بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

لا تلدغ الثورة من جحر مرتين: الجيش والثورة في مصر

إذا كنت تؤمن بالثورة حقا فعليك ألا تكون أسير التوقع، وخاصة التوقعات التي يقول بها الأكاديميون والنخب. فقط عليك النضال الثوري والإيمان بالفعل الخلاق للجماهير. التوقعات فقط مفيدة للفهم. ولو نظرنا لمصر اليوم، سنجد أن هناك توقعات كثيرة. هناك تلك المبالغ فيها وأخرى مُحبِطة ومهزومة حول مظاهرات 30 يونيو القادمة. ومن المؤكد أن هناك تعبئة كبيرة شعبية وحالة غضب شديدة ضد نظام حكم  الإخوان المسلمين ورئاسة محمد مرسي للبلاد. ومن الواضح  أيضا أن التعبئة وصلت لدرجة أن الصوت الأعلى في هذا الزخم هو أن “المهم الآن هو التخلص من حكم  الإخوان المسلمين وبأي طريقة”.

وفي هذا السياق  أيضا تعالت الأصوات التي تطالب بأن يظهر الجيش مخلصا للبلاد من حكم  الإخوان.  ولنتذكر أنه منذ فترة كانت هناك حملة توكيلات ظهرت لتوكيل الفريق عبد الفتاح السيسي لإدارة شئون البلاد، وخاصة بعد مذبحة بورسعيد الثانية في مارس الماضي. واستمرت التوكيلات فترة حتى صدرت تصريحات صريحة من مسئولين عسكريين تقول إن الجيش لن يقوم بأي انقلاب، ولن يفعل سوى حماية “الشرعية” أي أنه يحمي النظام القائم والدستور القائم. ولن يتدخل إلا في حالة الخطر الداهم على حياة المصريين. وفي هذا السياق أيضا ظهرت تسريبات كثيرة، سواء كانت مقصودة أم لا، من المؤسسة العسكرية، وقالت نفس الكلام. ووصل الأمر إلى مستوى الكوميديا التافهة عندما رأينا الفريق السيسي يبكي في أحد اللقاءات وحوله الفنانون، وتحدث بمسرحية مصطنعة عن معنى شعار “الجيش والشعب إيد واحدة.”  الجيش إذن هو الحاضر في كل التوقعات. وعلى سبيل المثال فإن الكثير من المحللين يطرحون بعض الحلول أو التوقعات حول مظاهرات 30 يونيو تدور كلها حول ثلاثة سيناريوهات: الأول هو تشكيل مجلس رئاسي مدني، والثاني هو قبول مرسي بانتخابات رئاسية مبكرة، والثالث هو إدارة رئيس المحكمة الدستورية العليا للبلاد لحين إجراء انتخابات. ويفترضون ـ وخاصة في السيناريو الثالث ـ أن الجيش والمؤسسات السيادية سوف تكون هي اللاعب الحقيقي والرئيسي في البلاد. هذا التفكير يسلم تسليما مطلقا بأنه في معظم السيناريوهات لن يكون هناك مفر من وجود الجيش في إدارة البلاد أو في الفترة الانتقالية. وهذا التفكير أيضا يفترض أنه لا دور للجماهير، أي أن كل الحلول هي المخرج السلمي للطبقة الحاكمة من الأزمة، وتهدف فقط للتخلص من مرسي، وكأن هذا هو الذي ثار من أجله المصريون! والخلاصة إذن، أنه في كل السيناريوهات المطروحة يتكلم الجميع عن الجيش. وليس فقط أنصار النظام القديم بل وبعض ممن يسمون أنفسهم كذبا بالثوار وصلت درجة ضيق أفقهم للحديث عن الجيش باعتباره أهم مخلص من حكم  الإخوان.  هذه الأمور كلها تستلزم منا بعض التوضيح.

إدارة الجيش لمصر قمة الانتكاسة للثورة

من يقبل بالثورة هو بالضرورة ضد الانقلاب. الثورة إرادة وفعل جماهير، أما الانقلاب فهو فعل النخب الحاكمة ويهدف في الغالب إلى التآمر على إرادة الجماهير أو قطع الطريق عليها. وفي الثورة يجب أن يُدار شيء بطريقة شعبية وديمقراطية وأن يخضع كل شيء للرقابة الشعبية. ولهذا فإن فكرة إدارة الجيش لمصر هي نقيض الثورة. وبالرغم من أن هذا الأمر يبدو بديهيا ولا يحتاج للشرح،  لكن تعالوا نشرح ببساطة لماذا نقول هذا الكلام بهذه القطعية. ولنتذكر، ماذا كانت ثورة يناير؟ إذا قلنا إن ثورة يناير كانت ثورة ضد بلد العواجيز وضد التبعية للإمبريالية وضد دولة مبارك للاستبداد والنهب، فالحقيقة أن كل هذه الامور تمثلها بامتياز المؤسسة العسكرية. القبول بإدارة المؤسسة العسكرية للبلاد هو نقيض الثورة، ويمثل قمة الهزيمة والاستسلام لدولة مبارك. لماذا؟ فلنسترجع الأسباب ببساطة شديدة. أول هذه الأسباب هي أن المؤسسة العسكرية المصرية هي ركن أساسي، بل أهم اركان الدولة الرأسمالية المصرية. فلهذه المؤسسة امبراطورية اقتصادية كبرى لا تخضع للضرائب، ويعمل بها المجندون المصريون بطريقة السخرة، وهم أبناء الشعب المصري الذين قيل لهم إن تأدية الخدمة العسكرية شرف وواجب لكنهم وجدوا أنفسهم في مزارع لتربية الدواجن وبيع العصير وصناعة المكرونة. ولا توجد أرقام دقيقة عن حجم الأصول الاقتصادية للمؤسسة العسكرية ولكنها تتراوح في أقل التقديرات بين 250  مليار جنيه و 450 مليار جنيه مصري وتتحكم هذه المؤسسات في 33 % إلى 45 % من الاقتصاد المصري ( انظر بالتفصيل مقال إبراهيم الصحاري في 5 مارس 2011 في موقع مركز الدراسات الاشتراكية). ولا توجد أي رقابة مدنية على هذه الأصول والأرباح، وبعد الدستور الأخير فإن ميزانية الجيش أصبحت متاحة لمجلس الدفاع الوطني ولجنة الأمن والدفاع بمجلس الشعب ولكنها تدرج كبند واحد، حيث تصبح رقابة الجهاز التشريعي المنتخب أمرا بلا معنى. ويحصل قيادات المؤسسة العسكرية على أرباح طائلة بلا حساب، سواء من العقارات أو الأراضي، والتي يحصلون عليها أثناء عملهم أو بعد التقاعد. وبالإضافة إلى ذلك فإن القادة العسكريين يعينون في مناصب حكومية وخاصة كمحافظين، ورؤساء أحياء ورؤساء أجهزة هامة كجهاز الكسب غير المشروع وهيئة قناة السويس، والقائمة لا تنتهي، وفي الغالب لا يتم تعيينهم في هذه الأماكن إلا وفقا لدرجة ولائهم للنظام. وكلما زادت الرتبة يحصل الضباط على مكافآت وهدايا دورية وأرباح طائلة (انظر  أيضا خرائط عسكرة مصر التي قامت بإصدارها حملة عسكر كاذبون). وترتبط المكافآت ارتباطا كبيرا بالفساد حيث لا توجد رقابة حقيقية إلا رقابة وزير الدفاع وكبار الضباط على بعضهم البعض. ويشجع البنيان المؤسسي المغلق وغياب الرقابة الديمقراطية والشعبية على هذا. فمجلس إدارة جهاز مشروعات الخدمة الوطنية مثلا يرأسه رئيس هيئة القضاء العسكري بحكم منصبه. وهو أمر غريب لأنه الشخص المكلف بحكم منصبه بالتحقيق في أي قضايا تخص العسكريين ومنها قضايا الفساد. أما أعضاء مجلس إدارة الجهاز فهم رؤساء أركان الأسلحة والأفرع الرئيسيه للقوات المسلحه بالإضافة إلى من يعينه وزير الدفاع، وهذا يعني أن هذا الجهاز الاقتصادي مربوط ربطا هيكليا بالجزء العسكري من المؤسسة العسكرية. وليس من الصحيح أن هذا الجزء الاقتصادي هدفه هو توفير الأمن الغذائي للقوات المسلحة، لأن له منافذ للبيع للجمهور وهو يحقق الأرباح. ولا يوجد أدل على هذا الأمر من الاستمرار والتوسع في المشروعات الاقتصادية والاستيلاء على الأراضي في ظل اتفاقية السلام مع إسرائيل، حيث تحولت المؤسسة العسكرية إلى مؤسسة رأسمالية ربحية خالصة. باختصار وبدون مبالغة إذا تساءلنا عن ماهية الطبقة الحاكمة في مصر بالمعنى الاقتصادي، فإن كبار جنرالات المؤسسة العسكرية يعتبرون جزءا أصيلا من هذه الطبقة، بالإضافة إلى رجال الاعمال.  وفي هذا السياق فإن ما قيل عن نفور الجيش من جمال مبارك لأسباب وطنية هو كلام غير سليم. فقد كان النفور فقط بسبب أن جمال مبارك وأصدقاءه تجاوزوا حدودهم في الاحتكار الاقتصادي ووصل الأمر إلى تعديهم على أراضي الجيش أو اراضي الدولة وهو الأمر الذي كان حكرا على الجيش.

أما السبب الثاني فهو أن المؤسسة العسكرية هي أهم اأكان الدولة المصرية. وفي ظل اتفاقية السلام فإن الجيش تحول إلى البديل القعمي الأهم للدولة. وقد نزل الجيش لإنقاذ النظام الحاكم في مظاهرات 1977 و أيضا أثناء مظاهرات الأمن المركزي عام 1986، وحتى في ثورة يناير فقد نزل الجيش فقط باستدعاء من مبارك ولحفظ النظام ومساعدة الشرطة في حفظ الأمن، وتطور الأحداث فقط هي التي أدت بالمجلس العسكري للتضحية بمبارك. وطوال فترة حكم المجلس العسكري كان الجيش هو الجهاز القمعي الأهم للمجلس. وكانت الشرطة العسكرية والمخابرات الحربية والقضاء العسكري هي الأجهزة الأهم التي قامت بهذا الدور. وقد نشرت جريدة الجارديان مثلا تقريرا بتاريخ 28 ديسمبر 2011 نقلا عن شهادة ضابط مصري عن حجم المكافآت التي انهالت على كبار الضباط في مصر، وخاصة في ظل حكم المجلس العسكري لشراء ولائهم وخاصة مع تصاعد الاحتجاجات ضد حكم المجلس. صحيح أن الجنود هم أبناء الشعب المصري الذين يقضون فترة خدمتهم بالجيش، وهذا ما يعقد الأمر قليلا، وخاصة في أثناء تصاعد الثورة الشعبية. لكن القول بأن الجيش دوره حماية الحدود اختزال ونفي للواقع. فالجيش هو أهم أركان حماية الدولة، وأهم أركانها القمعية. وسواء في ظل المجلس العسكري أو حكم الإخوان، يظل الجيش هو حامي هذه الدولة بهشاشتها وليس حامي الشعب بالضرورة. والمفردات التي استخدمتها النخبة المصرية عن الجيش تعبر عن ذلك، مثل مصطلح ” القلب الصلب” الذي استخدمه ضياء رشوان، ومصطلح “آخر عمود في البيت” الذي استخدمه معتز عبد الفتاح. ولنتذكر أيضا أن كثيرين أرادوا أن يفصلوا بين النظام والدولة. وقال البعض إن الشعب أراد اسقاط النظام لا الدولة. لكن في الحقيقة ان الدولة والنظام كانا تقريبا شيئا واحدا. الثورة تعني تحطيم الدولة القديمة وبناء دولة جديدة. المؤسسة العسكرية هي أهم أركان دولة مبارك.

أما السبب الثالث  فهو أن المؤسسة العسكرية هي العمود الفقري للعلاقات المصرية الامريكية. أكثر من 90 % من المساعدات الأمريكية تأتي إلى المؤسسة العسكرية، وهي مساعدات مشروطة بالاستمرار في معاهدة السلام وجاءت نتيجة لها. ومنذ وقت المعاهدة فإن المؤسسة العسكرية المصرية ارتبطت هيكليا بنظيرتها الأمريكية. أي أن كل ما يتعلق بالسلاح المصري وقطع غياره ونمط التدريب مرتبط بالمؤسسة العسكرية الأمريكية وما يسمى بالمجمع العسكري الصناعي الأمريكي. وقد تحولت المؤسسة العسكرية المصرية تقريبا لهذا النمط كنموذج اقتصادي.  وفي كل عام تذهب البعثات المصرية العسكرية لتلقي التدريب بالولايات المتحدة. ويرتبط  بعض الضباط المصريين بصداقات مع نظرائهم الأمريكيين. وعسكريا باختصار مصر تابعة للولايات المتحدة. والفكاك من هذه التبعية بالطبع ليس بالأمر السهل. ويذكر أن الولايات المتحدة عاقبت إيران عسكريا بمقاطعتها بعد الثورة الإيرانية واستئثار الإسلاميون بها، وعانت إيران طويلا عسكريا لارتباط جيشها هيكليا بالولايات المتحدة في ظل الشاه. وباختصار إذا تحدثنا عن التبعية المصرية للولايات المتحدة فإن المؤسسة العسكرية تمثل عصب هذه التبعية.

أما السبب الرابع فهو أن المؤسسة العسكرية بقياداتها الحالية (بالإضافة إلى القيادات المقالة أو المستقيلة مثل طنطاوي وعنان وبدين والرويني) تورطوا بالفعل في قتل المصريين. فقد أمر هؤلاء بدهس المصريين تحت المدرعات في ماسبيرو. مجازر محمد محمود ومجلس الوزراء ودماء المصريين شاهدة عليهم. والقيادات الحالية هي جزء من التحالف الحاكم الحالي، المدشن بمعرفة ومباركة الولايات المتحدة. مسألة الموافقة على حكم العسكر الآن لا تختلف كثيرا عن الموافقة على ذلك بعد مبارك، بل وتعد أمرا أسوأ، لأن الثورة يجب أن تكون تعلمت الدرس الآن. فلن يكون تدخل الجيش أبدا الآن إلا لحماية مصالحه مرة أخرى. والمشكلة الكبرى التي تواجه الثورة الآن أنها تم اختزالها في أنها ثورة ضد حكم  الإخوان وليس استكمال ثورة العيش والحرية والعدالة الاجتماعية. إذا قبل البعض حكم العسكر مرة أخرى فهم أكبر الخائنين للثورة، كم هم خائنون لدماء مينا دانيال وعماد عفت! كيف ننسى أن المجلس العسكري هو الذي أدار الثورة المضادة في الفترة الانتقالية.

أما السبب الخامس فهو أن منطق المؤسسة العسكرية يناقض منطق الثورة. فبينما تمثل الثورة التحرر من كل شىء لا تمثل المؤسسة العسكرية سوى الانضباط. وثقافيا واجتماعيا المؤسسة العسكرية تنادي بالتقاليد الصارمة والولاء والتبعية، وتعتبر رمزا للبطريركية والعقلية الذكورية. اذا كانت الثورة تمثل حرية كل قطاعات الشعب ومشاركتها في كل شيء، فإن الجيش هو رمز الولاء والطاعة. وأثناء حكم المجلس العسكري كانت هناك تسريبات كثيرة لقادة عسكريين قالوا بالحرف الواحد للبعض إننا لن نترك البلاد لمجموعة شباب أهوج تافه وطائش. ووفقا لتحقيق نشر في صوت الأمة في 12 فبراير 2012 قال أحد قيادات المجلس العسكري في اجتماع بضباط المنطقة المركزية العسكرية “هو شوية العيال اللي في التحرير فاكرين أنهم عملوا ثورة.. هنوريهم هنعمل فيهم إيه! كنا فاكرين إننا بنحمي ثورة طلعنا بنحمي شوية بنات فاقدات العذرية وشوية عيال خولات.” ومسألة كشوف العذرية تمثل هذه العقلية. وقال هؤلاء عبارات لا تنبىء بشيء سوى احتقارهم للمدنيين، وذلك في سياق فكرة سائدة أن المدنيين غير منضبطين، سوف يتركون الدولة للخراب. بالطبع يتمثل هؤلاء الدولة، ويعتبرون أنفسهم ورثة محمد على وعبد الناصر وحماة الدولة. ووفقا لمقالة عبد الله السناوي بعنوان ” انقلاب الدستور:كيف وصلنا إلى الطرق المسدودة؟ و المنشورة  بجريدة الشروق في 26 مارس 2012 قال أحد القادة العسكريين إن دور الجيش كان في الفترة الانتقالية هو “كبح الاندفاع الثورى حتى لا يضرب أنسقة الدولة العسكرية والأمنية والاقتصادية.” وجاء هذا فى اجتماع ضيق بعد مليونية «الدستور أولا» فى 27 مايو 2011 وفقا للأستاذ السناوي. عقلية الوصاية على الشعب واحتقار إدارة المدنيين. الاستمرار في حكم العسكر تعني العودة إلى الوراء.

هذه الأسباب الخمسة أمور أساسية يتناساها البعض. لذلك وجب التذكير بها. والغريب أنه بينما يعتبر الجيش ركنا أساسيا من التحالف الحاكم حاليا، يظل الجيش هو الفائز الاكبر في اختزال الثورة الآن على أنها ثورة ضد حكم  الإخوان. فهذا الاختزال يمنح الجيش التفويض للانقلاب أو التدخل لحماية مصالحه، وليس الثورة بالضرورة. بالطبع هناك أسباب أساسية أخرى تغذي هذا الخطاب عند قطاعات كبيرة شعبية. ومن أهمها الكلام الملتبس عن دور الجيش الوطني وبناء الدولة الحديثة منذ محمد علي وتقديس الجيش منذ عبد الناصر. ويغذي هذا الكلام الخطاب السائد حاليا حول مسألة سيناء وحماية الحدود. وفي هذا السياق تأتي مقارنة حكم العسكر بحكم الإخوان. ويقال إن الأول أفضل لأنه سيحمي الحدود على الأقل، وأنه “سيكون أكثر وطنية من الإخوان الذين وجعلوا وسيجعلون سيناء مرتعا للإرهابيين.” بالطبع هذه مقارنة بائسة وتعسة لأن الثورة وأهدافها تتجاوز مقارنة بين حكمين إجراميين. كما أن هذا الكلام ساذج ومبتذل لأن أمن سيناء يرتبط هيكليا باتفاقيات السلام. كما أن أمن سيناء يدار تقريبا بالتوافق بين كل من المخابرات العامة والحربية بالتنسيق مع نظرائهم في الولايات المتحدة واسرائيل. وفكرة أن الجيش هو حامي الوطنية بالمقارنة بالإخوان أعداء الوطنية هي فكرة ساذجة. فالكلام العام عن دور الجيش الوطني يتجاهل التحليل الطبقي/الاقتصادي السابق وعلاقات الجيش الدولية، فالجيش ليس مجرد فكرة فقط ولكن علاقات اجتماعية وسياسية واقتصادية ملموسة قبل كل شىء، كما سبقت الاشارة.  ويتجاهل هذا أن فكرة الدولة وفكرة الوطنية نفسها هي خطاب تصنعه النخب الحاكمة وتتاجر به لتغطية تحكمهم في إدارة الدولة وإدارة أجهزة القمع والاستغلال الاقتصادي.

ولا يمكن إنكار حقيقة أن المؤسسة العسكرية صنعت وساهمت في الغدر بالثورة وتبارك وتحمي التحالف الحاكم الآن، والذي تمثل فيه ركنا اساسيا ـ وعلى حد تعبير بعض الرفاق: “لم ولن ننسى العسكر و الإخوان .. واحد قتل والتاني خان.”

ماذا يعني استمرار الثورة؟

الكلام عن مشاركة الجيش في الثورة في يونيو القادم للخلاص من الإخوان هو كذب أو مجرد رطان لغوي لا معنى له لأن الجيش بطبيعته ضد الثورة. فكما قلنا إن الجيش  جزء أساسي من التحالف الحاكم الحالي في مصر. والمؤسسة العسكرية لا تعرف غير الأوامر والهيراركية. وتظل هناك إمكانية لاتخاذ قيادات الجيش قرار برفع السلاح ضد المتظاهرين، وأيضاً إمكانية لجوء قطاعات من الجنود للتمرد عصيانا للأوامر وانضمامهم للشعب اعتراضا على هذا الأمر مثلاً. وكل هذا يعتبر من الاحتمالات في الحالة المصرية، حيث إن المؤسسة العسكرية والتاريخ الرسمي المصري يتغذى على فكرة وطنية الجيش، وهذا يعني أن قرار المؤسسة برفع السلاح ضد المتظاهرين (بطريقة سافرة) هو قرار غير متوقع. ومن المهم التفرقة هنا بين أمرين أساسيين: الأول هو فهم أن موازين القوى تقول إن الجيش يمكن أن يكون لاعبا رئيسيا في المستقبل القريب (مع افتراض عدم وجود نتائج جوهرية كبرى تؤدي لتحجيم دوره بعد 30 يونيو القادم) والثاني هو الاستسلام لهذا المنطق أو قبول أن يقوم الجيش بدور أساسي في إدارة أمور البلاد ولو بطريقة غير مباشرة. وإذا قلنا إن موازين القوى تقول إن ثورتنا ثورة طويلة، فإنه يبدو أن وضعية نفوذ الجيش سوف تستمر معنا فترة. وفكرة الثورة الطويلة هنا هي بالمعنى الذي أشار إليه د. آصف بيات في مقال نشر له مؤخرا في مجلة نيو ليفت ريفيو، أي أنها ثورة يمكن أن تستمر وقتا طويلا للوصول إلى التخلص من النظام حقا وإعادة صياغات العلاقات المجتمعية حقا. أقول إن توقع وجود هذا الدور  للجيش لا يعني القبول به. القبول به والاستسلام له عمل غير ثوري ويتناقض مع كل ما تقوم عليه الثورة.

كذلك يجب التفرقة بين قبول أن يكون للجيش دور ما في حكم مصر ولو بطريقة غير مباشرة وبين التبشير والدعوة لكي يدير الجيش مصر بطريقة مباشرة (على غرار ما حدث بعد يناير 2011). وقيل هذا أيضا في سياق الدعوة لانقلاب عسكري صريح للتخلص من حكم الإخوان. ويبدو أن الأمر الثاني غير مطروح الآن. وقد قال قادة عسكريون هذا الكلام، وللمفارقة طبعا قالته آن باترسون السفيرة الأمريكية بالقاهرة ( وكيلة مصالح الإمبريالية وراعية الحلف الحاكم في مصر الآن). ومضمون الكلام هو أن قادة الجيش يشعرون بالمرارة من عدم تقدير الكثير من النشطاء لدورهم في الفترة الانتقالية، وخاصة من السخرية على الجيش، والتي وصلت للتهكم على الجيش في أعمال الجرافيتي في الشوارع..إلخ! وقالت باترسون أيضا إن الولايات المتحدة لن تقبل بانقلاب عسكري في مصر أو إدارة عسكرية صريحة لمصر على غرار ما حدث في أعقاب سقوط مبارك. والفكرة الجوهرية هنا بالطبع ليست دعم الولايات المتحدة للديمقراطية، ولكنها حماية الحلف الحاكم وتقديس ديمقراطية الصندوق ( والتي لم ولا تعني على الأرض سوى ديكتاتورية دموية بقيادة الإخوان الآن). ولذلك أقول إنه يبدو أن مسألة إدارة الجيش لمصر إدارة مباشرة ربما لم تعد أمرا مطروحا إلا في حالة واحدة وهي ما سماه الجيش بالخطر الداهم على الدولة والمواطنين، أو ما يسميه البعض بتصاعد الحرب الأهلية في مصر. ينبغي التأكيد على أن لتبشير بدور بارز ورئيسي للمؤسسة العسكرية باعتبارها المخلص لا يمثل أقل من خيانة للثورة. في الثورة لا يوجد مخلص إلا الشعب. وفي الثورة لن تكون السلطة والثروة إلا للشعب. وهكذا في الثورة، لا يمكن أن يدير البلاد إلا الشعب، إدارة مباشرة من عماله وفلاحيه وفقرائه.

وفي هذا السياق فإن الكلام عن أننا يجب أن نتخلص من حكم  الإخوان اولا ثم نتفرغ للنضال ضد أو تقليص حكم العسكر يتجاهل أن العسكر هم جزء من التحالف الحاكم الآن كما قلنا أكثر من مرة. ولذلك فإن المعنى الحقيقي لاستمرار الثورة هو الوعي بأن الثورة ليست ضد  الإخوان فقط ولكن ضد التحالف الحاكم الحالي، ولو كان بقيادة  الإخوان مؤقتا. استمرار الثورة يعني أيضا استمرار النضال ضد عسكرة الدولة. واستمرار الثورة يكون بتحويل شعار كل السلطة والثروة للشعب إلى حقيقة ملموسة وليس شعارا مجردا. الشعب طفح به الكيل، من القتل والجوع والخيانة معا. الشعب قاب قوسين من انفجار عظيم آخر. ومن الغباء الشديد اختزال ثورته القادمة في التخلص من حكم الإخوان فقط. اذا كنت مع الثورة حقا فلتصنع دولة العيش والحرية والعدالة الاجتماعية الان وليس غدا، ضد دولة الجنرال وضد دولة المرشد.