23 يوليو 1952 - 5 يونيو 1967:
حصاد التغيير بدون الجماهير
من 23يوليو1952، وحتى 5يونيو1967، أي خمسة عشر عاما، وعمليا أقل من ذلك، سنوات غيرت وجه مصر، في جوانب للافضل، وفي جوانب أخرى للأسوأ. وفي هذه السطور القليلة، سنحاول استعراض الموضوع باختصار.
كان هؤلاء الضباط الصغار، من أبناء الموظفين والتجار والفلاحين المتوسطين والصغار، ممتلئين بمشاعر معاداة الاستعمار وكبار الملاك والرأسماليين، وكذلك السراي وفساد الأحزاب. لكنهم أيضا، كانوا يحملون شكا عميقا في الجماهير وخوفا من السقوط إلى صفوف المعدمين.
بينما كانت الحركة العمالية قد بلغت ذروتها بعد الحرب العالمية الثانية، وهو ما تجلى في انتفاضة1946، وارتفاع عدد النقابات إلى500نقابة، وتم الإعداد لـ"اللجنة التحضيرية للاتحاد العام لنقابات عمال القطر المصري"1951-1952. تمت صياغة مسودة برنامج يشمل المطالب الاقتصادية والتشريعية للعمال، وكان من المفترض أن يعقد المؤتمر التأسيسي "للاتحاد العام لنقابات العمال بالقطر المصري"، في27يناير1952، وتم تأجيله أكثر من مرة آخرها في14-16سبتمبر، لكن سلطات "الثورة" رفضت السماح بانعقاد المؤتمر لدواعي أمنية!. ثم عقد الضباط الأحرار محاكمة عسكرية لعمال كفر الدوار وأعدموا "خميس والبقري"، وقمعوا إضرابات عمال نسيج إمبابه بالدبابات في نفس الفترة تقريباً. بعدها حاول الضباط استغلال الطبقة العمالية في ترجيح كفتهم في أزمة مارس 1954 ثم قام الضباط بتصفية النقابات العمالية، وإنشاء اتحاد رسمي موالي في يناير1957، مع تمثيل العمال بثلاث نواب في برلمان1957. لم يكن لدى الضباط ثقة في ولاء الطبقة العاملة أو في وزنها الاجتماعي، واعتبروها تربة خصبة لـ"لأفكار الشيوعية الهدامة".
استمرت سيطرة الرأسمالية المحلية علي القطاع الصناعي، بينما أحجم رأس المال الأجنبي، رغم صدور قانون جاذب للاستثمار الأجنبي عام 1953. ثم تحولت سياسة النظام، بعد رفض البنك الدولي مشروع السد العالي، فصدر قرار تأميم قناة السويس، ثم قرارات التأميمات الكبرى التي بدأت عام1961، ودخلت مصر عصر الصناعة بخطة خمسية. نشأ القطاع العام، والذي كان يعتمد علي قيام مصانع كثيفة العمالة بما دعم المراكز الصناعية القديمة في المحلة وكفر الدوار وطنطا ودعم المراكز الجديدة في حلوان. تحول الثقل من القطاع الخاص الذي يملك 117 شركة إلي القطاع العام الذي أصبح يملك 315 شركة. مع وضع قيود علي الواردات من الخارج لصالح دعم الإنتاج المحلي. كما صدرت عدد من التشريعات الاجتماعية الداعمة لحقوق العمال في الأجر والتأمينات الاجتماعية، إلى جانب صدور تشريعات، صورية، بمشاركة العمال في الأرباح والإدارة.لكن إدارة شركات القطاع العام قد انتقلت في غالبيتها لـ"أهل الثقة" من ضباط يوليو ومن يؤيدهم أو من أصحاب الشركات القديمة بعد التأميم، كما حدث في شركات المقاولات، مما اوجد وضع مريض ظهرت أثاره في المراحل التالية.
تبنى النظام الناصري "برنامج رفاه" فتحملت الحكومة المسئولية عن تقديم الخدمات الاجتماعية الأساسية للمواطنين من صحة وتعليم، ودعم السلع الغذائية الأساسية، والإسكان وغيرها. وفي منتصف الستينات ومع نقص السلع وارتفاع أسعارها، خاصة بعد النكسة، قدمت الحكومة نظام البطاقات التموينية لعدد محدود من السلع.
صدرت تشريعات الإصلاح الزراعية على مرحلتين، واحتكرت الحكومة مد الفلاحين بالتقاوي والاسمدة، وكذلك شراء المحاصيل الرئيسية، وكانت الجمعيات الزراعية تقوم بدور حيوي لصغار المزارعين. اقتصرت حركة الفلاحين في مواجهة كبار الملاك في الخمسينيات على صغار الملاك، ولم يلعب الفلاحون الأجراء المعدمون إلا أدوارًا ثانوية فيها. وقد أصدر عبد الناصر قرارا بتشكيل لجنة تصفية الإقطاع برئاسة عبد الحكيم عامر، لكن الأحداث تلاحقت بعد ذلك لتعيد ترتيب الأوراق بطريقة مختلفة خاصة فيما بعد يونيو 1967.
أدت سياسيات رأسمالية الدولة الناصرية إلي أكبر تغير في التركيبة الطبقية للمجتمع المصري. وخلال الفترة ما بين1954: 1962تضاعفت ميزانية الجامعات ثمانى مرات، وزادت ميزانية التعليم ككل بنسبة200%. وقد زاد عدد الطلاب في المرحلة الابتدائية بنسبة234%، والطلاب الجامعيين بنسبة325%. ولم تكن هذه الزيادة الضخمة مرتبطة باحتياجات سوق العمل بقدر ما كانت مرتبطة برغبة النظام الناصري في الاستيعاب السياسي والاجتماعي للطبقة الوسطي الحديثة.
مع الخطة الخمسية الأولى والمشروعات الطموحة كالسد العالي ومصانع الألومونيوم والحديد والصلب والتوسع الكبير في القطاع العام في ظل سياسة التأميم، أصدر النظام القانون رقم 185 لسنة 1964 الذي يلزم الحكومة بتعيين كافة خريجي الجامعات والمعاهد في وظائف حكومية أو في القطاع العام. وقد وصل عدد المعينين60% من إجمالي الخريجين، أكثر من90%من المهندسين والعلماء، و87%من الأطباء، وأكثر من 60% من المحامين، كما تطورت لوائح التأمين والمعاشات. كانت هذه هي الفترة الذهبية بمعنى الكلمة لموظفي الدولة.
إلا أن فشل خطة التنمية الخمسية الثانية في تحقيق أهدافها، أدى إلى انهيار سريع في المستوى المعيشي وفرص التشغيل للخريجين، وبدأت الشروخ تظهر في بنية النظام. وتبع هزيمة 1967 المزيد من الإجراءات التقشفية، وتحملت الجماهير الثمن من قوت يومها، خاصة الموظفين الحكوميين. إلا أنه لايمكن إنكار دور القطاع العام في توفير الاحتياجات الأساسية ودعم المجهود الحربي وإعادة بناء ما خربه العدوان. والمثال الابرز، هو عدم توقف مشروع السد العالي.
تم حل جميع الأحزاب السياسية والعلنية أو السرية(مارس 1954). استخدم النظام أساليب التعذيب الوحشي والإعدامات والمحاكمات العسكرية لأبرز قوتين منظمتين على الساحة، الشيوعيين والإخوان. وحل جميع التنظيمات الجماهيرية وعدم السماح لأي منها بالتواجد إلا إذا كانت تابعة للاتحاد القومي أو الاتحاد الاشتراكي،(نقابات عمالية– نقابات مهنية– اتحادات فلاحين–جمعيات ثقافية أو اجتماعية..إلخ). فكانت نكسة1967 فرصة لانفجار المكبوت، ولم يكن من الممكن قمعها، ولكن بعد مدة وجيزة، رُفع شعار:"لا صوت يعلو فوق صوت المعركة". فتم قمع المظاهرات، وفصل الطلاب من الجامعة وتشريدهم، واحتواء قيادات الطلبة داخل أروقة التنظيم الطليعي والاتحاد الاشتراكي.
عبد الناصر كان مستعدا لاتخاذ مواقف جريئة في مواجهة الاستعمار، ومستعدا لمناطحة إسرائيل ومناوشة أمريكا ولدعم الثورات التحررية العربية والإفريقية، لكنه لم يكن مستعدا لتحرير الجماهير وتعبئتها لخوض الحرب ضد الإمبريالية حتى النهاية. خيار حروب التحرير الشعبية ليس مجرد خيار عسكري. فالجيوش التقليدية هي انعكاس مركّز للطبيعة الطبقية للمجتمع بأسره. لا يمكن للسلطة السياسية خلق جيش شعبي في مجتمع قائم على القهر الطبقي. من هنا فإن نظام عبد الناصر وقع في التناقض الذي لا حل له: إما أن يندفع يسارا في عملية تفكيك نظام القهر والاستغلال في المجتمع بأسره، حتى يستطيع خوض حربه ضد الإمبريالية والصهيونية حتى النهاية، أو أن يلعب لعبة التوازن الدولي لعله يتمكن من قهر الإمبريالية بالمقامرة على دعم "الصديق السوفيتي".
لم تشذ الناصرية كثيرًا عن تراث البرجوازية المصرية سواء فيما يتعلق بالعجز عن تعبئة الجماهير ضد الإمبريالية أو في موقفها من علاقة الدين بالدولة. فقد جعل عبدالناصر "الإسلام الدين الرسمي للدولة" وفقًا للدستور؟ وجعل مادة الدين مادة أساسية في مختلف مراحل التعليم، وهو ما كان نتيجته أن بدأ تلاميذ المدارس يعرفون التفرقة الدينية وهم بعد صغار، ثم أن تأميم عبد الناصر للأزهر ربط بين الدين والدولة، وقد استخدم عبد الناصر شيوخ الأزهر المعينين في إضفاء الشرعية الدينية على سياساته.
كانت الإدارة الأمريكية تُصعد ضغوطها على عبدالناصر، منذ1966، تمهيدا للقضاء عليه. وكانت بنود الإنذار الأمريكي لعبدالناصر قبل النكسة بأقل من شهر:خروج مصر من المعركة العربية، تصفية الإتحاد الإشتراكي، وتحديد عدد الموظفين بـ180ألف. تحديد عدد الجيش بـخمسين ألف عسكري، وإلغاء التأميم وتصفية القطاع العام. وهو ما يعني تصفية كل ما حققه عبد الناصر، فكان من الحتمي، أن يرفضه.
كان تصور النخبة المصرية الحاكمة، بجناحيها العسكري والمدني، أنه يمكن الحصول على الكثير، إذا أمكن إيجاد مكان بجوار واشنطن، وأن إسرائيل في حد ذاتها ليست خطرا عليها. كان الاعتقاد بأن إحداث توتر عسكري يمكن أن يحقق نتائج إيجابية.
كانت هزيمة 1967 المدوية قد تكفلت بتوضيح حدود المشروع الناصري فيما يتعلق بالمواجهة مع إسرائيل والإمبريالية. وفيما طرح كثيرون، والشيوعيون من بينهم، أن الأزمة حلها يكمن فقط في ترميم وتطهير النظام الناصري وإعطاؤه صبغة شعبية وتقدمية. عقب الهزيمة، برزت قوة تأثير جناح اليمين داخل النخبة الحاكمة المصرية، وبوجه عام أضحت جميع القوى المؤثرة على صناعة القرار تنادي بالحوار مع الولايات المتحدة، وتقديم قدر من التنازلات الداخلية والخارجية، لكسب رضاء الغرب، والولايات المتحدة بالذات.
امتصت الجماهير صدمة الهزيمة بسرعة مدهشة، وخرج يهتف "هنحارب!"، تعبيراً عن رفضه التسليم بالهزيمة وإصراره على المقاومة. وكانت شعارات "لا لأمريكا..لا للدولار..لا قائد إلا جمال" تعبيراً عن وعي الجماهير التلقائي بطبيعة المشروع الجديد المطروح. فلم تكن الجماهير الجاهلة والمغيبة تتحرك كالقطيع دفاعاً عن مشروع ثبت فشله، بل بدا أن تظاهرات9،10يونيو كانت تعبيراً عن روح قتالية جديدة تولدت لدى الشعب.
لقد كانت النكسة هزيمة مشروع اقتصادي-سياسي-اجتماعي. وظهرت بوادرها قبل 67 بسنوات. وقد رصدت الدراسات في مصر-في مجلة الطليعة- تناقضات المشروع، مع تبلور ما كان يسمى "الطبقة الجديدة". إن تفاقم الأزمة، جنبًا إلى جنب مع تزايد السخط في صفوف جماهير العمال والطلبة والارتفاع الملحوظ في مستوى الصراع الطبقي بدءًا من عام 1968، كان مبشرًا بميلاد واقع جديد خصب ممتلئ بإمكانات التجذير والثورة والتحرر. وفي الوقت ذاته، فإن مرارة الواقع والإحباط الناجم عن هول الهزيمة كان ينذر بمستقبل صعب يزداد فيه الاغتراب.
*مقال أرشيفي من جريدة الاشتراكي، العدد 45، أغسطس 2010