كرة القدم
لعبة رياضية أم لعبة سياسية واقتصادية؟
تصاعدت حدة الأحداث بشكل سريع منذ المباراة الأولى يوم السبت الماضي الموافق 14 نوفمبر 2009 بين المنتخب المصري لكرة القدم و المنتخب الجزائري، والتي انتهت بفوز المنتخب 2 – صفر في مباراة مثيرة، والمباراة الفاصلة في السودان يوم الأربعاء الموافق 18 نوفمبر 2009، والتي انتهت بفوز المنتخب الجزائري 1 – صفر، لترسم صورة في غاية التعقيد من التعصب القومي والشوفينية والاعتداء على الممتلكات والأرواح و التظاهرات العفوية والألاعيب السياسية والمصالح الاقتصادية بين الطرفين، لدرجة تحتم بنا الرجوع إلى الوراء قليلا ومحاولة فرز الخيوط للوصول لأقرب فهم ممكن لأسباب ماحدث ويحدث حتى الآن، ومعرفة المستفيد والخاسر الحقيقي في كل هذه الأحداث.
الرياضة و العمل المغترب
سوف نبدأ حديثنا باقتباس عن كارل ماركس في شرحه لتأثير العمل الرأسمالي على البشر، وكما وضعها في 1844:
“كلما ازداد إنتاج العامل كلما قل استهلاكه، وكلما خلق قيما أكثر كلما أصبح أكثر انحطاطا و أقل قيمة. يستبدل النظام الرأسمالي العمل بالآلات ولكنه في الوقت نفسه يدفع قطاعا من العمال إلى أشكال همجية من العمل ويحول القطاع الآخر إلى مجرد آلات، فهو نظام ينتج الذكاء للسادة والغباء للعمال، وينتج القصور من جهة والأكواخ القذرة من جهة أخرى، وهو ينتج الجمال لكنه يشوه العامل، فيشعر العامل بنفسه فقط خارج العمل، وفي العمل يشعر بغربته عن نفسه، ويشعر بوجوده عندما لا يعمل وعندما يكون في العمل لا يشعر بوجوده.
يعمل العامل كي يعيش ولا يعتبر العمل حتى جزءا من حياته، ولكنه تضحية و إهدار لحياته. فما ينتجه لنفسه ليس الحرير الذي ينسجه وليس الذهب الذي يستخرجه من المنجم وليس القصر الذي يبنيه، إن ما ينتجه لنفسه هو الأجر ويعبّر كل من الحرير والذهب والقصر عن نفسه بالنسبة له في كمية محدودة من وسائل العيش، ربما في صورة ملابس قطنية يرتديها أو بعض النقود أو أجر الإقامة في كوخ صغير. والعامل الذي يظل 12 ساعة يغزل أو ينسج أو يثقب ويدير الماكينات ويبني ويحفر ويحطم الصخور ويحمل الأثقال.. إلخ، هل يعتبر هذه الساعات الـ12 من الغزل والنسج أو الثقب أو تشغيل الماكينات أو البناء أو الحفر أو تحطيم الصخور أو حمل الأثقال مظهراً لحياته، كحياة؟ على العكس، تبدأ الحياة بالنسبة له عندما يتوقف هذا العمل ويبدأ في ممارسة النشاط الخاص به، على المنضدة، في المقهى، أو فوق السرير”.
ويمكننا الآن أن نضيف إلى كلام ماركس “أو أمام مباريات كرة القدم”.
الحديث عن مدى شعبية كرة القدم في العالم عامة، والعالم العربة بصفة خاصة شيء من البديهيات، فاللعبة الشعبية الأولى عالميا لها مذاق خاص منذ بدايتها في شكلها الحديث في القرن التاسع عشر وحتى الآن، بل وتتزايد أهميتها وشعبيتها عاماً بعد عام، فإلى جانب كونها وسيلة للتسلية والمتعة والهرب من روتين الحياة اليومية وقيود العمل المنهك في ظل الرأسمالية، هي وسيلة للجماهير المطحونة من مشجعي الرياضة للهرب من الضغوط النفسية للعمل وصعوبات المعيشة اليومية واكتساب الرزق، وطريقة لإطلاق الغضب المكبوت بشكل فردي ووسيلة للانتماء – ولو بشكل افتراضي – لكيان ما أكبر يقلل من الأثر المدمر للاغتراب والفردية الذي يخلقه المجتمع الرأسمالي. كما أن الانتماء والتشجيع يمنح الجماهير الكثير من الشحن المعنوي ويضيف الإثارة على حياة رتيبة مملة ومرهقة ويتيح لها الصمود في عجلة العمل يوما بعد يوم.
وعندما تصبح المشاهدة والتشجيع هي كل ما هو متاح للغالبية العظمى من الجماهير في ظل عدم قدرتهم على الممارسة الفعلية بسبب ضغوط العمل والارهاق بسبب الاستغلال الرأسمالي، أو حتى بسبب عدم توافر القدرات المادية أو الأماكن المتاحة لممارسة الرياضة، تزداد حدة التعصب والانتماء لدى جماهير المشجعين والمشاهدين التي لا تملك غير المشاهدة السلبية وليس الممارسة الفعلية.
وإذا ما نظرنا من جانب آخر إلى التزايد في التفاوت الطبقي الصارخ في مجتمعاتنا العربية المأزومة، فإن الرياضة، وخاصة كرة القدم، تلعب دورا متزايدا كوسيلة للصعود الطبقي بشكل فردي للرياضيين والممارسين للصعود إلى قمة الهرم الطبقي وتجاوز الفقر، وبالرغم من أن ذلك لا يتم إلا لحفنة معدودة من اللاعبين المميزين، إلا أن حلم الشهرة والثراء يلعب دوره في جذب مئات الآلاف وربما الملايين من الشباب الطامح إلى الترقي الطبقي، ولا شك أن وسائل الإعلام وأبواق الرأسمالية تلعب دورا كبيرا في تنمية وزيادة هذا الدور بالتركيز على لاعبي الكرة وإفساح صفحات الجرائد لأخبار اللاعبين وفضائحهم والعمل على استضافتهم في البرامج التليفزيونية والتركيز على جعلهم المثل والقدوة والحل الأمثل للثراء السهل والسريع لملايين الشباب، مثلهم كالفنانين والمطربين.
ومما يساعد على ذلك كون كثير من هؤلاء الرياضيين من ذوي الأصول الفقيرة والمتواضعة والذين حصلوا على تلك المراكز المميزة بفضل موهبتهم الفطرية، مما يزيد من تعاطف الجماهير معهم ويزيد من توحدهم مع نجومهم الذين يمثلون أحلامهم الشخصية في الترقي الاجتماعي والثراء والشهرة. وقد برر الكثير من المحللين أن جزء من الشعبية الكبيرة لكرة القدم، ربما لكونها مرتبطة أكثر بالموهبة الفطرية للاعب، وليس ارتباطها الشديد بالتدريب والتمرينات كما الحال في الكثير من الرياضات التي تجعلها مقصورة على فئات بعينها من المجتمع، هذا بالإضافة لسهولة ممارستها وعدم احتياجها لمعدات معينة أو أماكن ذات مواصفات خاصة.
الرياضة والرأسمالية
وفي العقود القليلة الماضية ازداد اهتمام الرأسمالية ورجال الأعمال بكرة القدم، فزاد من أهميتها مع العوامل السابق ذكرها، وأيضا التحول الجذري للرياضة والذي جعلها أحد أهم مصادر الربح الرأسمالي، فقد تحول كل ما هو متعلق بكرة القدم إلى مصدر للربح، فصرنا نسمع عن الرعاة الرسميين للبطولات، وعن عقود الاحتكار، وعن أجور سنوية للاعبين تقدر بالملايين، وقنوات مشفرة ولها اشتراكات، وعقود إعلانات ضخمة، ومكافآت مادية بالملايين و غيرها. (يكفي الاطلاع على صفحات الجرائد المصرية من يوم السبت 14/11، إلى الأربعاء 18/11 لنرى كمية ما وُعِد به لاعبو المنتخب في حالة التأهل من مكافأت تجاوزت الـ 9 مليون للاعب الواحد، هذا غير المكافآت العينية من أجهزة تكييف وشقق وسيارات وغيرها)، على سبيل المثال قدر جمال السادات، رئيس مجلس إدارة شركة اتصالات للمحمول مبلغ قدره 3 مليون جنيه من الشركة للمنتخب المصري كمكافأة في حالة فوزه، بينما وعد اتحاد الكرة المصري بـ 2 مليون جنيه لكل لاعب في حالة الفوز.
وقد صرح رئيس الدولة مبارك مؤخرا بصرف 6 مليون جنبه مكافآت للاعبين، بالرغم من خسارتهم، وذلك لأدائهم الرجولى المشرف.
هذه المكافأت والمبالغ الطائلة ليست لوجه الله أو تعبيرا عن حب رجال الأعمال والشركات العملاقة لكرة القدم، ولكنها تعبر عن الحجم المهول والاستثمارات الضخمة لرأس المال في هذه اللعبة الشعبية.
فبداية من الأعلام التي انتشرت في الشوارع والطرقات والمحلات، والتي بيع منها عشرات الألوف سواء في مصر أو الجزائر، والتي لا تحظى بهذا الانتشار إلا في أوقات المباريات العصيبة، ومرورا بالحملات الإعلانية أوقات المباريات، والأدوات الرياضية وفانلات المنتخب خاصة تلك التي تحمل أرقام وأسماء اللاعبين المحبوبين، واللافتات الضخمة التي تملا الشوارع تهنئ و تشجع الفرق القومية وتدعو في نفس الوقت لسلعها ومنتجاتها، وصولا إلى الأحذية الرياضية والملابس التي تحمل أحدث الماركات العالمية، هذا غير المكاسب المهولة من وراء الاحتكار للبث التليفزيوني، والذي أدى لاحتجاب بعض القنوات الفضائية الخاصة المصرية وقت المباراة الأولى يوم السبت واستئثار التليفزيون المصري بالكعكة بمفرده.
أما البطولات نفسها فحدث ولا حرج، فقد صارت وسيلة لجذب الأموال وطريقة لتنشيط السياحة ومهرجان كبير للدعاية بين الشركات ورؤوس الأموال المتنافسة. بل وصل الأمر إلى بيع وشراء اللاعبين وتسليعهم كأية سلعة رأسمالية أخرى، واستغلال شهرتهم في التسويق والدعاية لمنتجات الشركات الرأسمالية.
هذا عن الاقتصاد الرأسمالي واستغلال الرياضة، فماذا إذا عن السياسة؟ إن تحويل المباريات الرياضية بين المنتخبات المختلفة من وسيلة للتنافس الشريف إلى صراع سياسي قد صار من البديهيات، كما أن استغلال الانتصارات والهزائم الكروية، خاصة في البلدان المتأخرة في التطور الرأسمالي والسياسي، أصبح أيضا من المسلمات. فمنذ اندلاع حرب السلفادور وهندوراس بعد مباراتهما الفاصلة للتأهل لكأس العالم في 1969 والجميع يعرف ما يمكن أن تصل إليه السياسة إذا ما تدخلت في الألعاب الرياضية.
ولعل الأمس القريب يذكرنا بمدى التداخل والتشابك، إذ أنه عندما غرقت العبارة المصرية في 2006 وغرق من كان على متنها من ركاب يقدر عددهم بحوالى 1400 شخص، كان رئيس الجمهورية وقتها في المدرجات يحتفل هو وزوجته بالأعلام المصرية بفوز فريق مصر لكرة القدم في المباراة النهائية للبطولة الأفريقية، بدلا من وجوده أو متابعته لتلك الكارثة القومية، وتم استغلال ذلك الفوز لإلهاء شعب بأكمله عن تواطؤ النظام مع طبقة الرأسماليين وتستره على فسادهم وجشعهم الذي أدى إلى تلك الكارثة الناتجة عن الإهمال المتعمد والاستهتار بأرواح البشر.
مصر: الأبعاد السياسية والاقتصادية
أما عن الملابسات المحيطة بأحداث المبارتين الأخيرتين، فتحتاج منا إلى الرجوع فترة قصيرة من الزمن، فالمنتخب المصري هو بطل أفريقيا المتوج لمرتين متتاليتين، ويحظى بدعم شعبي وإعلامي غير مسبوق، وثقة وتجدد للأمل بعد تأخره عن المنتخب الجزائري في بداية سباق التأهل لكأس العالم 2010، واستطاعته تجاوز العديد من العقبات والفوز في 4 مباريات متتالية داخل و خارج أرضه، ليزداد بريق شعلة الأمل الخافتة إلى لهيب متوقد يبث الحماسة والشوق في نفوس ملايين المشجعين المصريين بالرجوع إلى الأضواء العالمية والتأهل بعد غياب 20 عاما عن كأس العالم. هذا بالإضافة إلى تواجد مجموعة من اللاعبين ذوي الشهرة والموهبة وكثير من المحترفين بالخارج، مما أعطى الجماهير ثقة كبيرة في قدرة لاعبي المنتخب على الفوز والتأهل.
هذا عن داخل الملعب، ولكن ماذا عن خارجه، عودة إلى كلمة ماركس المشهورة: “الأفكار السائدة هي أفكار الطبقة الحاكمة”، يمكننا النظر إلى ما يحدث بمنظور مختلف، فطالما ما استخدم النظام الحاكم كرة القدم كوسيلة لزيادة شعبيته ولإلهاء الجماهير وتسليتها مما تعانيه في حياتها، وذلك كان حتى في عهد عبد الناصر ومشروعه العربي القومي، فقد غضب عبد الناصر من استضافة فريق البرازيل وهزيمته لمنتخب مصر بالرغم من كونه بطل العالم في ذلك الوقت، بدعوى أنه لا يريد فرق تأتي لهزيمتنا على أرضنا، واستمر الحال في تزايد، خاصة بعد أن فقدت الجماهير المصرية كل المشاريع القومية التي تعطي صبغة وطنية أو هدف حقيقي مشترك كان يجمعها بعد أن تغيرت بوصلة النظام الحاكم مع مجيء السادات ومن بعده سلفه مبارك.
زادت الليبرالية الجديدة وسياسات الخصخصة وسحب الدعم من معاناة المصريين على مدار العشرين عاما الماضية، وتناقص بالتالي رصيد النظام لدى الجماهير الكادحة والمقهورة وزاد احتياج النظام للقبضة الأمنية التي توغلت وسيطرت على كل مناحي الحياة في مصر.
وفي الـ 5 سنوات الأخيرة تزايدت مقاومة الشعب المصري لسياسات النظام الحاكم ورفضه لاستمراره، سواء سياسيا كما في أحداث 2005 و 2006، أو اجتماعيا كما في السنوات الـ 3 الأخيرة، وبالرغم من اشتداد وتيرة الاحتجاجات والاعتصامات والإضرابات، إلا أن النظام مدفوعا بأزمة اقتصادية خانقة ونفاذ للحلول، اضطر للاستمرار على نفس وتيرة الخصخصة ورفع الدعم، بل وحتى زاد من سرعتها، وبالرغم مما ترتب على ذلك من انخفاض مستوى المعيشة وارتفاع فاحش للأسعار إلا أن النظام لم يكن لديه بديلا آخر.
في ظل هذا الوضع المأزوم لنظام يعيش على حماية الأمن، وفي ظل أزمة عالمية اقتصادية تحوم آثارها حول اقتصاد هامشي معرض لضغوط المنافسة، تأتي مشكلة الانتخابات البرلمانية والرئاسية المقبلة في ظل رئيس تعدى الثمانين عاما وابن وريث يلقى معارضه شعبية – ويلقى توافق وقبول من رجال الأعمال ومعظم الرأسماليين الكبار – وسياسات مجحفة في حق الجماهير والأغلبية تسعى الطبقه الحاكمه لتسويقها.
من هنا كان الدعم الإعلامى والحشد والتعبئة الشديدة قبل مباراة السبت والحرص على استنفار المشاعر الوطنية للوقوف وراء الوطن المزعوم “مصر”، وامتلأت صفحات الويب والفيسبوك بالابتهالات والأدعية والحوارات التليفزيونية والرياضية وبالدعاوى الوطنية والدينية في مشهد ينتمي إلى الكوميديا السوداء أكثر من انتمائه إلى الواقع.
فناهيك عن أن الدعاء والابتهال لله (وإن ربنا معانا) هو موجه ضد شعب آخر عربي ومسلم أيضا، ولكنه يرسخ كذلك فكرة التواكل والغيبيات في لعبة رياضية لا تعرف غير الأداء الجماعي وتهدف إلى رفع الروح الرياضية والفوز للأفضل.
هذا ولا ننسى بالطبع زيارة رئيس الدولة مبارك لتدريبات المنتخب قبل المباراة وتشجيعه لهم، وهو المشهد الذي لم نره في أي من المواقف التي احتاجت وجوده، سواء في الكوارث القومية كاحتراق القطارات المتكررة بركابها، أو غرق العبارات بمن عليها، إلى احتراق قصور الثقافة بمثقفيها، أو في حوادث القتنة الطائفية المتكررة، أو في وسط الإضرابات والاعتصامات المشتعلة في طول وعرض مصر.
كان الاستغلال السياسي للحدث من الوضوح و الفجاجة بما لا يقاس، وكان اللعب على أوتار المشاعر الوطنية في ذروته، وبالطبع بعد الفوز الدراماتيكى – في الدقيقة الأخيرة – كانت سعادة وفرح الملايين من المصريين – خصوصا في عصر عزت فيه الفرحة – هائلة، مما أدى لنزول عشرات الآلاف للشوارع للتعبير عن احتياجهم للفرحة في مشهد يحمل العديد من الدلالات.
كانت أدوات الاستغلال السياسي و الإعلامي والاقتصادي للحدث، وركوب الموجة من الوضوح بحيث لا تحتاج للإشارة إليها، بدءا من انتقال الكاميرا بعد الهدف الثاني الحاسم مباشرة إلى علاء وجمال مبارك الجالسين في المدرجات، ونقل فرحتهم بالهدف كممثلين عن الشعب المصري و فرحته!، ومرورا بتصريح مدرب الفريق المصري بإهدائه الفوز إلى الرئيس مبارك وأن “ربنا كريم جدا معانا ومباراة السودان ستكون أسهل”.
وفي الأيام التالية للفوز والسابقة للمباراة الفاصلة امتلأت الصحف اليومية وصفحات الإنترنت بأخبار الانتصار والفرحة الغامرة والثقة العارمة في الفوز في السودان، على سبيل المثال: المصري اليوم فى 17/11/2009 “المنتخب فاز بالقرآن ودعاء 80 مليون ونصائح الرئيس مبارك”!.
وامتلأت الحورات مع اللاعبين على صفحات الجرائد بالثقة والفخر والشوفينية المقيتة، فعلى سبيل المثال دار الحوار التالي:
محمد زيدان (أحد لاعبي المنتخب المصري): المباراة الفاصلة أسهل كثيرا من المباراة السابقة لأنها بلا ضغط عصبي والكفتان متساويتان، واللاعب المصري إذا وضعته أمام فرص متكافئة دائما ما يتفوق وينتصر ويحقق المستحيل.
المحرر: ألا ترى أنك تتحدث بثقة زائدة؟
محمد زيدان: مطلقا، لكنها ثقة في قدرات زملائي وفي الجهاز الفني، وأقسم لك بأننا الأفضل والأحق بالمونديال عن غيرنا، فلاعبونا هم الأكفأ وجهازنا الفني هو الأجدر وشعبنا هو الأعظم والأفضل!!.
أيضا امتلأت الصحف والبرامج الحوارية بالدعاية للشركات والمؤسسات الرأسمالية والترويج للسلع والمنتجات والخدمات من كل صنف و لون، وكلها تؤيد وتشجع المنتخب وترصد له المكافآت وبالطبع تشكر الرئيس، هذا بالطبع إلى التركيز على حوادث الاعتداء على مصريين في الجزائر وعلى ممتلكات شركة أوراسكوم تيلكوم وعلى حوادث متفرقة في فرنسا – حيث أكبر جالية جزائرية – خاصة في مارسيليا.
لقد حددت البرجوازية المصرية معركتها وحشد النظام قوته لخوضها وهو على ثقة – ثبت أنها غير مبررة – من فوزه بها، ساعد على ذلك اختيار السودان كمكان لخوض المباراة، وهي البلد الأقرب لنا في الجغرافيا والتاريخ، لذا وبعد الشحن المعنوي والتعبئة الإعلامية عمد النظام إلى حشد الفنانين والإعلامين والمطربين وغيرهم من المشاهير في الإطار الوطني الفضفاض لتشجيع “مصر”، و عمل الحزب الوطني على إعداد مشجعيه للسفر إلى السودان وتجهيز طائرات لهم، وجهز كبار الرأسماليين، على سبيل المثال “مصطفى السلاب” الطائرات الخاصة لنقل المشجعين. بالطبع انجذب للدعاية الوطنية المكثفة الآلاف من شباب وعائلات الطبقة الوسطى والشرائح العليا الذين يستطيعون تحمل تكلفة السفر والاقامة ورفاهية دفع مبالغ بالآلاف لتشجيع المنتخب في مباراة كرة قدم. ذلك في وقت يعيش فيه 35 مليون مصري على أقل من 2 دولار يوميا (حسب البنك الدولي والصندوق الدولي للتنمية الزراعية التابع للأمم المتحدة)، و12 مليون مصري يعيشون في العراء في العشش الصفيح والجراجات والمساجد والمقابر (وفقا للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء).
وطبعا على رأس المشجعين من هذه النوعية والشريحة كان الأخوان علاء وجمال مبارك داعمي المنتخب القومي رقم واحد.
ولوهلة بدا الحلم على وشك التحقيق وبدا المصريون وكأنهم على قلب رجل واحد موحدين في الحلم و الهدف، ولكن في ذلك الوقت كانت تطورات الصراع الطبقي في مصر المتصاعد منذ بضعة أعوام ودرجة الوعي السياسي قد منعت أغلبية الطبقة العاملة من التوحد الكامل مع النظام والانسياق لدعايته، ويظهر هذا في استمرار الاحتجاجات العماليه وعدم تأثرها بالحملة الإعلامية المسعورة الهادفة لتسويق ما يسمى بـ”المصرية”. فمثلا هدد عمال الحديد والصلب بالاعتصام بسبب تأجيل صرف رواتبهم، وأضرب 900 عامل بالعاشر من رمضان مطالبين برواتبهم المتأخرة، واعتصم عمال المصرية للأسمنت مطالبين بصرف حافز الإنتاج ونسبتهم من الأرباح، ولعل موقف بائعي الأعلام المتجولين أكبر تعبير عن ذلك، فقد عبر معظمهم عن فرحتهم بالفوز بهدفين فقط لأن ذلك أعطاهم فرصة أكبر من الوقت لبيع كمية أكبر من الأعلام وزيادة ما يجنوه من أموال. (المصري اليوم 17/11).
إلا أن هذا لم يكن موقف البرجوازية الصغيرة التي خضعت تماما للدعاية المكثفة والدعاوى الوطنية من جانب النظام وانطوت تحت رايته.
انتهى الحلم بانتهاء الوقت الأصلي والإضافي للمباراة بفوز المنتخب الجزائري وخسارة المنتخب المصري، وهو ما مثل صدمة لكل آمال الجماهير المصرية، ولكنه مثل لطمة على وجه النظام الذي حشد كل أدواته ودعايته ليخسر في النهاية وبصورة غير متوقعة، وكان من الطبيعي أن تتحول الوطنية المجردة في مثل هذا الموقف إلى التعصب القومي والشوفينية الطبقية خاصة بعد حجم التعبئة والدعاية الضخمة التي حرص عليها النظام كوسيلة لزيادة شعبيته وجماهيريته.
من هنا يمكننا فهم الهجمة الإعلامية المسعورة والإجراءات غير المسبوقة وتطورات الأحداث عقب المباراة وحتى الآن، فبعيدا عن التصعيد المصري ضد الجزائر في الإعلام والفضائيات المصرية، وهو ما يمكن أن نجد تبريره في رغبة تلك القنوات ووسائل الإعلام في الانتشار والربح والأطماع الشخصية للإعلاميين الذين يطمعون في التواجد والشهرة، كان هناك أيضا تصعيد من الجانب الرسمي المصري ضد الجزائر بدءا من استدعاء سفير مصر بالجزائر للتشاور وتجاهل مهرجان القاهرة السينمائي للفيلم الجزائري في الختام بالرغم من كون الجزائر هي ضيف الشرف هذا العام، وانسحاب الاتحاد المصري من اتحاد شمال أفريقيا لكرة القدم وإعلان مبارك عن استقباله للمنتخب المصري المهزوم، وانتهاءا بالتصعيد الشعبوي من علاء مبارك – نجل الرئيس – ضد الجزائر وتحريضه ضد دولة بأكملها ومطالبته بالكف عن “التحسيس و الطبطبة” على الدول العربية في موقف أثار إعجاب الكثيرين – خاصة مع حدة خطابه ضد من ينتهكون كرامة المصريين ويعتدون عليهم – وهو ما يثير تساؤلات عديدة حول موقف علاء مبارك من “تحسيس وطبطبة” والده على دولة إسرائيل رغم كل جرائمها ضد الفلسطينيين، وامتهان كرامة المصريين في مصر في الشوارع وأقسام الشرطة والاعتداءات السافرة والمستمرة ضدهم من جانب أمن نظام والده، ناهيك عن التعذيب المنهجي في السجون والمعتقلات في بلد ذات سجل أسود في مجال حقوق الإنسان.
جدير بالذكر أنه منذ وقت قليل هرب كل من هاني سرور بعد ثبوت اتهامه في قضية أكياس الدم الفاسدة، ومن قبله ممدوح اسماعيل بعد ثبوت مسئوليته عن غرق العبارة المصرية، و الإثنان كانا من أهم رجال النظام المصري “الحريص على كرامة مواطنيه”!!
الغريب أن المطالع لوسائل الإعلام المصرية في اليوم التالي للمباراة مباشرة لا يكاد يلمح أثرا لهذا التصعيد الإعلامي والذي بدأ متأخرا وبعدما حزمت الرأسمالية قرارها، فمثلا صرح حاتم الجبلي بأن المشجعين المصريين في السودان إصاباتهم طفيفة، وتصدر خبر تخفيف علاء وجمال مبارك الصدمة على اللاعبين الصحف، كما تم إبراز تصريح للشرطة السودانية بأن 3 أتوبيسات مصرية فقط تحركت بمفردها وتعرضت للاعتداء من الجمهور الجزائري (جريدة الأخبار 19 نوفمبر).
أما في اليوم التالي وعلى الجانب الإعلامي، فقد حشد النظام أدواته من فضائيات وصحف وفنانين ومغنين للبكاء على ما تعرضوا له من اعتداء، ولتحويل تعبئة البرجوازية المصرية من حالة الوطنية والتوحد مع المنتخب الحلم إلى التعصب القومي ضد الجزائريين المجرمين، وتوسيع حالات اعتداء من جانب بعض الآلاف من المتعصبين الكرويين الجزائريين إلى عداء تاريخي بين الشعبين الجزائري والمصري، بل وصل الأمر إلى أن يهدد أنس الفقي وزير الإعلام بإرسال قوات أمن مصرية إلى السودان لحماية المصريين، ويصرح بعض مقدمي البرامج بضرورة قطع العلاقات الدبلوماسية، بل وصل الأمر للمطالبه بقتل أفراد الجالية الجزائرية في مصر ردا على الاعتداءات الغاشمة للجزائريين.
بالطبع من تعرض للاعتداء ليس من مواطني الدرجة الثانية من البسطاء الذين يتعرضون للضرب أو الصفع في كمين شرطة على الطريق الدائري، أو مشجعي الدرجة الثالثة أثناء دخولهم الإستاد في مباراة مهمة، ولكنهم مشجعو “اللولي بوب” حسب تعبير المطرب الشعبي سعد الصغير من فنانين ومطربين والشريحة العليا من المجتمع التي هللت وسائل الإعلام لها عندما احتلت المدرجات بكثافة منذ البطولة الأفريقية الأخيرة مكان جماهير الدرجة الثالثة بعد الارتفاع الجنوني لأسعار التذاكر.
لذا كان من الطبيعي أن تثور ثائرة البرجوازية المصرية دفاعا عن كرامتها الجريحة المهدرة، فكان قرار منع المطربين المصريين من الغناء في الجزائر وفق قرار نقيب الموسيقيين المصري، وكذلك رفض أحمد السقا لجائزة مهرجان وهران السينمائي، ومقاطعة الشركة العربية للإنتاج السينمائي لمهرجانات الجزائر، إلى مئات من الحورات على القنوات الفضائية مع المطربين والفنانين المساكين الذين ذرفوا الدموع و الآهات لما تعرضوا له من خوف وإهانة، وفي هذا الإطار أهابت إحدى القنوات الفضائية بالمصريين “أن يلتفوا حول قيادتهم على قلب رجل واحد حتى نعيد حساباتنا ونحصل على حقوقنا، خاصة وأن القوي لا يهاب الصبيان المرتزقة”، بينما صدرت قناة أخرى في مقدمة برامجها الشعار النازي الشهير بعد تعديله “مصر فوق الجميع”.
وانضم كبار الكتاب والمثقفين المصريين كخيري شلبي وابراهيم عبد المجيد ويوسف القعيد ومحمد سلماوي في تأكيد كراهيتهم للجزائر وهمجية شعبها ليصبحوا مع نفس موقف هيفاء وهبي ونانسي عجرم، وهو ما يدلنا على مدى نضج تفكير ومواقف كبار مثقفينا، هذا في الوقت الذي أصدر فيه مجموعة من المثقفين الجزائريين بيانا يندد بالتعصب الوطني والشوفينية.
واستمر تصاعد الأحداث إلى أن وصل للمطالبة باعتذار رسمي من الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة والمطالبة يتغيير اسم شارع الجزائر إلى شارع حسن شحاتة، وانتشار المجموعات على الإنترنت التي تدعو لمقاطعة الجزائر وطرد السفير، هذا بالإضافة إلى حرق علم الجزائر أمام السفارة ومحاصرتها من جانب مئات من الشباب الغاضب الذي اشتبك مع الأمن المصري المكلف بحماية السفارة، هذا غير المظاهرات في ميدان التحرير أمام مكتب الخطوط الجزائرية.
بالنظر إلى الملابسات السياسية والاقتصادية والإقليمية، فانحدار النظام المصري إلى هذا النوع من التصعيد الشعبوي بقيادة نجلي رئيس الدولة لا يحمل أية دلالة سوى الإشارة إلى مدى الانحدار والضمور في الدور الإقليمي للنظام المصري وانعدام أية قدرة له على إعطاء مكتسبات للجماهير تتيح له الحشد والتعبئة الحقيقية المبنية على مشروع قومي أو وطني، ودلالة على احتياج الجماهير إلى بطل أسطورى أو حلم أو مشروع تجاري يلتفون حوله ويتحدون وراءه لتحقيق مستقبل أفضل لهم و لأبنائهم.
لقد كان النظام الحاكم في احتياج إلى نصر رياضي يعزز مكانته السياسية المهتزة أمام المعارك القادمة من انتخابات وتوريث وخلافه، وفي حاجة إلى مشروع قومي يوحد طبقات المجتمع المصري وراء حلم واحد يقلل من حدة الصراع الطبقي المشتعل ويهيئ الأرضية لتدعيم مكانة جمال مبارك كمرشح شعبي للرئاسة، وكوسيلة للإلهاء لمدة طويلة قادمة وحتى فعاليات كأس العالم الفعلية، ولكن مع فشل هذه الخطة استغلت الطبقة الحاكمة الهزيمة في شحن التعصب القومي والشوفينية الطبقية وتوجيه الغضب المستعر ضد دولة الجزائر واكتساب دور المدافع عن مصالح الشعب المصري المعتدَى عليه.
الجزائر
ربما لن يكون الجزء الخاص بتحليل الموقف من ناحية دولة الجزائر بنفس حجم و طول الجزء الخاص بمصر، وذلك يرجع لنقص المعلومات والمادة المتوفرة عن النظام القمعي السلطوي الجزائري الذي ينافس نظيره المصري في الفساد والديكتاتورية، وله سجل أسود أيضا في مجال الديموقراطية وحقوق الإنسان، ناهيك عن استغلاله للعمال والموظفين الجزائريين أبشع استغلال منذ بدئه في تطبيق سياسات الخصخصة والليبرالية الجديدة.
تاريخ الجزائر منذ أيام الاستعمار الفرنسي مليء بملايين المعارك والتضحيات من أجل الاستقلال، حيث تميز الاحتلال الفرنسي للجزائر بكونه استعمار استيطاني، كذلك الاستعمار الاستيطاني من الصهاينة لدولة فلسطين.
العلاقات بين البلدين كانت ودية وأخوية وتزايدت بعد دعم النظام الناصري لمعركة التحرر الجزائرية، وهو ما أدى إلى شن فرنسا لحرب على مصر مشتركة مع بريطانيا و إسرائيل في العدوان الثلاثي عام 1956، وهي تلك المساعدة التي تمن بها أبواق النظام المباركي الحالي على أبناء الجزائر متناسين انقلابهم على كل ميراث النظام الناصري ومتجاهلين أن ذلك الفضل يعود على النظام الناصري وحده وليس النظام الحالي الذي انقلب على كل التراث الناصري والذي يعقد علاقات ودية مع إسرائيل التي يرفرف علمها على ضفاف النيل. على الجانب الآخر كانت الجزائر هي الدولة الأولى في حجم مساندة مصر في حربها ضد الكيان الصهيوني في حربى 67 و73 من حيث الأفراد والمعدات العسكرية، حيث شاركت الجزائر في حرب أكتوبر 1973 على الجبهة المصرية بالفوج الثامن للمشاة الميكانيكية، كان الرئيس الجزائري هواري بومدين قد طلب من الاتحاد السوفيتي شراء طائرات وأسلحة لإرسالها إلى المصريين عقب وصول معلومات من جاسوس جزائري في أوروبا قبل الحرب مفادها أن إسرائيل تنوي الهجوم على مصر وباشر اتصالاته مع السوفييت لكن السوفييت طلبوا مبالغ ضخمة فما كان من الرئيس الجزائري إلا أن أعطاهم شيك فارغ وقال لهم أكتبوا المبلغ الذي تريدونه، وهكذا تم شراء الطائرات والعتاد اللازم ومن ثم إرساله إلى مصر، و هذه بعض إحصائيات لما قدمته الجزائر لهذه الحرب التي كانت فيها ثاني دولة من حيث الدعم: 2115 جندي، و812 ضابط صف، و192 ضابط، و96 دبابة، و32 آلية مجنزرة، و12 مدفع ميدان، و16 مدفع مضاد للطيران، ولواء مشاة ميكانيكية و لواء مدرع، و سرب ميغ21 وسرب سوخوي7 وسرب ميغ 17 بما يوازي 50 طائرة.
طبيعة الجزائر الجبلية الصحراوية و التكوين الاجتماعي القبلي العشائري جعل صفات معينة ترتبط بذلك الشعب المقاتل (أقرب إلى طبيعة البدو أو أهل الصعيد في مصر)، وهو ما يفسر لنا صمود شعب فقد أكثر من مليون شهيد وحوالي ضعفهم من الجرحى في حرب تحرير تعد الأشرس في القرن العشرين. بالطبع غيرت الرأسمالية من هذه التركيبة الاجتماعية بتمركزها في الجزائر طوال العقود الخمسة الماضية وبالتالي قللت من الروابط العشائرية والقبلية وتأثيرها إلى حد كبير في المجتمع الجزائري، ولكنها لم تقض عليها تماما.
زادت أزمة الهوية والانتماء في الجزائر مع فشل مشروعات التنمية القومية المبنية على أساس رأسمالية الدولة منذ عهد الرئيس بومدين وتردى مستويات معيشة أغلب الشعب الجزائري منذ منتصف الثمانينات ودخول الاقتصاد القومي في حالة ركود عميق وارتفاع لنسبة البطالة، و هو ما أدى لتزايد موجات الهجرة إلى فرنسا بحثا عن فرصة حياة أفضل من ناحية، والارتماء في أحضان الجماعات الإسلامية بحثا عن الانتماء في عصر الاغتراب الرأسمالي من ناحية أخرى. وهو ما أدى إلى نجاح “الجبهة الإسلامية للإنقاذ” في الانتخابات وتدخل الجنرالات و العسكر، و هو ما أدى إلى إلقاء البلاد في دوامة من العنف والمذابح الدموية العنيفة التي راح ضحيتها أكثر من 150 ألف قتيل على مدى 15 عاماً وتركت آثار جراحها على الجزائر حتى الآن.
هذه الازدواجية في مكونات الشخصية الجزائرية، وخاصة البرجوازية بشرائحها المختلفة ما بين العربية والفرنسية، وما بين البقاء في الوطن الأم أو العيش في فرنسا، وما بين الدولة العلمانية والإسلامية، لم يزد الجزائريين إلا انتماءا و تعصبا لبلادهم، ولكنه جعل موقفهم في غاية الحدة والراديكالية، خاصة بعد خروجهم مما يشبه الحرب الأهلية، ولعل مقتل 14 مشجع جزائرى في الجزائر أثناء احتفالات الفوز والتأهل أكبر دليل على تأصل ثقافة العنف في المجتمع الجزائري.
جدير بالذكر أنه على كل النواحي المصرية لم يسقط قتيل واحد، ولم تتعد الإصابات العشرات في ظل كل أجواء الشحن والتعصب.
أما عن علاقة الشعب الجزائري بمصر فقد تلقت ضربة موجعة على المستويين الشعبي والرسمي، خاصة بعد معاهدة كامب ديفيد والتصالح مع الصهاينة، وإن كانت العلاقات الرسمية قد عادت وتم استئنافها، إلا أن الجماهير قد خاب أملها في مثلها الأعلى وقدوتها والدولة العربية الأكبر في المنطقة، تزايد الإحباط من ناحية المصريين بعد الموقف الرسمي المتخاذل بعد حرب لبنان الأولى والانتفاضة الأولى واتفاقية السلام واتخاذ مصر موقف عراب السلام بين إسرائيل والفلسطنيين، ثم موقف مصر العدائي المتزايد تجاه الفلسطنيين بعد الانتفاضة الثانية، ثم انحدار مصر إلى موقف العداء السافر للمقاومة سواء في حرب لبنان الثانية أو بعد حصار غزة واجتياح الجيش الإسرائيلي لها، ومساندة مصر في إحكام الحصار رغبة منها في التخلص من نظام حماس.
بالرغم من معاناة الشعب الجزائري من الديكتاتورية والقمع على المستوى السياسي، ومن الاستغلال والفقر على المستوى الاقتصادي، إلا أن القضية الفلسطينية والهم القومي العربي كانا دوما من أهم مفجرات مشاعر الغضب والسخط عند الشعب الجزائري كما في مصر، ولكن ربما بسبب التركيبة العشائرية والعصبية القبلية كانت تلك القضية المحورية تلعب دورا أكبر بالنسبة للشعب الجزائري، لذا لم يكن غريبا أن نرى مظاهرات تحاول اقتحام السفارة المصرية أثناء حرب غزة الأخيرة احتجاجا على التواطؤ المصري وحصاره لشعب غزة وتعبيرا عن صدمة الشعب الجزائري من انحدار دور الدولة العربية الكبرى إلى ذلك الدرك الأسفل من التواطؤ مع الكيان الصهيوني.
ولا يمكننا بأي حال أن نغفل دور العوامل النفسية التي تحرك مشاعر الكثير من الجزائريين وغيرهم من العرب تجاه الدولة المصرية من إعجاب وحب وانتماء، ولكن في نفس الوقت غيرة ورغبة في إثبات التميز والتفوق، فتعداد مصر حتى منتصف القرن الماضي كان تقريبا يوازى ربع تعداد كل الدول العربية، وكان اقتصادها يفوقهم مجتمعين، وكانت مصدر العلم والتقدم وقلعة العروبة وأمل العرب في اللحاق بالعالم الرأسمالي المتقدم.
في ظل هذه العوامل وفى هذا السياق يمكننا فهم العصبية الشديدة والتوتر الذي ساد مباريات البلدين منذ السبعينات أوحتى الستينات، وللإجمال يمكن القول أن ذلك موقف كل الدول العربية حديثة التكوين في الإطار الوطني الحديث وفي ثوب الدولة العصرية كمعظم دول الخليج و المغرب العربي.
ولكن لا يمكننا أيضا أن نغفل دور البرجوازيات والطبقة الحاكمة في البلدان العربية في لعب دور المحفز والدافع للجماهير لمزيد من التعصب والتحيز بما يخدم مصالحها ويعلي من سيطرتها الفكرية على شعوبها.
وفي ظل رئاسة بوتفليقة استمر تطبيق سياسات الخصخصة والليبرالية الجديدة بشكل حاد وسريع في ظل تصادم ضعيف من الطبقة العاملة المنظمة، واستمر الطغيان السياسي بعد استقرار الحكم في يده بعد نجاحه في تغيير الدستور بما يسمح ببقائه في الرئاسة لفترة رئاسية ثالثة، وبالرغم من نجاح الجزائر في جذب الاستثمارات الأجنبية بشكل جعلها تحتل المرتبة الثالثة عربيا بعد السعودية والإمارات، وإحرازها لمعدلات نمو مرتفعة، إلا أن هذا لم ينعكس على مستوى معيشة المواطن الجزائري المتوسط الذي استمر يعاني من غلاء الأسعار وازدياد قسوة شروط العمل ومعدل البطالة المرتفع، مما أدى لزيادة في وتيرة الاحتجاجات والإضرابات التي قادها عدد من النقابات المستقلة أهمها مجلس مدرسي التعليم العالي، ومجلس ثانويات الجزائر، ونقابة أطباء الصحة العمومية، ونقابة مستخدمي الإدارات العمومية، ونقابة عمال الصيانة الجوية. ولعل إضراب الأساتذة المستمر منذ أسبوعين و إضراب ممارسي الصحة العمومية المتجدّد لثلاثة أيام أسبوعيا والمواجهات بين روابط العاطلين الذين تجمعوا أمام مقر البلدية وقوات مكافحة الشغب، لمطالبتهم باستفادتهم من عقود الإدماج المهني مؤخرا أكبر دليل على حجم ما تواجهه الطبقة الحاكمة الجزائرية من تحدى من الطبقة العاملة واحتياجها إلى الإلهاء.
من هنا قادت الطبقة الحاكمة الجزائرية الطبقة البرجوازية في طريق الحشد والتعبئة للمنتخب الجزائري لكرة القدم، و عملت على زيادة الدعاية له والتهليل بعد انتصاراته، ووضع هدف التأهل لكأس العالم كحلم وطني، زادت هزيمة المنافس المصري في البداية من إمكانية تحققه خطوة بعد أخرى.
من هنا كانت هزيمة المنتخب الجزائري أمام نظيره المصري بهدفين للاشيء بمثابة الخسارة الحربية، وذلك بعد كم هائل من الحشد والتعبئة للإعلام الجزائري للجماهير الجزائرية، زد على ذلك توقيت الهدف الثاني القاتل في وقت كان يستعد فيه الشعب بأكمله للاحتفال.
وككل الطبقات المقهورة والمسحوقة قد تخرج مشاعر السخط والغضب على معاناتها في حياتها اليومية وصعوبة ظروف معيشتها في شكل واتجاه مغاير لأسباب تلك المعاناة الحقيقية، وهنا نجد بعض الجزائريين يحرقون قوارب في مارسيليا أو يهاجمون مقر أوراسكوم تيليكوم الفاخر في قلب العاصمة الجزائرية أو حتى يروعون إخوانهم من العمال المصريين الباحثين أيضا عن فرصة أفضل لكسب الرزق.
في الأيام الفاصلة قبل مباراة السودان عمد النظام الجزائري إلى نفس أساليب الحشد والتعبئة ضد المنافسة التي اتبعها النظام المصري، غير أن النظام الجزائري – الذي جند طائراته الحربية لنقل المشجعين، وخفض من أسعار التذاكر بشكل كبير – توجه إلى شريحة مختلفة من تلك التي حشدها النظام المصري.
فالطبقة الحاكمة الجزائرية الأكثر عسكرية من مثيلتها المصرية لم تحشد الفنانين والمغنين وجماهير الشرائح العليا من البرجوازية، ولكنها حشدت الآلاف من المهمشين والفقراء الجزائريين الذين يشكلون جنود أي خطاب وطني متعصب أو شعبوي، وتم تعبئة الخطاب الإعلامى بالشحن والتهويل مما تعرض له الجزائريين في مصر، ساعد على ذلك تدني وضعية شرائح كبيرة من المعدمين والعاطلين الجزائريين وذوي الوعي المتدني، وتمت التعبئة ضد المصريين الخونة المتعاونين مع اليهود والصهاينة والمحاصرين للشعب الفلسطيني في غزة، وهو خطاب يحوى قدرا كبيرا من الحقيقة، ولكنه يتغاضى عن أن الشعب المصري ليس مسئولا عن جرائم و تصرفات النظام الديكتاتوري المصري، ويستخف بعقول البسطاء من الجزائريين إذ يحول غضبهم من هذه التصرفات إلى غير موقعه.
انتهت المباراة الفاصلة بنتيجتها المعروفة، وانتهت المواجهة بين الجماهير المصرية والجزائرية بعلقة موجعة للبرجوازية المصرية على أيدى فقراء ومهمشى الجزائر.
بعد ذلك، وكما قال ماركس عن الأفكار في ظل الرأسمالية: “تزول العلاقات الثابتة والمتجمدة وما كان يتبعها من أهواء وأفكار عتيقة ومحتومة، وتصبح تلك التي تحل محلها عتيقة قبل أن تأخذ في التجمد، فكل ما هو صلب يذوب في الهواء ويدنس كل ما هو مقدس”.
فقد اختفت الأفكار الثابتة عن مصر الشقيقة الكبرى والجزائر بلد المليون شهيد، دُنس العلمين المصري والجزائري وتم إحراقهما، ثم الهجوم على السفارات والاعتداء على المواطنين من الجانبين، وتم التصعيد من النظامين وتناسى وحدة التاريخ واللغة والدين والتضحية بهم على مذبح رأس المال ومصالح الأنظمة.
استغل النظام الجزائري الانتصار في تدعيم أركان حكمه العسكري البغيض، وإلهاء جماهير الشعب بوضعه أكاليل الغار على رؤوس اللاعبين بدلا من وضعه الخبز في أيدي مواطنيه، واستغل النظام المصري الهزيمة في الملعب وخارجه، واستثمر وبالغ فى اعتداءات محدودة من الجماهير الجزائرية ضد رموز بوقه الإعلامي ليظهر في صورة المدافع الأشوس عن كرامة وحياة مواطنيه حتى خارج مصر، و هو ما لا يظهر في مواقفه المخزية وتخليه عن مواطنيه وتركهم للجلد والمهانة في الخليج أو القتل في العراق، هذا غير دوره الوطني في السحل والتعذيب المنظم لجموع الشعب المصري في سلخانات أقسام الشرطة والمعتقلات المنتشرة بطول البلاد وعرضها.
هكذا تضافرت خيوط السياسة والاقتصاد بالرياضة لترسم لنا هذه اللوحة الكثيفة من العنصرية والتعصب بين مشجعي بلدين شقيقين خدمة لأهداف وأغراض الطبقة الحاكمة في كل منهما.
أما والحال كذلك، فقد بدأت كلتا الطبقتين الحاكمتين تستكشفان أوراق الضغط لديها تجاه الأخرى، وقد فصلنا الإجراءات والتصعيد المصري على المستوى الإعلامى والرسمي وكذلك على المستوى الجزائري، أما على المستوى الاقتصادي فبنظرة سريعة يمكننا ملاحظة مدى التشابك في المصالح والعلاقات الاقتصادية بين رأسمالية الدولتين، حيث تحتل الجزائر الوجهة الأولى للاستثمارات المصرية على المستوى العربي بمبلغ قدره 6.2 مليار دولار، و من هذا المنطلق يصعب تصور نجاح دعاوى سحب رؤوس الأموال المصرية من الجزائر أو مقاطعتها كما يتردد على ألسنة الكثيرين الأن، وأتصور أن هذا الجناح من الرأسمالية المرتبطة مصالحه بالاستثمارات في الجزائر سوف يسعى إلى أن يُسمع صوته في الفترة القادمة لدى دوائر النظام الحاكم، وإن كان من الصعب التنبؤ بما ستسفر عنه الأحداث خصوصا في ظل المنافسة الشرسة التي يواجهها المستثمرون من قبل رؤوس الأموال الخليجية والفرنسية للحصول على نصيب أكبر من الكعكة الجزائرية ومحاولتهم طرد المنافسين المصريين، و أيضا عدم توافر معلومات عن توازن القوى والمنافسة بين مختلف الشرائح الرأسمالية في مصر ومدى ارتباطها وتأثيرها على دوائر صنع القرار في النظام الحاكم.
والآن تبدو المهام المطروحة علينا صعبة وثقيلة، فبالنظر إلى الصورة الحالية لن تخسر الأنظمة الحاكمة شيئا من موجة العداء المتصاعدة بين مشجعي البلدين، بل على العكس تزداد قوة من التفاف الجماهير حولها ولو إلى حين، وبعدما تصفي من خلافاتها من المؤكد أنها ستتوحد من جديد من أجل استمرار استغلال الكادحين والفقراء من المصريين والجزائريين، ولكن ما سيبقى إذا لم نواجهه بحسم وإصرار هو الأحقاد والكراهية المتراكمة بين أفراد الشعبين.
هل يعني موقفنا هذا أن شعور العزة القومية غريب عنا، نحن الاشتراكيون المصريون الواعون؟ طبعا لا، إننا نحب لغتنا ووطننا. إن ما نعمل لأجله أكثر من أي شيء آخر هو رفع جماهيره الكادحة إلى الحياة الواعية، حياة الديموقراطية والحرية والعدل الاجتماعي. إن ما هو أشد إيلاما لنا من خسارة مباراة والاعتداء على بعض جماهيرنا هو أن نشهد ونتفرج بسلبية على أعمال العنف والاضطهاد والتنكيل التي ينزلها النظام الحاكم القمعي والرأسماليون بوطننا الجميل والتي هي أقسى وأمر من كل ما حدث في السودان.
وكما قال لينين:
إن مصلحة الطبقة العاملة ومصلحة نضالها ضد الرأسمالية لتحتمان التضامن التام والوحدة الوثيقة العرى بين عمال جميع الأمم. وهما يتطلبان التشديد في الرد على سياسة التعصب القومي التي تنهجها برجوازية أية قومية من القوميات. إن الاستثمار لاحق بالعامل الماجور في جميع الحالات. فلكي ينجح في النضال ضد هذا الاستثمار، يجب أن تتحرر البروليتاريا من التعصب القومي، وأن يكون العمال حياديين تماما – إذا صح التعبير – في النضال الناشب بين برجوازيات الأمم المختلفة من أجل الزعامة، وإن أدنى تأييد تقدمه بروليتاريا أمة من الأمم لنصرة امتيازات برجوازيتها القومية لابد أن يثير حذر بروليتاريا الأمة الأخرى، وأن يُضعف التضامن الطبقي الأممي بين العمال، ويُحدث الانقسام بينهم كي تفرح البرجوازية وتبتهج.
إن ما نراه من ترسيخ لفكرة الوطنية المصرية المتميزة تأتي على حساب التمايز عن الآخر، سواء كان السوداني “الكسلان” أو “غير النظيف” أو “البواب” كما سمعنا أيام مذبحة اللاجئين السودانيين في المهندسين، أو الآخر البدوي الخليجي “الجاهل كيس الأموال”، أو الفلسطينيون “الخونة وباعة الأرض للصهاينة”، وأخيرا الجزائريون “البرابرة الهمج الذين يجهلون العربي”، هو ما يسلخ المصريين بالتالي عن التزاماتهم عن محيطهم العربي وأقرانهم من البروليتاريين العرب، ويعطي النظام فرصة ذهبية للاستمرار في دوره المتواطىء مع العدو الصهيوني بحرية أكبر.
إن الثورة البروليتارية تتطلب تثقيف العمال طويلا بروح الإخاء والمساواة القومية الكاملة. وهكذا إذن ينبغي، من وجهة نظر مصالح البروليتاريا أن نثقف الجماهير طويلا بروح النضال الأكثر حزما ضد كل مظاهر التعصب القومي، والعبء يقع بصورة أكبر على عاتق اليسار المصري، فالنظام القمعي الذي يحكمنا هو من يعقد الاتفاقات مع إسرائيل ويمدها بالبترول والغاز ويستقبل سياحها، وهو من يحاصر غزة وشعبها. كما أن الطبقة العاملة المصرية هي الأكبر في المنطقة العربية والأكثر تقدما ووعيا وعلى عاتقها تقع مسئولية قيادة الطبقة العاملة العربية.
لذا فالمطروح الآن هو حملة شعبية يقودها اليسار والمعاضة الشريفة وكل منظمات المجتمع المدني لكشف زيف ادعاءات الأنظمة وطرح مبادارات بالتسامح والتضامن بين الطبقة العاملة بمعناها الواسع في كل من مصر والجزائر، هذا هو السبيل الوحيد لكسر هذه الحلقة من الشوفينية والتعصب الأعمى وبداية التوحد ضد عدونا المشترك.
ــــــــ
المصادر
رأس المال: كارل ماركس
الاقتصاد المجنون: كريس هارمان
عن المسألة الوطنية والأممية البروليتارية: لينين
الرياضة وصناعة الربح (أوراق اشتراكيه ـ مايو 2009): هالة دحروج
الصحف المصرية (14 – 20 نوفمبر): الأهرام، والأخبار، والمصري اليوم