بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

ساحة سياسية

دردشة عن المظاهرات (2)

كيف يتم حصار المظاهرات؟

سلسلة مقالات للمناضل الاشتراكي كمال خليل، الذي شارك في وقاد مئات المظاهرات على مدار ما يزيد عن الثلاثين عاماً، يطرح فيها رؤيته للحركة الجماهيرية منذ السبعينات وحتى الآن.

في بداية المظاهرات الطلابية عام 1968 (احتجاجا على محاكمات المسئولين عن تحطم سلاح الطيران وهزيمة يونيو 1967) لم يكن هناك شيء اسمه قوات الأمن المركزي. كان يتم مقاومة المظاهرات من قبل الدولة بقوات من عساكر البوليس في أقسام الشرطة (مهدودي الصحة والعافية) وغير مدربين على أي شيء سوى أعمال الدورية الليلية و”هنكرة” الشرطة التي كانت (وما تزال) طبعاً في خدمة الشعب!! لذلك فإن المظاهرات التي خرجت من كلية الهندسة جامعة القاهرة في فبراير 1968 تمكنت بسهولة من اجتياز حواجز قوات الشرطة والوصول حتى مبنى صحيفة الأهرام الذي كان مبنيا بدرجة عالية من الفخامة وقتئذ.

لم يكن النظام الناصري، قبل هزيمته في يونيو 1986، في حاجة إلى قوات قمع مدربة ومجهزة لفض المظاهرات والإضرابات حيث إنه، بحكم الإصلاحات الاجتماعية التي قدمها للعمال والفلاحين، تمكن من تشكيل التفاف جماهيري من حوله وخاصة بعد تأميم قناة السويس ومعركة العدوان الثلاثي. تقريبا لم تشهد الساحة المصرية إضرابات واحتجاجات كبرى في مواجهة الدولة في الفترة ما بين اعتصام ومظاهرات عمال كفر الدوار في أغسطس 1952 ومظاهرات الطلاب في 1968 (فأحداث مارس 1954 كانت عبارة عن مظاهرات مدبرة لتأييد النظام الحاكم وليس في مواجهته). تركز قمع النظام في الفترة 1952 – 1968 على قمع وطحن الشيوعيين والإخوان المسلمين داخل المعتقلات، ولم يكن بحاجة لجهاز قمع لفض الإضرابات والاحتجاجات الجماهيرية التي كانت شبه منعدمة. لم يكن التسليح لقوات الشرطة يتعدي الخوذة والعصا وبعض القنابل المسيلة للدموع والتي كانت رائحتها أخف بكثير جداً من الدخان الخانق لقنابل مظاهرات أبريل 2002، ومارس 2003.

1968 إنشاء الأمن المركزي:
وحينما اشتد عود المظاهرات في فبراير 1968 بالقاهرة والإسكندرية تدارس الجنرالات الموقف، وبدأ التفكير في تطعيم جنود الشرطة ببعض أفراد من الجيش وخاصة جنود سلاح الصاعقة بملابسهم المميزة. ومن هنا جاءت فكرة إنشاء قوات الأمن المركزي من جنود يتم اختيارهم وتدريبهم كقوة مسلحة لفض التحركات والاحتجاجات الجماهيرية. هؤلاء الجنود من المفروض أنهم يؤدون الخدمة العسكرية الإجبارية في قوات الجيش المصري. لكن حتى لا يفهم أن الجيش المصري يستخدم لقمع الشعب (لا سمح الله)، فإنهم يلحقون رسميا بوزارة الداخلية. فجنود الأمن المركزي الذين يفضون ويقمعون الاحتجاجات والمظاهرات هم جنود رسميا بالقوات المسلحة واسميا بوزارة الداخلية، ويقولون بعد ذلك إن الجيش عاد إلى الثكنات. إن أعداد الجنود والعربات المتحركة التي نشاهدها بشكل يومي في الشوارع والميادين العامة وعلى نواصي شوارع شامبليون وطلعت حرب وسيمان باشا تؤكد بشكل واضح ومباشر أن الجيش لم يعد إلى ثكناته، بل إن الثكنات تحتل كل يوم أجمل شوارع القاهرة. الجيش لم يعد، ولكن الثكنات جاءت إلينا، وكأن شيئا لم يكن.

ومنذ بداية السبعينات بدأ هذا الجيش يتكون ويتطور ويتسلح ويتسع وينتشر ويتوغل ويفتتح المعسكرات في كل محافظة. هذا الجيش بلغ تعداد أفراده في عام 1986 (حين حدث تمرد الجنود بداخله) حوالي 600 ألف جندي، ارتفع هذا العدد ليصل إلى ما يزيد عن المليون جندي في الوقت الراهن. هذا الجيش هو جيش القمع الأول الذي يناوش في كل مظاهرة طلابية أو احتجاج عمالي أو تمرد فلاحي. وحينما يعجز هذا الجيش عن تأدية هذه المهمة مثلما حدث في 18 و19 يناير، أو مثلما حدث في حالة تمرد جنود الأمن المركزي عام 1986، فإن الجيش النظامي المصري وسلاح الحرس الجمهوري هو جيش القمع الثاني والرئيسي.

جيشان للقمع في دولة تتغنى بالحريات!

جيش الأمن المركزي هو الميليشيا الدائمة للحزب الحاكم، ميليشيا متواجدة في كل ناحية وكل ناصية.

قانون الأحزاب يحظر على أي حزب تشكيل ميليشيا مسلحة، لكن الواقع يقول إن الحزب الحاكم لديه مليون جندي من الميليشيات المسلحة لقمع معارضيه والجماهير في أي مكان صحراء كان أو بستان. هذا علاوة على أن كل جندي في هذا المليون يحمل أكثر من تذكرة انتخابية (أصدرها لهم وزير الداخلية المشرف على صناديق الاقتراع) ويصوت للحزب الحاكم بالأوامر العسكرية دون أية مخالفة للتعليمات. إنهم يصوتون في الانتخابات البرلمانية والرئاسية والمحلية بنفس الصرامة التي يفضون بها المظاهرات.

أخطر ميليشيات هذا الجيش هي فرق الكاراتيه التي ترتدي دائما ثيابا مدنية ذات زي موحد يتكون من بنطلون جينز مكشكش وجزمة كوتشي وقمصان إما صفراء أو برتقالية وأحيانا رمادية. سبب توحيد الزي واضح، لأنهم مخولون بهذه الثياب المدنية بالاندساس وسط الجماهير لفض المتظاهرين، فالملابس مميزة ومحفوظة الأشكال والأنواع حتى لا يضرب أحدهما الآخر.

إذا كان هذا الجيش مكون من مليون جندي، وإذا كان الضابط يمكن أن يقود حوالي 50 جندي، فإن عدد الضباط بهذا الجيش لا يقل عن 20000 ضابط. ولنا أن نتخيل كم من المليارات قد أنفقت على هذا الجيش منذ أوائل السبعينات وحتى الآن, كم أنفق على هذا الجيش من مرتبات وبدلات وتكلفة معيشة وعربات مصفحة وعربات ترحيلات وأسلحة وذخائر وكلاب بوليسية مدربة وبناء معسكرات واستهلاك وقود يومياً … الخ؟ إن المليارات التي أنفقت على هذا الجيش طوال الثلاثين عاماً الماضية كان ينبغي أن تنفق على تعليم وإسكان وصحة هذا الشعب، لا على قمعه؟!

تقمع الجماهير بأموال الشعب، وبأيدي أفقر فقرائه وهم يؤدون الخدمة العسكرية!!!

تكتيكات الأمن في التعامل مع المظاهرات
يتدرب جنود الأمن المركزي بشكل يومي على فض المظاهرات وحصارها داخل المعسكرات. ويقسم الجنود أثناء التدريب إلى فريقين: فريق يمثل دور المتظاهرين، وفريق يمثل دور قوات الأمن. والتدريب له أصوله وقواعده وتكتيكاته المختلفة. إنه علم يدرس للضباط داخل المعسكرات. وعليك في بداية كل مظاهرة أن تلاحظ كيفية رص القوات وكيفية تحريكها وفقا لأصول وقواعد محددة. فالقمع والحصار ليس ارتجاليا بل منظما وممنهجا. ضباط أمن الدولة يعطون تعليماتهم لجنرالات ضباط الأمن المركزي في الاتجاه العام، إما بالقمع وتفريق المتظاهرين، وإما بالحصار وتضييق الخناق. وقبل كل مظاهرة بأيام ينزل ضباط الأمن المركزي لدراسة الموقع بشكل دقيق وتحديد المنافذ والمخارج لاختيار أنسب طريقة للحصار أو الفض ودراسة كافة الاحتمالات الممكنة. ويتم الحصار بعمل أكثر من سياج حول المظاهرة:

أولها: يتم حصار المتظاهرين في أضيق رقعة ممكنة بالجنود على شكل كماشة مغلقة من جميع الجوانب وبعدة صفوف من الجنود.

ثانيهما: وضع سياج من عربات الترحيلات العالية حول مكان المظاهرة لحجب رؤية المتظاهرين عن المارة في الشوارع.

وإذا كانت المعلومات لدى ضباط أمن الدولة أن المظاهرة لن تتعدى حدود الـ500 متظاهر، يتم حشد ثلاثة آلاف جندي بمنطقة المظاهرة ويتم حشد أكثر من ثلاثة آلاف آخرين بالشوارع المحيطة على شكل مجموعات على النواصي والمداخل المهمة في شكل عربات محملة بالجنود، وعربات محملة بفرق الكاراتيه وبعض العربات المحملة بالكلاب البوليسية فقط (كلاب وولف مدربة أيضا على فض المظاهرات). بالإضافة إلى ذلك تكون هناك فرق من جهاز الأمن العام ومن مديريات أمن القاهرة أو الجيزة، حسب الموقع الجغرافي للمظاهرة وأقسام الشرطة التابعة لها. هذا علاوة على وجود عناصر من جهاز الأمن القومي (المخابرات العامة) يمكنك تمييزهم بسهولة لأنهم لا يحملون لاسلكيا مثل الداخلية بل يحملون تليفون أشبه بالمحمول له رأس مدببة كالأيريال، كل ذلك وغيره من أجل 500 متظاهر!!!

الهدف من كل ذلك ليس حصار الـ500 متظاهر فقط، ولكن هناك أهداف أخرى، أهمها بث الرعب في نفوس المواطنين خارج المظاهرة، وجعل هذه القوات في حالة استنفار دائم ومستمر لأن النظام يعلم جيدا أن السخط والغليان ومعاداة النظام الحاكم والدولة أصبحوا حالة عامة لا ينقصها سوى كسر حاجز الخوف بشكل جماعي. وهذا اليوم في اعتقادي قريب .. قريب جدا.

عندما يتحدث جنود الأمن المركزي
كنت في مشوار عمل مهني وركبت القطار المتجه نحو الصعيد في السابعة صباحا، وبالمصادفة كان يجلس في العربة التي أركبها حوالي ستة جنود من جنود الأمن المركزي نزلوا في أجازة رسمية من أحد معسكرات الأمن المركزي. ولعدة ساعات ظللت أنصت لحديثهم الشيق والجميل، إنهم يحفظون الشعارات التي يرددها المتظاهرون.

قال أحدهم “بيقولوا: العسكري مظلوم في الجيش.. ياكل عدس ويلبس خيش وإيه أخرتها مع الظباط … ولاد الشعب غلابة بساط شوفتوا يا خلق البيه الظابط.. عمره ما فكر فكرة وصابت”.
رد جندي آخر: “لأ أنا مش باحب الشعار ده، علشان بانكسف لما بيقولوا علينا بنلبس خيش. احنا ولاد ناس برضه”.
رد جندي ثالث: “بس أنا قلبي جوايا بيبقى بيرقص لما بيشتموا الظباط”.
رد جندي رابع قائلاً: “سيبك من ده وده أنا أجمل شعار بيعجبني: يا بلدنا … يا تكيه … نهبوكي الحرامية”.

عدت من هذه الرحلة وأنا أدرك تماما أنه سيأتي اليوم الذي سينضم هؤلاء الجنود الذين يحاصرون المظاهرات إلى المظاهرات ذاتها، وأن العصي والرشاشات التي يحملونها سوف توجه يوماً ما إلى صدور الجنرالات.

ومهما طال الحصار فالنهار قادم .. قادم .. مع هدير الملايين.