتماعي بأنها من فعل تنظيمات سرية تسعى لنشر الفوضى والتخريب، فضلاً عن كونها تحمل أجندات خارجية، لم يكن الأمر بحاجة إلى أكثر من مجرد الرقص على إيقاع “الوطنية” والحرب على الإرهاب لوأد الحركة الجماهيرية.
إن تصدير الرعب للجماهير سَهّل ظهور تلك المؤسسات كالبطل المنقذ من كل هذه الأهوال التي تم تصويرها في الإعلام، وساهم في جعل رجوع الدولة البوليسية مرحباً به من الكثيرين أحزاب وحركات وأشخاص كانت محسوبة على قوى الثورة.
الدولة والقمع.. ثنائيات لا تنفصل
إن الأجهزة القمعية لأي دوله مستبدة تمثل الجهاز المناعي الذى يحميها من الفيروسات (الثورات الشعبية)، يتغير أسلوبها فى التعامل وفقا لطبيعة كل نظام تعمل بداخله، فخلال فترة حكم مبارك كانت تسيطر على الشعب عن طريق الخوف من قوتها البوليسية المستبدة، وبالتالي فأول ما تم تدميره من قبل الجماهير الثائرة أثناء الثورة كانت مؤسسات تلك الدولة البوليسية (أقسام الشرطة).
وبعد إنهيار هذا النوع من القمع جاءت ضرورة تغير طريقة ممارسته وإستخدام أنواع أخرى أكثر فاعلية كالقمع العقائدي، والذي إستخدمته جماعة الأخوان المسلمين، فتم التعامل مع أي محاولة لمعارضة النظام على أنها محاربة للعقيدة، لقد كانت المؤسسات والقنوات الدينية إحدى أليات هذا القمع، ومع وجود الفوضى وتخبط المعارضة وعدم ثقتها في قدرة الجماهير على الإطاحة بحكم الإخوان وهرولتها نحو المؤسسة العسكرية والداخلية واستعطافها للتدخل للإطاحة بمرسي. كان رجوع الدولة القمعية المتمثلة فى المؤسسة العسكرية الأكثر تنظيما على الساحة مرحبا به من قبل الكثيرين، بالطبع إستغلت الدولة هذا الترحيب وبدأت بالعودة بكامل قوتها القمعية من جديد تحت شعار “الحرب على الإرهاب”، ذلك الشعار الذي إتخذته غطاءاً لقمعها وفشلها عن القيام بدورها الأساسي المفترض فى تأمين الأقباط والكنائس والأهالي من هجمات جماعة الإخوان المسلمين، لقد تميز هذا القمع بكونه ممتزجاً ببعض الخبرات السابقة من قمع عقائدي والمتاجرة بالوطنية، فإما أن تتعاون مع جيشك ضد الإرهاب وإما أن تقف مع المعارضة الإرهابية!
وعلى الفور وبإسم الحرب على الإرهاب تم فرض القوانين القمعية والقبض العشوائي وتلفيق التهم للكثيرين وتمديد حالة الطوارئ لمدة شهرين.
ولأن الحراك الطلابي والعمالي يمثلان الخطر الدائم لكل الأنظمة القمعية، إستخدمت الدولة كل أجهزتها القمعية فى فض الإضرابات والإعتصامات العمالية والطلابية. فمثّل إقتحام دبابات الجيش لشركة غزل المحلة لإرهاب العمال المطالبين بحقهم فى زيادة الأرباح وتطهير الإدارة من الفساد المضربين داخل المصنع صورة حية لهذا القمع ضد طبقات الشعب الكادحة، وبأسلوب أكثر عنفاً تم فض إعتصام عمال السويس للصلب بأمر مباشر من رئيس المصنع، والقبض على بعض القيادات العمالية والتهديد بالفصل للباقين.
ولم تتوقف المحاولات المستمرة منذ بداية الثورة وحتى الآن فى السيطرة على الجامعات من خلال التلويح بفرض القوانين القمعية (الضبطية القضائية)، أو حتى ممارسة العنف ضد الوقفات السلمية كما حدث فى 8 سبتمبر الماضي من فض لإعتصام العشرات من طلاب الفرق الأولى لكليات جامعة الإسكندرية، أُطلِقَ خلاله الرصاص الحي فى الهواء وأُلقيَ القبض على عدد من الطلبة. وبنفس الطريقة القمعية فضت الشرطة إعتصام طلاب المعاهد الصناعية أمام وزارة التعليم العالي. وبعد كفاح الطلاب لحصولهم على الحكم القضائي بمنع تواجد الحرس الجامعي الذي مارس القمع السياسي لعدة سنين، عاد شبح الضبطية القضائية يلوح في الأفق.
ولأن الإعلام الرأسمالي له نفس المصلحة، فكان محو الحقائق وتشويه المعارضة هو مهمته الأساسية، ووُضِعَت المعارضة كلها فى كفة واحدة مع كيل الاتهامات والتشهير بـ”التنظيمات السرية التي تسعى للتدمير والفوضى”.
كل ذلك من أجل التغطية على الممارسات القمعية التي تمارسها أجهزة الدولة ضد الجماهير. إن ما يحدث الآن فى سيناء من حملات زائفة بهدف القضاء على “الإرهاب” يدعونا للتساؤل من الذى ترك سيناء كل هذه العقود لتصبح مأوى للإرهاب كما يدعون؟ ومن الذى تعمد التعامل مع المواطن السيناوي كمواطن درجه ثانية مشكوك دائما فى وطنيته؟
واستمر مسلسل السيطرة على الطبقات الكادحة وتكوين دولة رأسمالية مستبدة، والذي يقوم ببطولته وإخراجه أجهزة الدولة القمعية وليس لهذا الشعب الحرية فى إختيار دور البطولة المناسب له، مُحاصراً بمؤسسات قمعية تصدر القوانين والقرارات والدساتير التي تضمن بقائها لأطول فترة ممكنة، مثل التعليمات الصادرة من الأجهزة الأمنية والمخابرات بمنع الحديث فى السياسة داخل المصالح الحكومية، وتغيير قسم الضباط فى القوات المسلحة بحيث لا يشتمل على طاعة رئيس الجمهورية وتقتصر الطاعة على القيادات العسكرية فقط.
ولم يختلف تناول دستور الإخوان أو العسكر لقضايا المرأة والعمال وأهالي النوبة وسيناء، فالحقوق ضائعة فى كل الدساتير الرأسمالية إلا لرجال الأعمال والطبقة الحاكمة.
حتى الآن لم تنجح ثورة يناير العظيمة في تغيير النظام القائم على الاستبداد والقمع والاستغلال. فنفس النظام يقوم بتبديل أشخاصه وأدواته وشعاراته وتحالفاته في محاولات مستميتة لخداع الجماهير. ولكن ما نجحت الثورة في تغييره بالفعل هي الجماهير نفسها. فالجماهير التي انتفضت في 25 يناير عادت لتنتفض في وجه المجلس العسكري ثم انتفضت في وجه حكم الإخوان ولا يبدو أنها ستكف عن النهوض قبل أن تحقق أهداف الثورة بالقضاء الكامل على النظام الذي ثارت ضده. فالجماهير التي غيرتها الثورة هي وحدها القادرة على تغيير النظام واستكمال الثورة.