جذور المسألة القبطية
بلغ التوتر الطائفي في المجتمع المصري حدودًا خطيرة فى السنوات الأخيرة. ويتخذ هذا التوتر أشكالاً متفاوتة الحدة لكنه حاضر بقوة على الدوام. ففى الحالات القصوى كثيراً ما نشاهد مشاجرة عادية بين مسلم ومسيحي وقد تحولت فجأة إلى صراع طائفي عادة ما يسفر عن حدوث اعتداءات على ممتلكات الأقباط، وأحيانا أرواحهم. وقد يؤدي قيام الأقباط بأداء الصلاة فى منزل إلى نتيجة مماثلة بدعوى السعي لتحويل المنزل إلى كنيسة. وإذا تحولت مسيحية إلى الإسلام تندلع الاحتجاجات بين الأقباط، والتي يكون دائما مقرها الكنائس. وبخلاف هذه الحالات القصوى من الاحتقان الطائفي، نجد المشاعر غير الودية تجاه الأقباط، موجودة تحت السطح بشكل دائم فى المدارس وأماكن العمل.
ومن الجدير بالملاحظة أن تصاعد التوتر الطائفي جاء مقروناً بتصاعد الحركة الاجتماعية إلى حدود لم تشهدها مصر منذ عقود. فالحالة الراهنة من التحرك الشعبي الذي شمل قطاعات واسعة من عمال وموظفين وفلاحين ومهمشين، احتجاجاً على العدوان المستمر على حقوقهم من جانب الدولة والرأسماليين، لا يمكن التقليل من أهميتها. فقد عانى المصريون من حالة من الإفقار المستمر عبر نحو ثلاثة عقود، نتيجة تبني سياسات التحرير الاقتصادي القائمة على تخلي الدولة عن دورها في تقديم الخدمات الأساسية للشعب، وتقديم كافة التسهيلات لرأس المال الخاص، على حساب العمال بالطبع. ومن ثم كان رد الفعل الواسع المتمثل في الحركة الاجتماعية الراهنة. وبالرغم من أن هذه الحركة الناشئة ما تزال تتسم بالتشتت والعزلة بين أقسامها، إلا أنها تفتح أفاقاً واسعة للتغيير.
ومن هنا أيضاً تأتي أهمية المسألة القبطية. فهذه المسالة حاسمة في تحديد مستقبل الصراع الطبقي في مصر، بين المستَغَلين والفقراء من جهة، ومن مستَغِليهم من الرأسماليين المتحالفين مع الدولة من جهة أخرى. ذلك أنه ببساطة بدلاً من أن يبحث الفقراء من الجانبين عما يوحدهم من مصالح ويقفون جنبًا إلى جنب فى مواجهة المتسببين في شقائهم، يمكن أن يتخذ الصراع مسارًا من العداء والانقسام على أساس الدين، وهو صراع سيخرج منه الطرفان خاسرين، بينما يكون الرابح الوحيد هو الدولة والطبقة الرأسمالية بمسلميها ومسيحييها.
تحاول هذه الورقة طرح بعض الأفكار عن المسألة القبطية، ومناقشة الحلول المطروحة للتعامل مع هذه المسألة. وتجدر الإشارة في البداية إلى أن مساحة هذه الورقة لا تسمح بالعودة إلى أصول المسألة القبطية في فترة ما قبل الدولة الحديثة، بالرغم من أهمية ذلك. ومن ثم فإن نقطة البداية هنا الدولة الحديثة التي بدأت مع عهد محمد علي. ومع أن مشكلة الأقباط كانت حاضرة قبل ذلك بقرون ـ منذ دخول الإسلام إلى مصر ـ إلا أنها اتخذت شكلاً وأبعادًا مختلفة في ظل الحداثة. فقبل الحداثة كان هناك إطار ثابت يحكم العلاقة، ولم تكن مسائل الحقوق والمساواة مطروحة. أي أن الأقباط كانوا يدفعون الجزية والخراج، ويبقون خارج مراكز السلطة الحكومية باعتبار أن الذمي لا يحق له التمتع بمكانة قانونية تجعله يتحكم بشئون المسلمين. وفي نفس السياق، لم يكن للذمي أهلية للشهادة ضد مسلم. وكانت كل طائفة تخضع لقواعدها الدينية والمدنية الخاصة بها. ومن ثم، بقى المسيحيون رهناً لأهواء الحاكم، فيعيشون أحياناً في ظل أوضاع تتسم بالتسامح، وأحياناً أخرى يعانون ظروفاً شديدة القهر – الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله هو المثال الأكثر شهرة في هذا الصدد. وبداية من العصر الفاطمي فصاعداً، بدأت الاستعانة بالإقباط في إدارة الشئون المالية وجمع الضرائب، وهو ما مثل دافعًا للصراع، حيث وُضع جامع الضرائب القبطي في مواجهات مع الفلاحين الفقراء.
وفي كل الأحوال، فإن مسألة وضع ومكانة الأقباط ودورهم في الدولة والاقتصاد لم تُطرح سوى في ظل الدولة الحديثة، المرتبطة ببدء تغلغل العلاقات الرأسمالية، والذي حتم بدوره وحدة السوق ونظم الإدارة، ومن ثم فكرة الكيان الوطني الموحد حيث ينتمي الأفراد لرقعة جغرافية بعينها، ويتساوون أمام القانون. إذَن، فماهيم الأمة والقومية، والمواطنة وغيرها هي كلها مفاهيم ارتبطت بالدولة الحديثة. وفي حقيقة الأمر، فإنه في الحالة المصرية، كان الوضع العام قبل الدولة الحديثة يقوم على أن كان الحكام وأعوانهم وقادة الجيش في غالبيتهم من غير المصريين، فيما ظلت غالبية السكان، مسلمين ومسيحيين، من الفلاحين الفقراء.
في هذا السياق، فإن مشكلة الأقليات بشكلها الراهن، دينية كانت أم عنصرية أم قومية، هي سمة من سمات العصر الرأسمالي. فمن ناحية، تطلب تطور الرأسمالية في ظروف بعينها تنبي نهج طائفي أو عنصري. ففي الحالة الأمريكية، كان دور العبيد محوريًا في زراعة القطن التي تمثل عصب الصناعة، وهو ما أسهم في تعزيز النظريات العنصرية حول تأخر السود. وفي الهند، أدى ضغط السوق الرأسمالي على المزارعين المتوسطين والصغار في القرن التاسع عشر إلى تكثيف ضغوط الاستغلال على العمال الذين لا يملكون أرضًا، وهم طائفة الداليتس (المنبوذين) مما أدى بدوره إلى إعادة إنتاج النظام الطائفي. وكان التأكيد على تفوق البروتستانت مسألة مهمة للإمبريالية البريطانية من أجل مقاومة الحركة الوطنية في إيرلندا التي شهدت موجات صعود عديدة منذ نهايات القرن السابع عشر وحتى عشرينيات القرن العشرين. من ناحية أخرى، تظل إثارة الانقسام بدافع الاختلاف الطائفي أو العرقي دائما صمام أمان لاحتواء النزاع الطبقي، حيث تُقدم أسبابًا يمكن أن تبدو في نظر الطبقة العاملة مبررًا للانقسام. فالتمييز ضد السود أو اليهود يمكن أن يسهم في إخفاء التمييز الأوسع الذي يشمل العمال والفقراء ككل، ويخلق أوهاماً حول تفوق أو انحطاط هذا العنصر أو ذاك، كثيرًا ما تعوق الوعي بالمصالح المشتركة، كما أنه يعطي ارتياحًا لدى القطاعات الأخرى بأنها في وضع أفضل، ويصعب من تجاوز اختلافات اللون أو الدين من أجل التحرر من علاقات الاستغلال.
دولة محمد علي
دشن عصر محمد علي بناء الدولة المصرية الحديثة. ومن ثم فقد اتسم هذا العصر بتغيرات حاسمة على صعيد تحديث الزراعة وبناء المصانع وبناء وتطوير الجيش، وتأسيس جهاز دولة على درجة من التعقيد. وأدخل محمد علي لأول مرة نظام التجنيد الإجباري للمصريين، وأرسل بعثات ضمت المئات لدراسة العلوم الحديثة في أوروبا وفرنسا بشكل خاص. وإذا تتبعنا وضعية الأقباط في عصر محمد علي، نجد أنها شهدت تطورًا متسقًا مع تطور المجتمع، ولكن في حدود الدور الذي اضطلع به بعض الأقباط في القرون السابقة بشأن إدارة الشئون المالية وجباية الضرائب وحسابات الدخل. ومع توسع مؤسسات الدولة، تزايد عدد الأقباط في الدواوين الحكومية، ولكنه تركز في تلك المتعلقة بالمالية—دون أن يعني ذلك أن غالبية الأقباط في تلك الفترة كانوا يعملون في تلك المهن، حيث أن غالبية الأقباط آنذاك ظلوا من الفلاحين الفقراء. على أية حال، فقد ظلت هناك مسافة بين إصلاحات محمد علي وبين الأقباط. والمثال الأوضح على ذلك هو وضع الأقباط في الجيش. فبالرغم من أن محمد علي كان أول من قام بتشكيل جيش من المصريين – وفقاً لمرسوم عام 1822— وبالرغم من إقرار مبدأ التجنيد الإجباري للمرة الأولى والتوسع في التجنيد، حيث بلغ عدد الجيش المصري عام 1839 إلى 376 ألف جندي، لم يتم تجنيد أي قبطي. كما أن البعثات التي أرسلها محمد علي لدراسة الفنون العسكرية والطب والهندسة والزراعة والطب البيطري، والتي شملت مئات الأشخاص، لم تضم أقباطًا.
وفي عهد سعيد ثم اسماعيل حدث تطور نوعي في وضع الأقباط، في اتجاه ما يمكن أن نسميه حقوق المواطنة. فقد ألغى سعيد نظام الجزية 1855، وبدأ تجنيد الأقباط عام 1857. وشهد عهد إسماعيل تطورات مهمة فيما يتعلق بالمضي قدمًا في عملية التحديث، والاعتماد المتزايد على المصريين في الإدارة. وعندما تم سن قانون إنشاء أول مجلس نيابي لم ينص على تفرقة على أساس الدين. وعُين قضاة أقباط في المحاكم، في إطار إنشاء المحاكم الحديثة. وكان في مجلسي 1866 و 1870 نواب أقباط، كما أن في عهده جرى منح لقب “باشا” لأول قبطي. وفي عام 1880، صدر قانون القرعة العسكرية الذي نص على أن المصريين مكلفون بالخدمة العسكرية، دون النظر إلى الديانة. وفي سياق التوسع في التعليم التحقت أعداد كبيرة من الأقباط بالمدارس وأختير أقباط ضمن البعثات التي أرسلت للتعلم في الخارج. وبشكل عام، كان من أبعاد عملية التحديث التي بدأها محمد علي أن برز دور الأقباط في الحياة العامة، ودشن لمرحلة جديدة من العلاقة بين المسلمين والأقباط، بصفتهم مواطنين ينتمون إلى الدولة المصرية.
وجاءت الثورة العرابية لترفع شعار “مصر للمصريين”. وتم تعيين قبطيين في مجلس النواب التي شُكل في ظل الثورة، وألقى عبد الله النديم الخطب التي ركزت على عناصر الوحدة بين المسلمين والأقباط. وبالرغم من ذلك، لم توجد إشارات على أن الأقباط لعبوا دورًا ذا شأن في الثورة العرابية. ذلك أنها، وبالرغم من التأييد الشعبي الذي حظيت به في بعض مراحلها، كانت بالأساس ثورة للجيش بقيادة كبار الضباط من المصريين. ولما لم يكن للأقباط في تلك الفترة وجود يذكر في تلك الفئة، فقد ظلت تفصلهم عنها مسافة كبيرة. ومن ناحية أخرى، رغم أن عرابي ورفاقه رفعوا مطالب تتعلق بالجيش والديون الخارجية والعلاقة مع الدول الأوروبية وسلطات الخديوي وتعزيز الحياة النيابية، وهي مطالب في معظمها تخص المصريين بشكل عام، إلا أن تأثر الثورة بالخطاب الإسلامي، وبجمال الدين الأفغاني بشكل خاص، مثل عنصرًا حال بينها وبين جذب الأقباط.
الاحتلال البريطاني
ارتبطت العقود الأولى من بداية عهد الاستعمار البريطاني بتراجع في وضعية الأقباط بشكل عام، والعلاقة بين المسلمين والأقباط، مقارنة بالعقود السابقة التي دفعت بعملية الاندماج في الدولة. فعلى عكس ما توقع الكثيرون، اتخذ الاحتلال البريطاني سياسة تمييزية ضد الأقباط فيما يتعلق بالوظائف العامة. وكان وجهة النظر التي تبناها اللورد كرومر، المعتمد البريطاني، هي أنه يجب الحذر إزاء التعامل مع الأقباط. وكان ذلك راجع إلى الحرص على عدم استفزاز الأغلبية المسلمة، خاصة وأن الأقباط لم يظهروا ترحيبًا ولا استعدادًا للتعاون مع قوات الاحتلال. ومن ثم كان الاعتماد بشكل أساسي على المسيحيين من غير المصريين، وبشكل أساسي أولئك القادمون من الشام.
غير أن هذا الاستبعاد كان يقابله تحول آخر على صعيد وضعية الأقباط، فقد أدت تطورات القرن التاسع عشر إلى تكون طبقة من كبار التجار والأعيان الأقباط. من ناحية أخرى، شهدت هذه الفترة تزايدًا ملحوظًا فى التحاق الأقباط بالمدارس المصرية وكذلك مدارس الإرساليات الأجنبية، وهو ما وسع دائرة المتعلمين وساهم فى تكوين طبقة وسطى قبطية. وكان من أكبر الإدارات في الدولة إدارة المالية والضرائب، وهي التي ضمت أعدادًا كبيرة من الأقباط استمرارًا للدور الذي لعبوه تاريخياً في هذا المجال. وتشير إحصاءات العقد الأول من القرن العشرين، إلى أن الأقباط كانوا يمثلون 7% من المصريين، ويسيطرون على 20% من الثروة، 45% من الوظائف الحكومية و40% من الرواتب الحكومية. وحتى بافتراض عدم دقة هذه الأرقام أو تحيزها، إلا أنها تظل ذات دلالة، وتساعد على فهم نشأة المسألة القبطية في تلك الفترة. فقد أصبحت هناك طبقة عليا من التجار والأعيان وطبقة وسطى من المتعلمين، تتبنى الدفاع عن حقوق الأقباط، وترفع مطالب المساواة في الوظائف القيادية، والمساواة في المعاملة عبر أتخاذ أيام الأحد عطلة، وتدريس الديانة المسيحية في المدارس…إلخ. ولا يعني الأمر أن الأقباط يمثلون الطبقة الغنية في مواجهة المسلمين الذين يمثلون الفقراء، ذلك أن أغلب الأقباط آنذاك كانوا من الفلاحين الفقراء مثلهم مثل المسلمين كما سبق القول، لكن تطور نخبة ثرية ومتعلمة شجع على طرح المسألة في الحياة السياسية المصرية.
وفى تلك الفترة، كان على رأس الحركة الوطنية الحزب الوطنى بقيادة مصطفى كامل. ورغم أن الحزب ضم فى لجنته التنفيذية أثنين من الأقباط—هما ويصا واصف ومرقص حنا— إلا أنه اتخذ ميلاً إسلاميًا ودعا للانضواء تحت السيادة العثمانية، باعتبار أن ذلك وسيلة لتحقيق الاستقلال عن بريطانيا. وارتبط الحزب بشخصيات إسلامية أهمها الشيخان علي يوسف وعبد العزيز جاويش، اللذين كانا من أكثر الدعاة تحمساً لفكرة الجامعة الإسلامية. وكان لهذا التوجه أن خلق هوة بين الحزب والأقباط. وعقب وفاة مصطفى كامل، إزداد الأمر سوءًا، حيث فقد محمد فريد الذى ترأس الحزب التأييد المحدود الذى كان يتمتع به الحزب بين الأقباط، حينما أعلن احتجاجه على تعيين بطرس غالى رئيساً للوزراء عام 1908. وبشكل عام شهدت السنوات العشر من 1908 إلى 1918 ـ التى اتسمت بتراجع الحركة الوطنية، تصاعداً واضحاً فى التوترات الطائفية، وتدهوراً فى العلاقات بين المسلمين والأقباط. وكانت مظاهر هذا التوتر عديدة. فقد اشتعلت الحرب بين الصحف ذات التوجة الإسلامى (اللواء والمؤيد)، والصحف القبطية (مصر والوطن)، حول قضايا حقوق الأقباط فى الوظائف، وتدريس الديانة المسيحية فى المدارس، وسجل المسلمين في مصر منذ عهد عمرو بن العاص. وأدى اغتيال بطرس غالى عام 1911 على أيدى شاب له صلة بالحزب الوطنى إلى مزيد من التردى.
وفى ظل هذا المناخ انعقد المؤتمر القبطى فى أسيوط عام 1911، وناقش عددًا من المطالب، على رأسها اتخاذ أيام الأحد عطلة رسمية، والمساواة بين الأقباط والمسلمين فى تولى الوظائف القيادية، وإقرار نظام يضمن تمثيل الأقباط فى المجالس النيابية – وهى المرة الأولى التى يتم بها المطالبة بنظام الحصة—وإنفاق الحكومة على المدارس القبطية من حصيلة الضرائب على الأطيان، حيث كان الأقباط يدفعون 16% منها. ورداً على المؤتمر القبطى انعقد المؤتمر الإسلامي فى القاهرة فى نفس العام. وكانت من بين توصيات المؤتمر رفض مطلب عطلة الآحاد، والتأكيد على أن دين الدولة هو الإسلام، واتخاذ الكفاءة كقاعدة للتعيين مع التأكيد على الحكومة أن تأخذ فى الاعتبار أن “الأقباط تجاوزا فيما نالوه من الوظائف الحد المعقول”، ورفض تعديل قانون الانتخاب بما يجعل لكل طائفة ممثلين فى المجالس النيابية. وعلى أية حال فقد مثلت حالة التوتر الطائفى التي سادت فى تلك الفترة، والتى عبر عنها انعقاد المؤتمر القبطى ثم الإسلامى، نقطة تحول فيما يتعلق بالمسألة القبطية، حيث كانت المرة الأولى التى تطرح فيها قضية حقوق الأقباط باعتبارهم مواطنين مصريين على بساط البحث.
وهنا تجدر مناقشة قضية علاقة الحداثة بتجاوز المسألة الطائفية. إذ أن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو لماذا لم تسفر عملية التحديث في مصر عن تسوية لمسألة الأقليات الدينية، كما حررت الثورة الفرنسية اليهود مثلا؟ من ناحية أولى، لم تكن الحداثة بالضرورة مرادفاً لتحرير الأقليات، كما تمت الإشاأعلاه— كما أن الحداثة لم تقدم حلاً نهائياً لهذه القضية بدليل ما حدث لليهود في ظل النازية في الثلاثينيات وما يحدث للمسلمين في بعض المجتمعات الغربية اليوم.
وفي كل الأحوال، فالمسألة تتوقف إلى حد كبير على السياق الذي جاءت فيه الحداثة. وفي مصر، فرضت عملية التحديث نفسها في إطار سعي النظام لتكوين دولة قوية قادرة على الدفاع عن نفسها والتوسع خارجيًا. ومن أجل ذلك كان لابد من التعرف على العلوم الغربية الحديثة والتطورات التكنولوجية والفنون العسكرية. أي أن التحديث كان عملية أجريت بشكل فوقي لدعم الدولة – الاستبدادية بما لا يدع مجالاً للشك — بقيادة محمد علي. ومن أجل ذلك كان لابد لهذه العملية أن تتم بطريقة متسارعة، وفي فترة زمنية محدودة. وليس مصادفة أن الاهتمام الأساسي كان للعلوم دون الأفكار والفنون الغربية. فحقول اللغويات والفلسفة والعلوم الإنسانية بشكل عام لم يكن لها نصيب يُذكر من الاهتمام في بعثات محمد علي الدراسية.
والنتيجة الطبيعية لذلك أن التحديث الذي نقل عن فرنسا العلم والتكنولوجيا، لم يأخذ عنها قيم الديمقراطية والمساواة والعلمانية. وهذه ليست سمة مصرية خالصة، ولكنها سمة عامة للبلدان التي تأخرت في التطور الرأسمالي. فهذا التطور هنا يكون مدفوعاً بفعل عامل المنافسة الخارجية، لا بفعل التطور الطبيعي لقوى الإنتاج. ومن ثم فإنه يتم استيراد أكثر التقنيات تقدمًا، لتعمل في بيئة سياسية وثقافية متأخرة إلى هذه الدرجة أو تلك عن المخترعات الحديثة التي نُقلت من الخارج. وفي العقود التالية، ومع تطور التعليم واتساع مجالاته، وهو ما صاحبه بلاشك إدخال قيم الحداثة، ظلت تلقى مقاومة شديدة، لأنها وردت في ظل السيطرة الاستعمارية، ومن ثم فقد اعتبرت من جانب الكثيرين وسيلة للهيمنة الثقافية الغربية، أكثر من كونها طريقاً لإدخال قيم التقدم والمساواة.
ثورة 1919
توصف الفترة من ثورة 1919 وحتى 1952 باعتبارها العصر الذهبى للوحدة الوطنية فى مصر. وبالرغم من أنه عادة ما يتم رسم صورة وردية مبالغ فيها إلى حد ما عند تصوير تلك الفترة، إلا أنها كانت الأفضل فى تجسيدها للروابط بين المسلمين والأقباط. وكانت ثورة 1919 نقطة انطلاق فى ارتباط الأقباط بالحركة الوطنية. وفى ظل تصاعد الحالة الطائفية فى السنوات السابقة على الثورة، وإدراك ما يمكن أن تنجم عنه من كوارث تعوق الحركة الوطنية – خاصة وأن بريطانيا كانت تطرح دومًا مسألة حماية حقوق الأقباط كذريعة لبقائها في مصر— أدركت قيادة 1919 متمثلة فى سعد زعلول أهمية الدور المناط بالأقباط فى هذه الحركة. وكان هدف الاستقلال الأرضية التى استطاعت أن تحقق هذا المستوى من التآخى بين الجانبين. وتعبر الكتابات التى غطت تلك الفترة عن حالة فريدة من التضامن. فعند النظر إلى المشاركة الواسعة للأقباط فى الثورة، وتبنى المصريين جميعاً شعارات مثل “الدين لله والوطن للجميع” و”الوطنية ديننا” و”يحيا الهلال مع الصليب”، وخطب القسس فى المساجد والشيوخ فى الكنائس، والاحتفال بعيد النيروز – عيد رأس السنة القبطية—كعيد قومى، والحضور القبطى بقوة فى الوفد المصرى— حتى أنه عقب حدوث الانشقاق الأول، كانت اللجنة العليا للوفد تضم ستة أقباط وثلاثة مسلمين—يبدو الأمر وكأنه غير قابل للتصديق، خاصة عند المقارنة بما كان عليه الحال في السنوات السابقة – وما آلت إليه الاوضاع اليوم.
وعند وضع دستور 1932، أثيرت مسألة نظام الحصص للأقباط فى المجالس النيابية وتم رفضها باعتبارها تكرس للطائفية. وكان الكثيرون يعتقدون بناء على ما تحقق في ثورة 1919، أن الأمر سوف يتطور في اتجاه إنعدام دور العامل الديني في السياسية. ومع ذلك فقد نص الدستور على أن الإسلام هو دين الدولة بناء على اقتراح من المفتي لم يستطع أن يعارضه أعضاء اللجنة المُشكلة لوضع الدستور. وقد لاقى هذا النص اعتراضًا من صحيفة الوطن باعتباره يفتح الباب أمام التفرقة. وأجريت الانتخابات التشريعية التى نجح خلالها جميع من رشحهم الوفد، سواء كانوا مسلمين أو أقباطًا. وكذلك لم يُلحظ أثر للطائفية فى الانتخابات التى أجريت عامى 1925 و1926. وكانت فترة العشرينيات بشكل عام فترة انحسار للطائفية فى السياسة المصرية.
غير أن ذلك التوجه لم يتواصل، بل شهد محطات من التراجع خلال العقدين التاليين. ولأن هذه الورقة لا تسمح بتتبع المسار الذى اتخذته المسألة القبطية بالتفصيل، فسوف يتم التركيز على عدد من القضايا التي يعتقد أن لها أهمية فيما يتعلق بالمسألة القبطية وعلاقتها بالحياة السياسية فى مصر. أولاً، فشلت ثورة 1919 فى تحقيق الهدف الذى قامت من أجله، وهو الاستقلال. فلم تسفر أعوام طويلة من المفاوضات سوى عن معاهدة 1936 التى أضعفت من شعبية حزب الأغلبية. من ناحية أخرى، أبدى الوفد، وسعد زغلول بشكل خاص، تخوفًا من أن تمتد الحركة الوطنية لتطرح مطالب اجتماعية، ومن ثم قام بحظر الحزب الشيوعي وتقييد النقابات العمالية. كما أن الوفد لم يطرح أية إصلاحات اجتماعية مثل إجراء إصلاح زراعى أو حماية العمال من الفصل التعسفى…إلخ. وكان العنف الذى اتخذته ثورة 1919، والإضرابات الواسعة، والهجمات التى قام بها الفلاحون ضد الأغنياء وكبار الملاك— وهى كلها ممارسات أدانها قادة الوفد أنفسهم— دليلاً على حالة الغضب الشعبي والأوضاع المعيشية المتردية بفعل الفقر والبطالة وارتفاع الأسعار، ونذيرًا بأن الحركة من الممكن أن تتطور إلى طرح مطالب اجتماعية. ومن ثم حرص الوفد على تقييد المشروع القومي في إطار المطالبة بالاستقلال عن طريق والتفاوض، والحيلولة دون تطوير هذا المشروع إلى مشروع اجتماعي، وهو ما كان يمكن أن يشكل هدفًا جامعًا ويسير خطوات أبعد في طريق حل المسألة القبطية وتجاوز الطائفية.
أما فيما يتعلق بعملية الديمقراطية، المتمثلة فى الدستور والحياة البرلمانية والأحزاب، والتى ظلت الهدف الأساسي الذى ركز عليه الوفد خلال الثلاثينيات والأربعينيات، فلم تنجم عن تغير ذي شأن فى حياة الشعب. ومن ثم، وبالرغم من التأييد الكاسح للوفد، أصبح هناك إدراك بأن ما يحدث هو تغير فى الوجوه مع ثبات النخبة الحاكمة. كما أن الديمقراطية، حتى فى ظل هذا المعنى المحدود، كثيراً ما شهدت تراجعت، جراء التدخل المستمر للملك بحل الوزارة وإسقاط الوفد فى الانتخابات عن طريق التزوير.
الملاحظة الثانية، أدى هذا الوضع إلى أن التوقعات التي سادت عند قيام الثورة، حول أن المسألة الطائفية سوف تتراجع تدريجيًا حتى تتلاشى تمامًا وتصبح شيئًا من الماضي، لم تتحقق. ويمكن هنا الإشارة باختصار إلى عدد من المظاهر التى تشير إلى استمرار دور العامل الطائفي في السياسة. فبالرغم من أن وزارات حزب الوفد ضمت العديد من الأقباط، إلى أنه ظلت هناك وزارات محظورة عليهم، وهى الحقانية والمعارف والداخلية. واستمر التفرقة بين المسلمين والأقباط فى الجيش والشرطة، خاصة ما يتعلق بالرتب العالية. كما لم يتول الأقباط مناصب رؤساء ووكلاء الجامعات. وأبقت حكومات الوفد على الخط الهمايوني الذى اشترط أن يكون بناء أو ترميم الكنائس ودور العبادة لغير المسلمين، رهناً بصدور فرمان من السلطان العثمانى. وأصبحت المسألة بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية من سلطات الملك. كما لم يلغ الوفد الشروط العشرة التى وضعها محمد العزبي باشا –وكيل وزارة الداخلية فى أحدى وزارات أحزاب الأقلية— فى عام 1934، والتى تفرض قيودًا تُصَعِب بناء الكنائس.
وثالثاً، فإنه على مستوى الحياة السياسية، شهد عقدا الثلاثينيات والأربعينيات، عودة استخدام الدين فى الحياة السياسية، وهو ما كان يعنى بالتبعية إثارة المسألة القبطية. فقد أستخدمت أحزاب الأقلية – الأحرار الدستوريين والحزب السعدي—الحضور القوي للأقباط في قيادات الوفد، سلاحًا ضد الحزب، واتهمته بالانحياز للأقباط على حساب المسلمين. وتم استخدام سلاح الطائفية عند توفير الموظفين الذى كان يتم مع تغير كل وزارة. وأبدت حكومات الأقلية احتجاجات كبيرة ضد ارتفاع عدد الموظفين الأقباط فى وزارة المالية. وأدت نشأة جماعتي الإخوان المسلمين ومصر الفتاة إلى صعود الخطاب الديني فى السياسة، والذى لم يتوان عن مهاجمة الأقباط في مناسبات عديدة، مما أثار نوعاً من التربص والاحتقان الطائفي. وإضافة إلى ذلك، فقد حرصت السراي على استخدام مسألة الدين فى مواجهة الموقف العلماني لحزب الوفد. فحاول الملك فاروق –بمساعدة الشيخ المراغي شيخ الأزهر— طرح نفسه كخليفة للمسلمين. وصحب ذلك تعريضًا بالأقباط وتأليبًا ضدهم، أسفر عن تعرضهم لعدد من الاعتداءات. وفى هذا السياق، استخدم الدين ضد الوفد فى انتخابات 1938 حينما تم وصف مكرم عبيد، سكرتير الوفد آنذاك، بأنه عدو الدين، وشن حزب الأحرار حملة ضد الوفد باعتباره يمالئ للأقباط على حساب المسلمين.
واستمر هذا المناخ خلال الأربعينيات، وتصاعدت النزعات الطائفية المناهضة للأقباط إلى حد محاولة إحراق كنيسة بالزقازيق عام 1948. ويلاحظ أن تلك الحقبة أيضاً شهدت خروج مكرم عبيد من الوفد وتحالفه مع الملك وأحزاب الأقلية، وهو الأمر الذى لم يكن له أية علاقة بالدين، لكنه بلاشك وجه ضربة إلى الميراث الذى حرص الوفد على ترسيخه منذ عام 1919. وأخيرًا، فقد أدى صعود الحركة الوطنية فى الاربعينيات إلى توجه عديد من شباب الأقباط إلى الارتباط بالحركة الشيوعية. ولكن ظل أثر ذلك محدودًا بسبب ضعف تأثير المنظمات الشيوعية، ولأنها لم تتوجه بخطاب خاص للأقباط.
الحقبة الناصرية
لم يضم تنظيم الضباط الأحرار سوى مسيحي واحد، وفي غير موقع القيادة. وقد سبقت الإشارة إلى أنه وجدت قبل يوليو 1952 تفرقة ضد الأقباط فيما يتعلق بالجيش والشرطة، ومن ثم فإن مستوى حضور الاقباط فى الجيش كان أدنى منه بدرجة نوعية عنه فى الدوائر المدنية. وفي يوليو 1952، كان هناك قبطي واحد يتولى منصب اللواء. وبشكل عام، يعتبر الكثيرون أن الفترة الناصرية عززت الطائفية، وكانت نقطة البداية فيما نشاهده الآن من تمييز ضد الأقباط. ويعود ذلك، وفقًا لوجهة النظر تلك، إلى عاملين: تبنى عبد الناصر خطاب القومية العربية الذي مهد لبروز العامل الدينى لتحديد الهوية، واتباع نظام الحصص للأقباط للمرة الأولى.
وإذا أردنا اقتفاء أثر العهد الناصرى على وضع الأقباط، فقد كانت الطائفية بمعنى التوتر فى علاقات المسلمين والمسيحيين وطرح قضايا المساواة والتمييز….إلخ، أقل حدة فى تلك الفترة من أى فترة تالية. غير أن ذلك لا يعود إلى أن الناصرية صاغت رؤية ثبت نجاحها للتعامل مع تلك القضية، ولكن لأنه تم القفز عليها واعتبارها كما لو كانت غير موجودة، واتخاذ إجراءات عملية – أو بالأحرى براجماتية – كى تكتمل الصورة ويظهر أن هناك حضورًا قبطيًا فى السياسة ومؤسسات الدولة.
ويرتبط ذلك بطبيعة المشروع الناصري وتناقضاته. فالضباط الأحرار الذين يرجعون في معظهم إلى أصول برجوازية صغيرة، واجهوا بعدما استولوا على السلطة رفضًا وتوجسًا من جانب الرأسمالية المحلية، والولايات المتحدة التي مثلت القوة الغربية الأكبر والتي في نفس الوقت كانت بدون ميراث استعماري. وقد أملى هذا الوضع طرح مشروع للتنمية يقوم على التعاون مع الاتحاد السوفيتي وتجريد الشرائح العليا من الرأسمالية من ثرواتها لصالح نظام رأسمالية الدولة، تضطلع فيه بالدور القيادي في عملية التنمية. وكي ينجح هذا المشروع، الذي تبنى أهداف التحرر من الاستعمار، والوحدة العربية والتعاون بين دول العالم الثالث، كان لابد من بناء قاعدة شعبية واسعة، وخلق محتوى تنضوى تحته قطاعات الجماهير، في ظل آمال التحرر والعدالة الاجتماعية. ومن هنا كانت الإنجازات الاجتماعية التي طالت المسيحيين كما طالت المسلمين. فالتعليم والعلاج المجاني لم يكن يفرق بين مسيحى ومسلم. ومهمة التوظيف التي كانت تضطلع بها الدولة كانت تطال كافة الخريجين بغض النظر عن الدين. وقد ساعدت هذه الإجراءات وما أدت إليه من تحسن في وضعية الطبقات الوسطى والفقيرة، وكذلك تصاعد قضية الصراع مع إسرائيل، إلى انحسار الميول الطائفية.
لكن ذلك لم يكن يعني عدم وجود تمييز. ذلك أن المشروع الناصري – بكل إنجازاته— كان مشروعاً للتغيير من أعلى، أي التغيير الذي يتولاه النظام لا الجماهير التي ليس مسموحًا لها أن تلعب سوى دور المتلقي. ومن ثم تم القضاء على كافة أشكال المعارضة السياسية بدعوى حماية المشروع ومنع المؤامرات الساعية لإجهاضه من الداخل والخارج. وفى هذا السياق، لم يكن مسموحاً الحديث عن قضايا حقوق الأقليات والتمييز وما شابه. كما أنه لم يكن يُسمح بحدوث توترات طائفية يمكن أن تمثل تهديداً لاستقرار النظام. ولكن مع ذلك، فقد حدث تراجع حقيقي في أوضاع الأقباط فيما يتعلق بتولي الوظائف القيادية والتمثيل البرلماني، والتمثيل في الوزارات، والبعثات الدراسية إلى الخارج. كما أن النظام لم ينه القيود المفروضة على بناء دور العبادة للمسيحيين، وأبقى على الخط الهمايوني وشروط العزبي باشا. ومن ثم فبدلاً مع مواجهة المسألة القبطية بشكل مفتوح، وتبني رؤية للتعامل معها، اتبع النظام نهجًا توفيقيًا برجماتيًا. فبناء الكنائس كان يتم بناء على وضع عدد من التصاريح لبناء الكنائس سنوياً تحت تصرف البابا. وتم بطريقة غير رسمية تخصيص نسبة للأقباط – نحو 5%– بين ضباط الجيش والشرطة. وعلي صعيد التمثيل البرلماني، كان طبيعيأ لنظام يرتكز على الولاء ويقف في قمته أهل الثقة أن يعزف عن تشجيع الأقلية على أن يكون لها دور تمثيلي. لذلك لم يفز أي من الأقباط في انتخابات مجلس الشعب في عامي 1964 و1968. ولكي تكتمل الصورة، أُعطي لرئيس الجهورية حق تعيين عشرة نواب في المجلس النيابي، وكان أغلبيتهم من الأقباط.
ودشن هذا العصر بداية ظهور دور الكنيسة كفاعل فى السياسة. فقد تمت صياغة نوع من علاقة التفاهم بين النظام والكنيسة، تقوم بمقتضاه الأخيرة بضمان ولاء الأقباط للنظام في مقابل اعترافه بأن الكنيسة هى ممثل الأقباط. وفي نفس السياق، تم تعيين عدد من المسيحيين في الوظائف التنفيذية العليا. وشهدت هذه الفترة بداية التوجه نحو الهجرة من جانب الطبقة الوسطى القبطية، المتمثلة في المهنيين. إذُن فقد ساهمت الناصرية بوضع حجر في بناء الطائفية، ليس لأن تبني نهج القومية العربية يمهد في حد ذاته بالضرورة للطرح الإسلامي، ولكن لأن الطبيعة الاستبدادية للنظام كانت تعني اتخاذ موقف الحذر من الأقلية، والخوف من النهج المنفتح في معالجة القضايا الحساسة، وعلى رأسها قضية الأقلية الدينية.
السادات ومرحلة جديدة
إذا كان صعود المشروع الناصري قد صاحبة التفاف على المسألة القبطية واختفائها من على السطح، فإن فشل هذا المشروع أدى إلى عودة هذه القضية لتفرض نفسها بقوة، ودشن بداية مرحلة جديدة من تنامي النزعة الطائفية والتمييز ضد الإقباط، بلغت اليوم مستويات خطيرة. فكانت هزيمة 1967 ، بمثابة هزيمة للمشروع الناصري القومي الاجتماعي برمته. وفيما يخص المسألة القبطية، فالمتعارف عليه أن لحظات الهزائم والأزمات عادة ما تكون مصحوبة بعودة النزعات الانقسامية، عرقية كانت أم طائفية، وسعي كل طرف إلى التأكيد على هويته، وهو غالباً ما يكون على حساب الهويات الأخرى. وفي مصر، حيث أن الاختلاف الرئيسي هو اختلاف في الديانة بين الأغلبية المسلمة والأقلية المسيحية، كان طبيعياًُ أن يكون الانقسام على أساس هذا المعطى، وأن تكون الأقلية هي من يدفع الثمن الفادح. ومن ناحية أخرى، فإن هزيمة المشروع القومي كان لابد أن يتبعها بروز مشروع بديل. وفي مصر والمنطقة العربية، التي يدين غالبية سكانها بالإسلام، كان هذا المشروع هو المشروع الإسلامي، الذي شهد في الماضي فترات صعود وهبوط على مدى نحو قرن من الزمن.
واندلعت الشرارة الأولى للتوتر الطائفي في عام 1972، حينما حُرقت جمعية الكتاب المقدس في الخانكة بعدما دشنها أحد الأساقفة وإقيمت الصلاة بها. وأعقب الحريق أن دعا البابا شنودة، إلى صلاة في موقع الحادث تضم عشرات من الكهنة، مما كان بداية لمرحلة من التوتر، بلغت حد العداء بين البابا والسادات. وبعد انتهاء الأزمة، شكل مجلس الشعب لجنة برئاسة جمال العطيفي قدمت توصيات بشأن وضع قانون ينظم بناء دور العبادة، حتى تتوقف الأزمات المتكررة بسبب هذه القضية، لكن توصيات اللجنة ظلت حبراً على ورق.
لكن الأهم من ذلك أن التغيرات التي شهدتها مصر في حقبة السبعينيات كان لها أعظم الأثر على تصاعد حالة التوتر الطائفي والتمييز ضد الأقباط، واتخاذ هذه الحالة أبعادًا جديدة. فكما هو معروف، سعى السادات إلى استخدام الورقة الدينية من أجل توجيه الضربات لأعدائه من اليساريين والناصريين، وهو ما تُرجم إلى اتخاذ سياسة ودية مع الإخوان المسلمين، وتشجيع الجماعات الإسلامية في الجامعات وفي مناطق الصعيد على التصدي للمختلفين معها بكافة الوسائل. وتم غض الطرف عن العنف التي كانت تمارسه الجماعة ضد من تعتبرهم أعداءها، ومنهم الأقباط بالطبع. واتخذ الإعلام توجهاً إسلامياً، بلغ حد إذاعة خطب الدعاة التي تحوي تعريضاً بعقيدة الأقباط. وأطلق السادات على نفسه لقب “الرئيس المؤمن” وعلى مصر “دولة العلم والإيمان”. وفي عام 1980، وضع التعديل الدستوري المهم الذي جعل مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، في إطار تعديلات دستورية كان الغرض الأساسي منها هو تمكينه من الترشح لفترة رئاسية ثالثة. وتزامن ذلك مع بداية موجة الهجرة إلى دول النفط التي أحدثت ولاشك تغيرات مهمة في الثقافة المصرية، جاءت على حساب قيم التسامح والعيش المشترك.
وفي المقابل، وبسبب هذه التطورات، إرتفعت مكانة الكنيسة ونفوذها بين الأقباط، وأصبحت تلعب دور الممثل لهم، وعزز من ذلك الدور الاجتماعي والخدمي الواسع الذي مارسته الكنيسة آنذاك. وفي تلك المرحلة، برز متغير جديد/ قديم في المسألة القبطية، هو علاقة الإمبريالية بالمسألة القبطية. فقد أصبحت العلاقة مع أمريكا هي العلاقة الأهم بالنسبة لنظام السادات، وأصبحت هناك مساحة واسعة من التعاون. وقد طرح هذا الوضع للمرة الأولى مسألة تدخل أمريكا “المسيحية” دفاعًا عن الأقباط. وبالرغم من أن حدود هذا التدخل لم تكن أبدًا واضحة، بدأ يظهر إعتقاد لدى بعض الأقباط بأن أمريكا يمكن أن تستخدم نفوذها في الضغط على السادات لتحسين وضعهم. غير أن مسار الصراع بين السادات والبابا، والذي وصل إلى إتهام السادات للبابا بالسعي إلى إقامة دولة مسيحية في الصعيد، وقيامه بتحديد إقامة البابا في دير وادي النطرون، يشير إلى أن أمريكا لم تمارس ضغطًا ذا شان على نظام السادات ـ الذي كان يعد حليفًا فائق الأهمية ـ في هذه المسألة. وقبل رحيل السادات بأشهر قليلة، وتحديدًا في يونيو 1981، وقعت أحداث الزاوية الحمراء المروعة، والتي بدأت بنزاع على قطعة أرض أراد المسيحيون بناء كنيسة عليها، تحول إلى هجوم على الأقباط أسفر عن مقتل العشرات وحرق عدد من المحال والمنازل والصيدليات المملوكة للأقباط.
الأقباط والليبرالية الجديدة
اتخذت المسألة القبطية أبعادًا جديدة في العقود الثلاثة الأخيرة، حيث اتسم عصر الليبرالية الجديدة بعديد من التعقيدات التي ألقت بظلها على العلاقة بين المسلمين والأقباط وأوصلتنا إلى الحالة الراهنة من الاحتقان. ففي تلك الفترة، اتخذت الدولة خطوات حاسمة على صعيد تحرير الاقتصاد، والتخلي عن لعب دور إجتماعي. وفي مقابل تخلي الدولة عن هذا الدور، ظهرت المؤسسات الخيرية على الجانبين الإسلامي والمسيحي لتقدم خدماتها كل لأبناء طائفته، ومن ثم مزيد من الارتباط بين هذه المؤسسات والأفراد. فالمسلم الذي لا تعالجه الدولة يذهب إلى مستوصفات الجمعيات الخيرية الإسلامية أو الإخوان المسلمين، بينما يذهب المسيحي إلى المستوصفات المرتبطة بالكنيسة. وإذا كانت الدولة قد تخلت عن تعيين الخريجين نهائيا، فقد ظهرت الشركات والبنوك الإسلامية التي لا تعين أقباطًا، وحذت حذوهم مؤسسات يملكها مسيحيون. وأدى ذلك إلى نوع من العزلة والإنكفاء كل على طائفته. من ناحية أخرى، فقد خلقت الليبرالية الجديدة أزمة اجتماعية حادة بسبب البطالة وارتفاع الإسعار وسوء علاقات العمل نتيجة الحرية المطلقة لرأس المال. وأدى هذا الوضع إلى تصاعد الفقر والمعاناة والشعور بالقهر والغضب. وفي ظل هذا الوضع ليس هناك أسهل من أن ينفس المقهورين من الشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى والمهمشين، الذين تطحنهم كل يوم آله الليبرالية الجديدة، غضبهم في جيرانهم الأضعف، الذين هم من نفس الطبقة ويتعرضون لنفس الإذلال، لكنهم يختلفون في الدين. وتلك الحالة ليست قاصرة على مصر. فإذا نظرنا إلى الوضع في الهند، استطاع حزب بهاراتيا جاناتا الهندوسي المتطرف تأليب طائفة الهندوس على على المسلمين –الذين يعيشون نفس البؤس والشقاء—مما أدى إلى قيامهم بالعديد من أعمال القتل والتدمير ضدهم خلال السنوات الأخيرة.
من ناحية ثالثة برز الإسلام السياسي، متمثلاً في جماعات الإسلام الراديكالي في التسعينيات، ثم الإخوان المسلمين الآن، باعتبارهم قطب المعارضة الرئيسي الذي يتحدى النظام، والذي يتعرض للقمع في مواجهة الاستبداد. وقد أكسب هذا الوضع التيار الإسلامي مصداقية واسعة بين الجماهير – خاصة في ظل موقف اليسار المهادن للدولة في مواجهة الإسلاميين. وليس خافيًا الطرح الرجعي الذي يطرحه التيار الإسلامي بمختلف فصائله إزاء مسألة الأقباط، حتى أن أكثر الجماعات اعتدالاً، وهي الإخوان المسلمين، مازالت تتعرض بين الحين والآخر لقضايا من المفترض أن يكون تجاوزها الزمن مثل الجزية ودخول الأقباط في الجيش، وولاية الأقباط على المسلمين..إلخ.
وعلى صعيد أداء أجهزة الدولة في عهد مبارك، فقد اتسمت بطائفية فاقت كافة العهود الماضي. فالطبيعة الاستبدادية للنظام انعكست على الموقف من الأقلية، فتزايد تعنت الأجهزة الأمنية في عرقلة بناء وإصلاح الكنائس. وأصبح عنصر الدين يؤخذ في الاعتبار كعامل حاسم في التعيين للوظائف القيادية وجهاز الشرطة والجيش. وفيما يتعلق بالتعيين للوظائف الحكومية، أصبحت المسألة تتم بالاختيار – حيث توقفت الدولة عن تعيين دفعات الخريجين كما سبق القول— ومن ثم فأنه حتى في أصغر الوظائف، أصبح عامل الدين حدًا يعوق التحاق الأقباط بهذه الوظائف. وعزف الحزب الوطني عن ترشيح أقباط في الانتخابات، برلمانية كانت أم محلية. حتى أنه في بعض الدورات مثل دورة 2000 لم يرشح الحزب قبطيًا واحداً لانتخابات مجلس الشعب، بينما رشح يوسف بطرس غالي وحدة في انتخابات المجلس في 2005. وكي يتم تحسين صورة مصر أمام العالم باعتبارها دولة تحترام الأقليات، أتخذ مبارك قرارًا بجعل 7 يناير أجازة رسمية، وأصدر مرسومًا يخول المحافظين اتخاذ القرار في إصلاح وتوسيع وترميم الكنائس ودور العبادة القائمة بالفعل. غير أن القرار ظل حبرًا على ورق حيث استمر تدخل الأجهزة الأمنية في إعاقة هذه العملية.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الدولة لعبت دوراً مزدوجاً في المسألة الطائفية. فبينما هي في حقيقة الأمر تمارس التمييز في أكثر صوره حدة، وتشجع بممارساتها التمييزية نزعات التعصب لدى المسلمين ضد الاقباط، فإنها تطرح نفسها باعتبارها الحامي لهذه الطائفة من الخطر الأكبر وهو الإسلاميين. وفي التحليل الأخير، تظل الدولة هي المستفيد الأول من هذا الوضع. فإلى يومنا هذا، لم يظهر أن التوتر الطائفي والعنف ضد الأقباط مثل تهديدًا لخطط الدولة في المضي قدمًا في الليبرالية الجديدة –على حساب الفقراء من الجانبين—بل أن الطائفية هي بالفعل تساهم في صرف أذهان الجماهير عن المتسبب الحقيقي في أوضاعهم البائسة. من ناحية أخرى، فإن الرأسمالية المسلمة والقبطية على حد سواء تستفيد من هذا الوضع، حيث أن تفريغ الغضب في المسيحيين يمثل صمام أمام بالنسبة للأولى، كما يظل بإمكان الثانية تكثيف إستغلال العمال الأقباط دون أن تُواجة بمقاومة تذكر لأنه لايوجد لهم ملاذ آخر.
وأما الوضع العالمي، فقد كان له انعكاساته السلبية على الوضع الطائفي في مصر. فقد أدى تصاعد التنافس الإمبريالي في ظل استمرار الأزمة، إلى تصاعد الصراع على الهيمنة. وكان الشرق الأوسط ساحة المعركة بسبب المخزون النفطي. ومن ثم فإضافة إلى الدعم الأمريكي المتواصل لإسرائيل، شهدنا خلال الأعوام الماضية هجومين أمريكيين على بلد عربي وآخر إسلامي تحت دعوى مكافحة الإرهاب وحماية الديمقراطية—وقد نشهد المزيد في الفترة القادمة. وبفعل أن التيار الإسلامي هو الأكثر قوة في المنطقة، قاد هذا التيار المعركة في مواجهة الإمبريالية الأمريكية في العراق وأفغانستان، والدولة الصهيونية في فلسطين.
وقد أضاف هذا الواقع مزيدًا من اشتعال الموقف، ووضع المسلمين والمسيحيين في الداخل في وضع مواجهة مستترة. فبدت المسألة وكأن الغرب “المسيحي”، يواجه “المسلمين” ويحتل أرضهم. وفي ظل هيمنة الإسلام السياسي ورؤيته للصراع باعتباره صراعًا دينيًا، وفي ظل كون التيار القيادي في المقاومة يتبنى نهجًا إسلامياً ويتخذ في معظم الأحيان موقفاً معادياً تجاه الأقباط، ومع انتشار المزاعم –التي تغذيها بعض القيادات المسيحية وأقباط المهجر—بأن الغرب وأمريكا بشكل خاص، يمثلون سندًا لمسيحيي مصر، تحولت القضية الوطنية إلى عامل انقسام بعد أن كانت في لحظات أخرى، وعلى أهمها ثورة 1919 عامل توحد.
وإزاء هذه التعقيدات، يشهد الوضع الطائفي أكثر لحظاته تأزماً. فقد تزايدت حالات الاعتداء على الأقباط بشكل نوعي خلال الأعوام الماضية. وأصبح ما أسهل أن أن يتحول شجار محدود أو إشاعة إلى هجوم واسع ضد الأقباط. وكانت أحداث الكشح الثانية التي راح ضحيتها نحو 20 قبطيًا هي أوضح الحالات على هذا الواقع المأساوي. لكن الأمر لا يتوقف على أعمال العنف والاعتداءات التي تحدث بين وقت وآخر. ولكن عدم الود تجاه الأقباط أصبح يعبر عن نفسه في كافة مساحات التفاعل. وقد أحدث هذا الوضع إنقسامًا لاتخطئه عين على هذه الساحات. فالطلاب المسلمون يصادقون طلابًا مسلمين، والمسيحيون يصادقون مسيحيين، وعلاقات الجيرة الودية بين أبناء الطائفتين، والتي كانت سمة من سمات المجتمع المصري، الآن في طريقها للانحسار.
الرؤى المطروحة
قد يتفق الكثيرون على أن مسألة التمييز ضد الأقباط أصبحت ظاهرة خطيرة، وأنه يجب يكون هناك مخرج للخروج من نفق الطائفية المظلم. وبالقطع لا يملك أحد حلاً سحريًا يمكنه أن يجعلنا نتجاوز فورًا هذه الحالة. لكن هناك بعض الرؤى التي يطرحها المنشغلون بالمسألة. ويمكن ملاحظة أن هناك طرحين أساسيين لمواجهة الأزمة، أحدهما يطرح التغيير من الخارج، والثاني، وهو الأكثر أهمية وتأثيرًا يطرح الدولة العلمانية التي تؤكد قيم المواطنة، باعتبارها المخرج لتجاوز الحالة الطائفية التي باتت تهيمن على المجتمع المصري.
وحل التغيير من الخارج يتبناه بشكل أساسي بعض جماعات أقباط المهجر. وهو يرتكز على أن تحسن وضع الأقباط في مصر يأتي عبر الضغوط الخارجية ـوالأمريكية بشكل خاص ـ على الحكومة المصرية كي تحد من مظاهر التمييز ضد الأقباط، عبر منحهم نصيب أفضل في المناصب مثلاً، أو إعطائهم حصة من مقاعد المجالس النيابية والمحلية، أو تخفيف القيود المفروضة على بناء الكنائس، أو إجراء تعديلات على نظام التعليم بحيث يتضمن تدريس الحقبة القبطية ويُدخل مواد ترسخ مبادئ المواطنة وقبول الآخر والتعايش ضمن المناهج الدراسية.
غير أن أزمة هذا التوجه تكمن في عاملين. فأولاً، من الناحية العملية، لا يمكن الاعتماد على التدخل الخارجي، لأنه غني عن القول أن دعاوي الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات الدينية والتي يعلنها الأمريكيون عندما تقتضي الحاجة ذلك يتم تناسيها بلا أدنى تردد عندما تتناقض مع المصالح الأمريكية.
غير أن الأمر الأهم، هو أنه حتى بفرض أن الضغط الأمريكي على النظام المصري أسفر عن بعض المكاسب للأقباط، فإن ذلك من شأنه أن يعمق الانقسام ويعطيه أبعادًا جديدة. فالأقلية القبطية سوف تظهر آنذاك باعتبارها معتمدة على الإمبريالية ومتحالفة معها، في الوقت الذي تقوم الأخيرة باحتلال بلد عربي وآخر إسلامي ودعم الدولة الصهيونية وتأييد النظم المستبدة والفاسدة في المنطقة، مما يجعل منها عدوًا لكل الشعوب المقهروة في العالمين العربي والإسلامي وخارجهما. ويؤدي ذلك في النهاية إلى مزيد من الانقسام بين المسلمين والأقباط، ويعطي ذريعة لمن يتخذون موقفًا رجعيًا من الأقباط لممارسة مزيد من التأليب ضدهم. وسوف تكون النتيجة مزيدًا من الضغينة ومزيدًا من العنف.
أما التوجه الثاني، وهو الأكثر أهمية ويستحق مساحة أوسع من المناقشة، هو حل الدولة الديمقراطية العلمانية. في هذه الدولة تصبح المواطنة هي معيار التعامل مع كافة أبناء الوطن، على أساس من المساواة بغض النظر عن الدين، ويصبح الدين علاقة بين الإنسان والله لا دخل لها بوضع الفرد في المجتمع. وهو طرح ليس بجديد بل إنه يعود إلى الثمانينيات، حينما برزت الدعوة لتطبيق الشريعة الأسلامية، وطُرحت المسألة القبطية على بساط البحث. واليوم، يتبنى طرح الدولة الديمقراطية العلمانية تيارًا واسعًا من المثقفين الليبراليين واليساريين، كما أنه يمثل المحور الذي ترتكز علية رؤية جماعة “مصريون ضد التمييز”.
والسؤال الأول عند مناقشة هذا الطرح هو هل يمكن تعبئة غالبية المصريين، مسلمين ومسيحيين، على هدف الدولة العلمانية؟ إذ أننا أذا أردنا تغيير توجه الدولة، من دولة تمارس التمييز وتستفيد منه، إلى دولة علمانية تقوم على المساواة، لابد أن يكون هناك ضغط قوي من أسفل، وهو ما لايمكن يتحقق بدون المسلمين. ويحيلنا ذلك إلى سؤال آخر لابد من الإجابة عنه رغم أن غير مرتبط مباشرة بالموضوع، هو كيف أصبحت العلمانية اليوم؟ وهل العلمانية المطروحة اليوم هي نفس علمانية فرنسا مثلاً في القرن السابع والثامن عشر، لكنها جاءت متأخرة؟
ويمكن القول باختصار أن السياق الذي نشأت فيه العلمانية هناك، يختلف جذريًا عن السياق الذي تتم خلاله الدعوة للعلمانية هنا. فهناك، انبثقت الأفكار العلمانية في إطار صراع اجتماعي داخلي، ضد الأفكار الرجعية التي تقف ضد تقدم العلم، وتعوق حرية الأفراد الواقعين تحت سيطرة الكنيسة. أي أن العلمانية هناك كانت جزء من ثورة لتحرير الإنسان من الجهل وفتح الآفاق أمام تقدمه ونمو قدراته الخلاقة. وفي هذا السياق، أرسيت أسس التسامح مع الأقليات الدينية، وتراجع دور الإنتماء الديني ليصبح أمرأ شخصيًا يخص الفرد وحده ولا دخل للمجتمع أو الدولة به. ومع ذلك، وبالرغم عمق تراث الحداثة والإسهامات التي قدمتها على صعيد ترسيخ قيم المساواة، عجرت القيم العلمانية عن أن تمنع الاضطهاد الديني لليهود في ألمانيا في الحرب العالمية الثانية. واليوم، تعجز القيم العلمانية عن وقف ما يتعرض له المسلمون من تمييز في الدول الأوروبية وأمريكا، وهو التمييز الذي اتخذ ذريعته في أن هؤلاء المسلمين هم أعداء التقدم والعلمانية. كما أن قيم الحداثة بشكل عام، قد عجزت عن منع اتخاذ سياسات تمييزية فيما يتعلق بالأجور ضد المهاجرين من الشرق الأوسط في دول مثل الولايات المتحدة وكندا. لأنه في نهاية الأمر، عندما تتناقض هذه القيم مع المصالح الرأسمالية، يُضرب بها عرض الحائط.
لكن العلمانية لدينا اليوم هي شئ آخر. فالمطلوب من شعوب المنطقة أن تتبنى قيم التسامح وقبول الآخر والديمقراطية والمواطنة. وإذا نظرنا إلى المسألة بطريقة مجردة، نجد أن هذه الدعاوي مشروعة وتقدمية. ولكن إذا ما أنزلناها إلى الملموس قد يصبح التقييم مختلفًا. فقد أصبحت الحداثة اليوم تقدم باعتبارها مشروعًا يهدف في الأساس إلى مواجهة البديل الإسلامي – الذي بكل مشاكله مازال يمثل مصدر المقاومة للنظم الاستبدادية والإمبريالية. فالمطلوب الآن، من الجماهير العربية أن تنفض الطرح الإسلامي، لا لصالح مشروع اجتماعي تحرري، يوحد الفقراء والمستَغَلين على الجانبين ضد من يعيشون على استغلالهم، ويكفل حق الإنسان في الحرية وفي حياة إنسانية كريمة، أيا كانت عقيدته أو لونه أو جنسه، ولكن في إطار قبول المشروع الراهن القائم على سيادة الليبرالية الجديدة والهيمنة الاستعمارية. ولا يمثل هذا افتراضًا، لكن مطلب الدولة الديمقراطية العلمانية يطرح باعتباره مطلبًا مستقلاً في حد ذاته، لا في سياق مشروع تحرري شامل، أي أن هذا المطلب يُطرح في إطار الواقع الحالي. وإذا كان الأمر هكذا، فيصعب تصور أن يتم تعبئة الأغلبية خلف حل الدولة الديمقراطية العلمانية، كما يصعب تصور أن تتمكن الأقلية وحدها الدفع في هذا الاتجاه دون أن تقع في صدام مع الأغلبية.
لا يمكن لأحد أن يزعم أنه يملك حلاً سحريًا، ولكن ما تود أن تؤكد علية هذه الورقة هو محورية المشروع الاجتماعي إذا كان مقدرا لنا الخروج من الحالة الراهنة.
ويحيلنا هذا الأمر إلى قضية كثيرًا ما تطرح خاصة من جانب القوى الرجعية وهي نصيب الأقباط من الثروة. فيشيع اعتقاد لدى البعض أن الاقباط يملكون أكثر من المسلمين، ويتحكمون في قسم كبير من الاقتصاد المصري. وفي واقع الأمر لا توجد مصادر منشورة تشير إلى توزيع الثروة على أساس الدين.
ولكن حتى لو كان ما يملكه الأقباط من ثروة يزيد عن نسبتهم لعدد السكان – التي لا تعرفها إلا الدولة والكنيسة—ولو كانت نسبة التعليم العالي بين الأقباط أعلى منها بين المسلمين، فالحقيقة التي يصعب إنكارها هي أن غالبية الأقباط والمسلمين هم من الفقراء، يعانون من استغلال رأس المال إسلاميًا كان أم قبطيًا، ومن استبداد الدولة، وصعوبة الحياة المعيشية ونقص الخدمات وارتفاع الأسعار ….إلخ. ومن ثم فالوقوف جنبًا إلى جنب في إطار مشروع تحرري يهدف إلى مواجهة الظلم ومن اجل حياة إنسانية يبدو الطرح الأكثر قابلية للتحقق. وعلى أية حال، لاشك أن دور اليسار محوريًا في تلك القضية، لأنه القطب الوحيد القادر على طرح رؤية اجتماعية تحررية. ومن ثم فهو مطالب بوضع قضية الأقباط في صلب رؤيته للتغيير، وتقديم خطاب قادر على جذب الاقباط، والتضامن معهم في قضاياهم المطلبية وفي مواجهة التمييز الذي يتعرضون له بصفتهم أقباطًا من جهة أخرى. وتشير خبرة السنوات الممتدة منذ بداية العقد الحالي، إلى التوجه الواضح للأقباط للتخلي عن نهج العزلة الانكفاء إلى الداخل الذي اتبع منذ عقود طويلة. ويعبر عن هذا التوجه الجديد اهتمام شباب الأقباط بحركة التغيير الديمقراطي والاعتصامات التي تحدث بين الحين والآخر – والتي رغم أنها تحدث داخل الكنائس إلا أنها تمثل توجهاً نحو المقاومة ـ وهي الحالة التي لا يمكن إدراكها إلا في ظل حالة صعود الحركة الجماهيرية بشكل عام. ومع ذلك، فليست هذه المسألة بالأمر السهل في ظل النفوذ الواسع للتيار الإسلامي وأزمة اليسار. لكن بدون النضال على هذه الجبهة، يظل خطر الطائفية منذرًا بعواقب وخيمة على مستقبل الفقراء والمقهورين، في هذ البلد، مسلمين كانوا أم مسيحيين.
ــــــــــــــــ
الأفكار والمعلومات الواردة في هذه الورقة اعتمدت على المصادر التالية:
-طارق البشري، الإقباط والمسلمون في إطار الجماعة الوطنية، دار الوحدة، بيروت، 1982.
-د. برهان غليون، المسألة الطائفية ومشكلة الأقليات، سينا للنشر، القاهرة 1988.
-د. سامر سليمان، من مقاومة التمييز الديني إلى الدفاع عن المساواة بكافة أنواعها: نحو تطوير مناهج عمل المناضلين ضد التمييز الديني.
-د. سامر سليمان، من الدين لله والوطن للجميع إلى الدين لله والدولة للجميع: الحركة الديمقراطية في مواجهة المسألة الطائفية.
-د.مصطفى الفقي، الأقباط في السياسة المصرية، دار الشروق 1985.
-د.فرج فودة، د. يونان لبيب رزق، خليل عبد الكريم، الطائفية إلى أين؟ دار المصري الجديد، القاهرة، 1987.
-Samer Soliman, The Radical Turn of Coptic Activism.
-Paul Sedra, Class Cleavage and Ethnic Conflict, Coptic Christian Communities in Modern Egyptian Politics.
-Joel Benin, book review: The Copts in Egyptian Politics, Barbara Carter