بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

البلطجية: المخالب القذرة للثورة المضادة

"البلطجية" ألمع نجوم "موقعة وزارة الدفاع".. وإن لم تكن المرة الأولى، ولن تكون الأخيرة، التي يتم استخدام البلطجية في قمع الثوار. ولكن بالفعل، وصل أدائهم إلى درجة من النجومية، أثارت غيرة "سيدهم" الجديد، فقرر أن يستعمل كل إمكانياته ليظهر نجوميته في التعامل مع "الأعداء"، وهو الوصف المنطقي لآداء العسكر في العباسية.

"بلطجي"، كلمة تركية الأصل وكانت تطلق على فرقة قمع عثمانية تحمل البلطة، وقيل أيضا إن أصلهم من قاطعي الأخشاب في الغابات، وثبتت في ذهن المصريين بالقوة الغاشمة، حتى أصبحت تطلق على كل من يستخدم القوة لإرهاب الناس وابتزازهم. كما تحولت إلى صفة لكل أفعال تنطوي على الظلم والعسف، حتى من جانب القوى النظامية التي تنتمي للمؤسسات الحاكمة في الدولة، أو من جانب قوى دولية.

و"البلطجية" عنصر حاضر منذ اندلاع الثورة، ليس في مصر وحسب، بل وفي تونس، وفي اليمن "البلاطجة" وسوريا "الشبيحة"، كما تواجدوا أيضا في العراق. يعتدون ويخطفون ويقتلون الثوار وحتى الأهالي في بيوتهم، لصالح النظام.

التهميش: التربة الخصبة

تتشابك ظاهرة البلطجة مع عدد من القضايا الأكبر، مثل التهميش، واقتصاد الظل. فالتهميش هو الدفع بأفراد وقطاعات من المجتمع خارج المنظومة الرسمية/ الاجتماعية المعتادة، وبدرجات مختلفة، فالخريج الذي يضطر للاشتغال في وظيفة لا تتناسب مع قدراته، وبشروط عمل مجحفة، يعاني من التهميش، والأشخاص والمجموعات الذين يعيشون على أطراف المدن، أو في البداوة، دون أية مرافق أو خدمات صحية أو تعليمية أو أمنية، يعانون من التهميش بدرجة أكبر.

كما يقترن التهميش بالطائفية والعنصرية. فأقباط مصر يعانون من عملية تمييز وتهميش مؤسسية من جانب الدولة، ومثلهم أيضا النوبيين والعربان.. لكن "التهميش" في الأساس ظاهرة طبقية بشكل واضح، تنطوي على استبعاد الشرائح الأضعف وحرمانها. كما يمارس التهميش أيضا بشكل معلن، متمثلا في تشغيل الملايين بعقود مؤقتة وباليومية، حتى في المصالح الحكومية.

اقتصاد الظل: الراعي "غير الرسمي"

أما اقتصاد الظل، فهو الإطار الأعظم والحاضنة الأكبر لعدد من الظواهر، وهو متسبب/ومستفيد من التهميش، ومن البلطجة بشكل خاص. المقصود باقتصاد الظل هو كل الانشطة الاقتصادية غير المعلنة أو المسجلة، وهي لا تعني تجارة المخدرات والسلاح و"صناعات بير السلم" و"التهريب" فحسب، فظاهرة الدروس الخصوصية، والرشاوى، وكافة الأنشطة الصناعية والتجارية والخدمية التي لا تخضع لأية رقابة أو معايير، هي في إطار اقتصاد الظل.

يتربع على عرش اقتصاد الظل عمليات غسيل الأموال، والصفقات والرشاوى الكبرى، وصولا إلى المؤسسة الاقتصادية العسكرية التي تخضع لعلي بابا والتسعة عشر جنرال، حيث إنها تخضع لسرية في معاملاتها، بينما تستفيد من أراضي وموارد الدولة، وعرق عشرات الآلاف من المجندين.

ولأن اقتصاد الظل أصبح يمثل نسبة كبيرة، حتى في بعض الدول الأوروبية، حيث بلغ 29-30% في بعض الدول، ويمثل النسبة الأكبر في اقتصاد الدول المتخلفة الخاضعة لعصابات حاكمة، فإنه يصنع ويستفيد من ظاهرة التهميش بأنواعها، وعلى رأسها البلطجة بشكل خاص، حيث أنه لا يتوائم طول الوقت مع المنظومة القانونية ولا الأمنية الشرعية.

الجماعات الهامشية عموما (الباعة الجائلين والمتسولين واللصوص والبلطجية، والحواة..) هي جماعات تعيش في مسام المجتمع لكنها ليست جزء من جسده، فتظل لصيقة ومتطفلة، لكنها أيضا من إفرازه. حيث أن مصير كل من يخرج عن المنظومة الاقتصادية والاجتماعية، أن يظل على هامشها يمارس أية أنشطة يتعيش منها، وهو واقع تاريخي، زادت حدته التحول الرأسمالي في العصر الحديث.

والتاريخ المصري على سبيل المثال يذكر جماعات المطاريد والحلبة والنورية والشطار والعيارين والمناسرة والزعر… التي ترتبط أكثر بالمدن منها بالقرى، حيث ان العلاقات العشائرية وصغر المجتمع القروي، تخلق نوع من التكافل الذي يوفر، على الأقل، الكفاف من أجل العيش، علاوة على وصمة العار التي تلحق بمن يمارس أنشطة يحتقرها المجتمع الذي يعرفه وجها لوجه.

التحديث الرأسمالي = تهميش وإفقار منظمين

يؤدي التحديث الرأسمالي إلى تحويل الزراعة من النمط البدائي إلى زراعة رأسمالية أكثر كثافة واستخداما للميكنة، وبالتالي أكثر ربحية، وأكثر تركيزا للملكيات. بينما تتلقف الصناعة ذلك الفائض من العمال الزراعيين، وكذلك من الحرفيين. وهذا الاستيعاب لا يمنع من وجود عناصر ومجموعات هامشية، بل أنها تتعاظم مع نشوء تجمعات حضرية كثيفة السكان.

وفي مصر بشكل خاص، قام محمد علي بالقضاء العمدي على كافة الطوائف الحرفية، التي كانت تمثل منظومة اجتماعية تقابل المنظومة العشائرية في الريف والبدو، وقد تفاقم الوضع بعد فشل مشروعة، وحدوث التحول الرأسمالي، مقرنا بالاستعمار، فزادت عمليات طرد الفلاحين، وتعاظمت الجماهير المهمشة، التي عانت بدرجات متفاوتة، من الإفقار والإهمال. ويقدر عدد الباعة الجائلين في مصر حاليا بأكثر من ستة ملايين، ومثلهم من عمال التراحيل، ويعيش أكثر من ستة ملايين تحت خط الفقر المدقع.

تلعب الجماعات الهامشية دورا كبيرا في أوقات الاضطرابات والقلاقل، وبينما تندفع بعضها في اتجاه إيجابي، مثل مداهمة قصور ومخازن الأعيان وحتى الحكام، وتوزيع محتوياتها على الفقراء، كان بعضها يتم استخدامه من جانب الحكام، أو منافسيهم، في بث الرعب وسط الجماهير، والسلب والنهب برعاية، أو بتواطؤ الشرطة، وهو ما كان شائعا في عصر المماليك والعثمانيين، وتم استدعاؤه من التاريخ إلى عام 2011 لقمع الثورة.

البلطجية ليسوا دائما فقراء وليسوا دائما مسجلين خطر، ومع ازدياد الأزمة الاقتصادية والبطالة، زاد عددهم، وزاد من ناحية أخرى تطويرهم وتنظيم نشاطهم، ولكن لم يحدث ذلك بشكل ذاتي. فكما أن زيادة التهميش والجريمة جاء إفراز للرأسمالية المتوحشة، جاء تطوير وتنظيم نشاط البلطجة لاحتياجات ومتطلبات الجانب الخفي للنشاط الرأسمالي.

وبالذات في الدول المتخلفة، التي تتكون طبقتها الحاكمة من نخبة استبدادية شريكة بشكل أساسي في عمليات النهب، مع طبقة جنرالات الشرطة والجيش، ورجال أعمال طفيليين، جنوا ثرواتهم من الصفقات المشبوهة والمضاربات، ومن تفكيك وبيع مؤسسات الدولة القائمة بالفعل كما هو الحال في مصر.

كلاب الأمن المدللة

وبينما لم تستطع أذرع ضباط الشرطة من أولاد الذوات أن تمتد لجحور العشوائيات الشائكة (تم تقديرها عام 2005 بـ434 منطقة عشوائية، 88% منها في القاهرة الكبري، تضم 50% من سكانها)، كان الحل في اللجوء إلى عناصر وعصابات إجرامية كذراع داخل تلك المناطق لإحكام القبضة عليها، في مقابل إطلاق المجال لتلك العصابات لممارسة نشاطها الإجرامي، ثم تطور الأمر إلى المشاركة في هذا النشاط، وإلى تشغيل تلك العصابات لصالح الضباط بشكل شخصي، وحتى بشكل رسمي.

ولو كان إطلاق السجناء في انتفاضة يناير 1977، بهدف إثارة الفوضى، ووصم الانتفاضة بالبلطجة، فإن بدء الاستخدام المنظم المباشر للبلطجية، وبشكل سافر، كان خلال حركة التغيير الديمقراطي 05-2006. وقد روى لي أحدهم "مسكونا وقعدونا يومين في قسم باب الشعرية، وبعديها على المديرية في باب الخلق، من غير أكل، وبعدين جه الظابط وقال هنخرجكو.. بس هتيجوا معانا مظاهرة وتخشوا في وسط الناس، واللي نشاور لكو عليه، أو تلاقوه شادد حيله..تقفشوه وتخرجوه.. واللي قال لأ الظابط استحلف له".

وبالفعل كان هذا هو ما حدث خلال معركة التغيير. وفي انتخابات 2010 التي كانت من أهم المسامير  في  نعش مبارك، لم تتدخل الشرطة من أجل إتمام عمليات التزوير أو إغلاق المقار والاعتداء على المرشحين المنافسين وأنصارهم، بل قامت بذلك بشكل أساسي، وبنطاق واسع عصابات إجرامية تابعة لنواب الوطني. وهي التي عملت خلال اعتصام الـ18يوم، وفي موقعة الجمل بشكل بارز، ولا تزال تعمل.

العسكر والبلطجية: "إيد واحدة"؟ أم يد ومخالب؟

ولكن، بينما ارتبطت هذه العصابات الإجرامية قبل الثورة، بحفنة من رجال الأعمال، وضباط المباحث وأمن الدولة، هي تعمل الأن بواسطة المجلس العسكري، الذي يملك أضعاف اضعاف الإمكانيات بما لا يقارن مع نواب الوطني وضباط أمن الدولة.

فحملات الاعتقال المكثفة لم تكن لإرساء الأمن في جوانب المحروسة، بل بالأساس لجمع اكبر عدد من البلطجية، وأصبح وجود رؤساء عصابات البلطجية، المعروفين شكلا واسما لأهالي منطقتهم، وسط ضباط الشرطة العسكرية والأمن المركزي، أمر معتاد، وحتى التقاط الصور بالسيوف أمام الدبابات.

استخدام عصابات البلطجية في قمع الثورة، ليس ابتداعا "مجلسيا عسكريا طنطاويا"، بل هو أحد أدوات الثورة المضادة، وخلال الثورة الإسبانية على سبيل المثال كان يساند قوات الجنرال فرانكو، طابور خامس من البلطجية والمخربين ومروجو الإشاعات. وهؤلاء بالنسبة للثورة المضادة، ليسوا أكثر من كلاب مسعورة يطلقونها، ويسهل التنصل مما يقترفوه، بل والأكثر من ذلك إلصاق جرائمهم بالثوار، وفي النهاية لن يعضوا أسيادهم ولن يتفوهوا بكلمة وإلا فإن جدران السجن او حتى رصاصة كفيلة بإخراسهم.

ولكن السحر قد ينقلب على الساحر.. وللحديث بقية.