الموظفون في مصر..
البيروقراطية والليبرالية الجديدة
يتعرض اليوم موظفي البيروقراطية المصرية، 6 ملايين موظف حكومي، إلى أخطر هجمة منذ نشأة البيروقراطية الحديثة قبل قرنين من الزمان. فعلى مدى الشهور الفائتة كان الجدل يدور حول “مشروع قانون الوظيفة العامة” الذي قدمته حكومة لجنة السياسات، والذي كان يهدف إلى إلغاء “العلامة المميزة” للوظيفة الحكومية: الأمان الوظيفي، باعتماد نظام التعاقد المحدد المدة كطريق للاستخدام في الأعمال الحكومية. صحيح أن أحمد درويش، وزير الدولة للتنمية الإدارية، سحب مشروع القانون بعد إثارته لجدل كبير. لكنه أيضا أعلن، حتى لا يفهم أحد هذه الخطوة خطأ، أنه “قد يأتي مسئول حكومي مستقبلا لإلغاء نظام التعيين واعتماد نظام التعاقد، أو على الأقل التقليل من نسبة التعيين.”
سَعي الحكومة لـ”فك وتركيب” البيروقراطية المصرية وفقا لقواعد الليبرالية الجديدة هو آخر خطوة في المسيرة الطويلة للأفنديات من فئة الموظفين المصرية العريقة. في السطور القادمة سنحاول قراءة هذه المسيرة، لفهم الجذور الاجتماعية والوضعية الطبقية والدور السياسي لشريحة طبقية خطيرة في أهميتها، ومع ذلك منسية، يزيد حجمها على ربع قوة العمل المصرية.
نشأة البيروقراطية الحديثة
بعد أن خلُصَت مصر لمحمد علي بعد نجاحه في قمع علماء الأزهر وتحديد إقامة زعيمهم عمر مكرم في منزله بدمياط عام 1809، ثم التخلص من المماليك في مذبحة القلعة 1811، أصبح الطريق ممهدا أمام النخبة الحاكمة الجديدة للشروع في تنفيذ مشروعها التحديثي الذي تضّمن، من ضمن ما تضَمن، إعادة هيكلة جهاز الدولة وقيام إدارة مركزية.
ففي سبيل القضاء على نظام الالتزام1 شرعت السلطات فورا في عمل مسح جديد للأراضي. وفي سياق المسح فرضت ضريبة على الأراضي المزروعة، أطلق عليها الخَراج، حصّلها مباشرة موظفون تابعون للحكومة.
وعن طريق نظام للاحتكار شمل مجمل النشاط الاقتصادي، نجح محمد علي في تدبير المال اللازم لإقامة جيشه، فيما صار يعرف بـ”النظام الجديد”، معتمدا على التجنيد الإجباري للمصريين، الذي طبق بداية من 1820. وقد تطلب تنظيم هذا الجيش المزيد من الأموال والمؤسسات اللازمة لدعمه. توفر المال في 1821 بالتوصل إلى تقاوي نوع من القطن طويل التيلة ونشرها بغرض التصدير. أما المؤسسات فقد تكفّلت بإنشائها مشروعات التحديث التي تبنتها الدولة.
فبغرض توفير المهندسين والأطباء والكفاءات الفنية لسد احتياجات الجيش، وضع محمد علي نظاما جديدا للتعليم يضم مدارس إعدادية، إلى جانب برامج لتدريب الطلبة في أوروبا. كما أقيمت صناعة حديثة، فظهرت المسابك والمدابغ والمحالج والمطابع ومصانع النسيج.
صحيح أن محمد علي أعاد تنظيم الإدارة في وقت مبكر جدا. لكن البيروقراطية التراتبية لم تتتحدد ملامحها إلا بعد إصلاح الجيش وظهور القطن طويل التيلة. ففي عام 1824 فقط قرر وضع تراتبية بيروقراطية تقوم على تسلسل قيادة يبدأ في القاهرة وينتهي بالقري (الوالي – مفتش عموم – مأمور المأموريات – ناظر القسم – حاكم الخط – شيخ البلد – الصرّاف – الخولي – قائمقام). وكانت هذه البيروقراطية المركزية نتاجا لنظام الضرائب المباشرة الذي وضعه محمد علي، ووسيلة لإحكام سيطرته على أقسام مصر الإدارية.
وكان أغلب موظفي هذه الإدارة من الأتراك. ومن بين هؤلاء، حصلت عشيرة محمد علي على أعلى المناصب وأكثرها حساسية. لكن كانت هناك استثناءات من داخل النخبة التركية، مثل بوغوص بك الأرمني، الذي تعاقد مع محمد علي في 1810 على إدارة جمرك الأسكندرية. وفي إطار هذه الاستثناءات تم الاعتماد على موظفين من الأقباط في الإدارة المالية، نظرا لحذق الأقباط في الشئون الحسابية.
إلا أن الجنود كانوا يعتبرون “مِلكية” خاصة لمحمد علي، والموظفين خدّام سعادته، حتى مكاتب الحكومة وإدارتها ملكا له، وما يحصل عليه الموظفون في مقابل جهدهم ليس أجرا، بل “منحا” من الحاكم. هكذا كان تحديث البيروقراطية في ظل محمد علي عملا متناقضا. فكما وصفه كارل ماركس، كان محمد علي “عمامة”، أي كان جزءا من العالم الماقبل رأسمالي القديم، لكنه “أذكى عمامة وأكثرها تحديثا في المشرق كله!”
مصر الخديوية
إذا كانت بعض مشروعات محمد علي قد انهارت انهيارا تاما أو أصابها الضعف بعد 1837، بسبب الأزمة المالية العالمية والتدخل العسكري الأوروبي، فإن حكومة مصر لم تعد مرة أخرى حكومة من حكومات “الحد الأدنى” التي شهدها القرن الثامن عشر. فقد قرر ولاة مصر من خلفاء محمد علي، وبالذات إسماعيل، تدعيم النظام وتطويره، باستخدام الإدارة كنقطة ارتكاز؛ بحيث أصبحت مصر تدار من قبل بيروقراطية مركزية يصل نفوذها إلى كل شبر من أراضي البلاد لصالح حاكم مطلق يملك سلطة الأمر والنهي.
وكانت أول تداعيات هذا القرار إحياء العديد من مشروعات محمد علي. ففي سبيل توفير الرجال المدربين للعمل في الحكومة فتح إسماعيل مدارس مدنية جديدة في القاهرة، وأقام مدارس ابتدائية حكومية في الأقاليم، وأنشأ مدرسة لتخريج المعلمين، وأرسل عددا من الشباب للدراسة يفوق ما أرسله عباس أو سعيد.
على أن التطور الأهم في هذا الإطار هو دخول المصريين لأول مرة ومشاركتهم في إدارة البلاد من خلال التراتبية الجديدة التي أصبحت أكثر تخصصا من حيث وظائفها وأكثر بيروقراطية في شكلها. وعلى عهد إسماعيل، تواجد المصريون في كل جهات الحكومة تقريبا. ففي الأقاليم، كانت محاكم القرى والمديريات والمجالس الزراعية والإدارية مكونة من أعيان يشغل أصدقاؤهم مناصب إدارية عليا. وفي القاهرة كان أعيان المصريين متواجدين في الدواوين التنفيذية، مسئولين مباشرة عن إدارة البيروقراطية وأجهزة القمع.
وكان لابد أن يشمل تطور النظام الإداري على عناصر مثل الدرجات الوظيفية، وجدول للرواتب، ونظام للمعاش، ونظام للترقية، وقواعد للجزاءات.
وقد ظهرت الخطوط المحددة لوضع مدني جديد أثناء حكم محمد علي. فبعد قيام مؤسسته العسكرية، أصبح لموظفي الحكومة رتب عسكرية. ولم يحدث التمييز لدرجات الموظفين إلا في منتصف القرن التاسع عشر، عندما حددت بخمس درجات مدنية. ووضع نظام للأجور يتماشى مع نظام الدرجات الجديد. وإلى جانب المرتبات، كان الموظفون يتلقون بدل تعيين وعليق لدوابهم وكسوة. وكانت بدلات التعيين ترفع المرتب بقدر كبير؛ فبينما كان راتب سالم باشا رئيس ديوان المالية الشهري في عام 1853/1854 يصل لـ16111 قرشا، بلغت بدلات التعيين التي كان يحصل عليها 3959 قرشا.
وصدر الأمر العالي في 10 أبريل 1883 متضمنا أول نظام لائحي للوظيفة العامة، أوجبت أحكامه إجراء بيان لأحوال جميع المستخدمين، وبناء عليه يتم إعداد جداول الترقي.
من جانب آخر، كان مرسوم 1844 أول قانون ينظّم المعاشات، التي حُدد مبلغها على أساس ما كان يتلقاه الموظف من راتب بشرط قضائه في الخدمة ثلاثون عاما. فالموظفون الذين يزيد راتبهم الشهري على 1000 قرش، كانوا يتلقون معاشا قدره ربع راتبهم، بينما بلغ معاش من تراوح راتبه بين 250-1000 قرش ثلث الراتب الشهري. وكانت هذه المعاشات تمول من خزينة الدولة ولا يساهم الموظفون بأية اشتراكات. وفي 26 ديسمبر 1854 صدرت لائحة جديدة للمعاشات أعطت الموظفين الحق في الحصول على معاش إذا قضوا في الخدمة 15 عاما. وعندما ساءت أحوال الدولة المالية صدر الأمر العالي رقم 21 لسنة 1870 الذي فرض علي الموظفين أداء اشتراك لحساب المعاشات يعادل 3.5% من المرتبات.
وقد يبدو أن تقدما حقيقيا قد تحقق باتجاه تطوير نظام إداري قائم على القانون. إلا أن هذه القواعد كانت على الورق فقط. فالأجور لم تدفع بأي صورة من صور الانتظام، ولا حسب الفئات المقررة قانونا، ولم تخضع أبدا لقواعد ثابتة. كذلك عوملت قوانين المعاشات بنفس الطريقة المتعجرفة. حيث كان الموظفون يفصلون دون إبداء أسباب أو صرف معاش في أحيان كثيرة.
بيروقراطية الاحتلال البريطاني
ما أن وصل المعتمد البريطاني اللورد كرومر إلى مصر عام 1883، حتى قام بتسريح الجيش الذي ساند عرابي وأعاد تكوينه على أسس “جديدة”. كما أنشأ العديد من التنظيمات الإدارية المختلفة – وما تبعها من وظائف – بما يضمن سيطرته على الدولة الزراعية المتخلفة ويمكّنه من الاستغلال الأمثل لمواردها. وكان من أهم ملامح هذا النظام إنشاء مجالس المديريات عام 1883.
وخلال السنوات الأولى للاحتلال صدرت عدة لوائح تنظّم نظم المعاشات، كان أولها لائحة تسوية حالة المستخدمين الملكيين في 10 إبريل 1882. وفى سبتمبر سنة 1884 صدرت لائحة أخرى قسّمت الموظفين إلى فئتين: داخل الهيئة وهؤلاء يسرى عليهم المعاش، وخارج الهيئة وهؤلاء ليس لهم حق في المعاش. وفى 21 يونيو 1887 صدرت لائحة توفيق لتقرر نظاما جديدا للمعاشات ولترفع نسبة اشتراك الموظف إلى 5%. كما صدر القانون رقم 5 لسنة 1909 متضمنا بعض المزايا.
وبطبيعة الحال كانت شريحة الإداريين والموظفين مع بداية الاحتلال قليلة العدد وارتبطت مصالحها ارتباطا مباشر بمصالح المستعمر. واحتفظت النخبة التركية الجركسية بوظائف الإدارة العليا إلى جانب المفتشين والمستشارين الإنجليز. كما نال الشوام وكبار ملاك الأراضي حظهم من هذه المناصب العليا. ولما كان التوظف بالحكومة هو مجال العمل المتاح والمرغوب، فقد ازداد التنافس بين المصريين المتعلمين، المنتمين للعائلات الريفية الكبيرة والشرائح العليا من الطبقة الوسطي، على الالتحاق بالوظائف الصغرى والمتوسطة.
وتحول التعليم في ظل الاستعمار الإنجليزي إلى معامل لتصنيع موظفين وكتبة (روتينيين) يجيدون لغته. بهذا المعنى يمكن أن نفهم التوسع في التعليم الذي شهدته البلاد في هذه الحقبة. فقد ارتفعت ميزانية التعليم من 29000 جنيه في عام 1877 إلى 81000 جنيه عام 1890 حتى بلغت 305000 جنيه عام 1906. وكذلك ارتفع عدد المدرسين بمدارس الحكومة من 131 مصري و92 أجنبي عام 1896 إلى 704 مصري و160 أجنبي عام 1906.
وفي 28 فبراير 1922 أنهت بريطانيا حمايتها على مصر من طرف واحد ومنحت مصر استقلالا صوريا. ولما كانت الإدارة في دولة “مستقلة” تحتاج إلى إعداد الكوادر الإدارية والفنية، فقد عملت الحكومة من أجل توسيع البنية الأساسية لنظام التعليم. فتم ضم الكتاتيب إلى المعارف، وتحولت إلى مدارس أولية ووضع لها نظام خاص، وتحول معلموها إلى موظفين حكوميين قررت لهم رواتب شهرية. كما تم إصلاح التعليم الابتدائي، ونال التعليم الثانوي قدرا من الإصلاح، كما نالت المدارس العليا نصيبا من الاهتمام، وزادت ميزانية المعارف في أربع سنوات بنسبة 790%. وكان تأسيس الجامعة المصرية كجامعة حكومية عام 1925 وانضمام بعض المدارس العليا إليها تتويجا لهذه السياسات.
ومع نهاية العشرينات ألقت أزمة الكساد الكبير بظلالها على كل فئات المجتمع بما فيها الموظفين الذين وجدوا أنفسهم بين يوم وليلة مواجهين بأعباء المعيشة وغلاء الأسعار والتضخم الذي التهم معظم رواتبهم الضئيلة. وأخذت جيوش الخريجين والمتعلمين في الانضمام لطابور البطالة المتزايد يوما بعد يوم. كما صدر القانون رقم 37 لسنـــة 1929، الذي ارتفعت بموجبه نسبة اشتراك الموظف في المعاش إلى 7.5%.
لكن اللطمة القاضية جاءت على يد إسماعيل صدقي، ألذي أصدر كادرا جديدا للموظفين خفض فيه رواتب موظفي الحكومة وألغي العلاوة الدورية. وامتنعت الحكومة عن تثبيت موظفيها، ما عدا رجال القضاء والشرطة، اعتبارا من سنة 1935، لينضموا لعمال اليومية المحرومين من نظم المعاشات.
ورغم ذلك ظلت الوظيفة الميرى هي مرفأ الأمان لكل أسرة مصرية وأخذت أعداد موظفي الحكومة في التزايد دون كلل، بحيث زاد عددهم من أقل من 30 ألف موظف حكومي في بداية القرن العشرين إلي 443 ألف موظف سنة 1951، منهم 123 ألف في الشرطة، وكان أغلب الموظفين يعمل بنظام اليومية أو التعاقد.
وكانت حكومة الوفد الأخيرة قد كلفت متخصصا في نظم الإدارة بعمل مشروع لتنظيم الجهاز الإداري للدولة، اصطلح على تسميته تقرير سنكر Sinker، على اسم صاحبه. وبناء على هذا التقرير صدر القانون رقم 210 لسنة 1951، وهو أول تقنين جامع ينظم أحكام العاملين بالدولة من ترشيحهم للتعيين إلى حين انتهاء خدماتهم.
الموظفون في ظل رأسمالية الدولة
أدت سياسيات رأسمالية الدولة الناصرية إلي أكبر تغير في التركيبة الطبقية للمجتمع المصري، كما أدت مجانية التعليم إلى أكبر تحول في وسائل الحراك الاجتماعي في مصر القرن العشرين.
في عام 1954 تم تخفيض المصاريف الجامعية وتحويل جزء من ميزانية التعليم الأساسي إلى التعليم الجامعي. وخلال الفترة ما بين عامي 1954 و1962 تضاعفت ميزانية الجامعات ثمانى مرات، في حين زادت ميزانية التعليم ككل بنسبة 200%. وزادت نسبة التعليم العالي من الميزانية الكلية للتعليم في نفس الفترة من 14% إلى 22%.
وخلال الحقبة الناصرية زاد عدد الطلاب في المرحلة الابتدائية بنسبة 234% في حين زاد عدد الطلاب الجامعيين بنسبة 325%. وكان عدد الذين التحقوا بالجامعة في العام الدراسي 1952ـ1953 قد وصل إلى 51681 طالب، وصلوا في العام الدراسي 1969-1970 إلى 161517 طالب. ولم تكن هذه الزيادة الضخمة مرتبطة باحتياجات سوق العمل بقدر ما كانت مرتبطة برغبة النظام الناصري في الاستيعاب السياسي والاجتماعي للطبقة الوسطي الحديثة.
وإلى جانب التوسع في التعليم العالي والمتوسط كان على النظام الناصري استيعاب هؤلاء الخريجين في سوق العمل. ومع الخطة الخمسية الأولى والمشروعات الطموحة كالسد العالي ومصانع الألومونيوم والحديد والصلب والتوسع الكبير في القطاع العام في ظل سياسة التأميم، أصدر النظام القانون رقم 185 لسنة 1964 الذي يلزم الحكومة بتعيين كافة خريجي الجامعات والمعاهد في وظائف حكومية أو في القطاع العام. وقد وصل عدد المعينين في وظائف داخل القطاع العام والحكومة من ذوي المؤهلات العليا والمتوسطة إلى 450 ألف موظف خلال عام 1969 منهم 153 ألف خريج جامعي، أو ما يوازي 60% من إجمالي عدد الخريجين. وقد شمل ذلك أكثر من 90% من المهندسين والعلماء و87% من الأطباء وأكثر من 60% من المحامين.
وفي عام 1952 صدر القانون رقم 316، الذي تم بموجبه إنشاء صندوق للتأمين وآخر للادخار والمعاشـات لموظفي الحكومة المدنيين. وتحول نظام التأمين والادخار إلى نظام معاشات بموجب القانون رقم 394 لسنة 1956. وخلال فترة الوحدة مع سوريا صدر القانون رقم 36 لسنة 1960 والقــانون رقـم 37 لسـنة 1960، حيـث كان الأول خاصا بالتأمين والمعاشات لموظفي الدولة المدنيين، والثاني للتأمين والمعاشات لمستخدمي الدولة وعمالها الدائمين. وتم دمج هذين القانونين في القانون رقم 50 لسنة 1963.
كانت هذه هي الفترة الذهبية بمعنى الكلمة لموظفي الدولة، سواء كانوا من كبار الموظفين والمديرين الذين وجدوا فرصة سانحة للترقي والصعود في ظل الفراغ النسبي في المواقع القيادية بسبب التوسع في عمليات التطوير والبناء من جانب الدولة والاحتياج الملح للتكنوقراط والإداريين وكذلك طرد المغضوب عليهم من سدنة النظام الملكي القديم والاحتياج لمن يحل محلهم، أو كانوا من صغار الموظفين الذين حظوا بفضل ثبات أسعار المواد الغذائية والمواصلات والإسكان، مع تمتعهم بدخل ثابت ووضع اجتماعي متميز، باستقرار امتد لأكثر من عقد من الزمان!
إلا أن فشل خطة التنمية الخمسية الثانية في تحقيق الأهداف المرجوة منها، أدى إلى انهيار سريع في المستوى المعيشي وفرص التشغيل لخريجي الجامعات، وبدأت الشروخ تظهر في قدرة النظام على استمرار استيعابه لتلك الطبقة. وتبع هزيمة 1967 المزيد من الإجراءات التقشفية والمزيد من شد الأحزمة بدعوى دعم المجهودات الحربية، وتحملت الجماهير دفع ثمن هذه الضريبة من قوت يومها، وزادت معاناة الموظفين الحكوميين أصحاب الدخول الثابتة أمام الارتفاع الجنوني للأسعار ومستلزمات المعيشة، وقلت القيم الحقيقية للأجور منذ ذلك الوقت ولم تعد أبدا للارتفاع!
زمن الغليان والانفتاح
على عكس الانطباع السائد، استمر السادات في التوسع في سياسة التوظيف بالدولة والقطاع العام لاحتواء الطبقة الوسطى في فترة من أكثر الفترات غليانا في تاريخ مصر الحديث. فبينما كان عدد العاملين بالدولة في عام 1970 هو 1.5 مليون موظف، من بينهم 800 ألف يعملون في القطاع العام، ارتفع هذا الرقم ليصل إلى 2.5 مليون موظف عند اغتيال السادات في 1981. وعلى مستوى التشريعات، جدد السادات عام 1973 العمل بالقانون رقم 185 لسنة 1964، الخاص بتعيين كافة خريجين الجامعات والمعاهد، بينما أصدر قانونين جديدين هما القانون رقم 61 لسنة 1976 الخاص بالتأمينات الاجتماعية ونظام المعاشات، والآخر القانون رقم 47 لسنة 1978 الخاص بالعاملين المدنيين بالدولة.
ولكن على الجانب الآخر صدر القانون رقم 11 لسنة 1979 الذي قضى بفصل الهيئات الاقتصادية وشركات القطاع العام عن الإطار العام للموازنة العامة للدولة واستقلالها بموازنات منفصلة لكل منها. والخطير في هذا الإجراء أنه ولأول مرة في تاريخ الموازنة العامة للدولة المصرية، منذ أن عرفت مصر فكرة الموازنة المالية للدولة وفصلها عن الجيب الخاص للخديوي أو الحاكم عام 1878، يجرى الإخلال بمبدأ وحدة الموازنة. وقد تم اتخاذ هذا الإجراء بحجة منح هذه الهيئات مرونة أكبر للعمل بمنطق اقتصادي وتحقيق أرباح وكذا التحرر من قيود اللوائح المالية الحكومية. فتم منح رئيس كل هيئة سلطات وصلاحيات لإصدار لوائح العمل والنظم المالية. وكانت هذه هي بداية تحول بند الأجور المتغيرة إلى سيرك حقيقي. حيث تراوح هذا البند، في الهيئات والإدارات المختلفة، من صفر إلى عشرات أضعاف المرتب الأساسي وفقا لقوة ونفوذ رئيس كل هيئة عند رئيس الوزراء ووزير المالية ورئيس الجهاز المركزي للتنظيم والإدارة. كما اعتمد هذا التفاوت أيضا على مدى قوة الوحدة الإدارية داخل النسق الإداري، مما منح ميزة خرافية لوحدات مثل وزارة المالية والجهاز المركزي للتنظيم والإدارة والجهاز المركزي للمحاسبات ومجلس الشعب.
الليبرالية الجديدة تدق الباب
يمكننا أن نرى بوضوح أربعة محطات رئيسية لسياسات مبارك بشأن موظفي الدولة والقطاع العام: المرحلة الأولى بدأت مع بداية حكمه، والثانية في 1991 مع تدشين برنامج الإصلاح بالاتفاق مع صندوق النقد، أما المحطة الثالثة فيمكن التأريخ لها بتولي محمود محيي الدين وزارة الاستثمار المستحدثة في 2004، والأخيرة في 2007 بطرح مشروع قانون الوظيفة العامة. استخدم نظام الحكم في كل هذه المراحل سياسة “العصا والجزرة”، حيث كانت كل مرحلة تبدأ بتنفيذ سياسة تشريد وتجويع، وفي الوقت نفسه تعطي موظفي الدولة والقطاع العام منحة “مسكّنة” في إطار ما سمي ببرنامج الإصلاح الإداري وتحسين أوضاع الموظفين!
فمع بداية حكم مبارك، وفي ظل سياسات التثبيت والتكيف الهيكلي التي نادى بها صندوق النقد الدولي، تم وضع الخطة الخمسية الأولي في الفترة من 81-1982/86-1987، التي فككت وأضعفت القطاع العام تمهيدا لبيعه، وأطلقت حرية الأسعار وخفضت الدعم2. وفي ظل ثبات مرتباتهم، كان موظفو الحكومة قد وصلوا مع نهاية فترة الرئاسة الأولى لمبارك إلى حد من الإفقار والبؤس لا يمكن تجاهله.
كان مشهد 18 و19 يناير وجسد السادات الملقى على “المنصة” مازال حاضرا في الأذهان. فما كان من النظام إلا أن أصدر القانون رقم 101 لسنة 1987 بتقرير علاوة خاصة للعاملين بالدولة والقطاع العام تبلغ 20%، لا تعتبر جزءا من الأجر الأساسي. وتوالت هذه الزيادة بنسبة 15% طوال سنوات الخطة الخمسية الثانية (86-1987/91-1992)، كما حظي أصحاب المعاشات أيضا بنفس نسبة الزيادة بحد أقصى 75 جنيه.
وكانت بداية الخطة الثانية قد شهدت انخفاضا مفاجئا وكبيرا في أسعار البترول، ترتب عليه تراخى تحويلات المصريين العاملين في الخارج، وانخفاض إيرادات السياحة. وأمام الأزمة الاقتصادية الطاحنة والتضخم والعجز الحاد في ميزان المدفوعات، بات واضحا أمام الطبقة الحاكمة أنه لا سبيل للخروج من أزمتها إلا بتطبيق سياسات الليبرالية الجديدة. فتم عقد اتفاق مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في عام 1991، تولت بمقتضاه هاتان المؤسستان رسم وتحديد السياسة الاقتصادية عبر ما عرف باسم سياسة “الإصلاح الاقتصادي”، الذي كانت أول بشائره صدور القانون 203 لسنة 1991 الخاص بتنظيم قطاع الأعمال العام. وهكذا بدأت الموجة الأولى من الخصخصة.
قبل صدور هذا القانون، كان عدد العاملين بالقطاع العام مليونا و13 ألف عامل، لينخفض في 2004 إلى 625.35 ألف، بفارق 437.65 ألف. خرج من بينهم حوالي 210 ألف على المعاش بشكل طبيعي، أما الباقي فقد تم تسريحهم تحت مسمى المعاش المبكر3.
وفي المقابل صدر القانون رقم 29 لعام 1992، الذي ضم للأجور الأساسية للعاملين بالدولة كل العلاوات الخاصة المقررة منذ عام 1987 إضافة إلى علاوة جديدة بلغت نسبتها 20%4، في منحة غير مجانية تستهدف تحييدهم في معركة الخصخصة، خاصة وأن الهجوم أصاب أساسا مصالح العمال في مصانع وشركات القطاع العام. كما صدر في 1995 قرار رئيس الجمهورية باعتبار منحة عيد العمال زيادة ثابتة لمرتبات العاملين بالدولة بحد أدنى 75 جنيه و120 جنيه كحد أقصى، تضاف على المرتبات بواقع من 6.25 إلى 10 جنيهات شهريا.
لكن هذا الوضع لم يستمر طويلا. فمع الأزمة الاقتصادية الجديدة في نهاية التسعينات وبداية الألفية الجديدة، انهارت الأحلام الوردية التي بشّر بها كبار منظري الليبرالية الجديدة (كتحول مصر لنمر اقتصادي على النيل)، فنشأ داخل الطبقة الحاكمة خلاف بين أولئك الذين يدفعون في طريق زيادة سرعة الخصخصة ورفع الدعم دون إبطاء، ممثلين في شخص جمال مبارك وحاشيته من رجال الأعمال الجدد، وبين رجال الحرس القديم من كبار البيروقراطية وجنرالات الجيش وحاشية القصر الرئاسي الذين ظلوا يحذروا من مغبة هذه السياسة التي قد تؤدي إلى تحركات شعبية غير مأمونة النتائج، إلا أن الانتصار كان من نصيب جناح جمال مبارك. وكان هذا الانتصار بمثابة إعلان عن بدء المرحلة الأِشرس من مراحل تطبيق سياسيات الليبرالية الجديدة في مصر تحت شعار “كل شيء للبيع”.
وفي مشهد مكرر تزامن مع عملية الخصخصة، التي ضمت، بجانب بيع شركات قطاع الأعمال التابعة للقانون 203، بيع مؤسسات تابعة للقطاع المالي، تم تقديم بعض الامتيازات للموظفين؛ حيث منحوا علاوة خاصة للأجور بنسبة 15% في أول يوليو 2005 بحد أدنى 30 جنيها. كما زاد الحد الأقصى لأصحاب المعاشات ليصل إلى 100 جنيه، وتم تقرير حافز إثابة بنسبة 25% كحد أدني وبصفة ثابتة. وفي 2006 مُنح العاملين بالدولة علاوة خاصة إضافية نسبتها 20%.
ولكن كل هذه المسكنات لم يكن لها أثر يذكر في ظل زيادة الأسعار بشكل جنوني، خاصة بعد قرار النظام تعويم الجنيه (تحرير سعر الصرف) في 2003. وبذلك أخذت القيمة الحقيقية للمرتبات تنخفض من عام إلى عام، ولم يبق لموظفي الحكومة، بعد أن رضوا بقلة المال، إلا عنصر الأمان، وهو ما أصبح هو الآخر في خبر كان بعد طرح المشروع الجديد لقانون الوظيفة العامة.
عدد الشركات التي تم خصخصتها كليا أو جزئيا “5” (للإطلاع على الجدول برجاء مراجعة ملف الـPDF)
الوضع الطبقي للموظفين
كما رأينا، فإن الموظفين عند نشأة البيروقراطية المصرية الحديثة كانوا مجرد وسطاء للطبقة الحاكمة كي تستطيع أن تدير البلاد بما يحقق لها سيطرة كاملة على مواردها. ولأن فئاتهم العليا والوسطى كانت في الأغلب من “الذوات” الذين يشاركون البرجوازية الفائض، ولأن فئاتهم الأدنى كانت متميزة كثيرا عن سواد الشعب، ولأنهم، في الإجمالي، كانوا نسبة صغيرة جدا من عموم السكان، فإنهم كانوا طبقيا، وبشكل حاسم، ينتمون إلى فئة الطبقة الحاكمة وذيولها.
لكن رويدا رويدا، ومع اتساع مفهوم الوظيفة العامة ليضم شرائح عديدة من الطبقة الوسطي المصرية نتيجة لسياسات التوسع في التعليم، تغيرت ملامح هذه الطبقة. أصبح “الأفندية” أقرب في الشكل من غالبية الشعب المصري من العمال والفلاحين، وربما شاركوا هؤلاء أماكن السكن والعلاقات الأسرية والاجتماعية. ولكنهم ظلوا رغم ذلك يتميزون عنهم، ليس فقط من حيث المظهر نتيجة لارتدائهم الزي الإفرنجي والطربوش، ولكن لأنهم كانوا دون غيرهم يتمتعون بالتعليم وبراتب ثابت وبنفوذ ما نتيجة اختلاطهم بالطبقات العليا، مما منحهم شعورا بالتفوق.
وحتى في ظل النظام الناصري عندما اتسع مفهوم الوظيفة العامة وأصبح التعليم “كالماء والهواء”، ظل الشعور بالتفوق لدى الموظفين موجودا، ليس فقط بسبب رواتبهم الثابتة وشعورهم بأنهم مشاركون في “الحلم الناصري”، ولكن لأنهم كانوا يتمتعون أيضا بوضع اجتماعي مرموق.
ولكن كل ذلك بدأ يتآكل بقسوة في ظل ظروف الأزمة وصعود سياسات الليبرالية الجديدة في العقود الأخيرة. قارن بين وضع ودور ومكانة المدرس والطبيب والمهندس والممرضة، في بدايات القرن الماضي وحتى سنوات الستينات، ووضعهم الآن. الوضع الآن أقل ما يقال عنه أنه مثير للشفقة. لم يتحول فقط الراتب الثابت إلى عيب، بل تغيرت أيضا مكانة موظف الحكومة من النقيض إلى النقيض، وأصبح في الواقع، من قبل النكت والكاريكاتيرات، رمزا للفقر ولتراجع المكانة الاجتماعية. باختصار أصبحنا الآن نستطيع أن نقول دون أي تردد أن الحدود التي كانت تفصل موظفي الحكومة عن عموم الطبقة العاملة تسير في اتجاه التلاشي. ولكن دعونا نناقش هذه الفكرة بشيء من التفصيل.
يوجد الآن بالقطاع الحكومي 6 مليون موظف منهم 5.5 مليون موظف دائم و500 ألف مؤقت. والموظفون الدائمون ينقسمون حسب الجنس إلي 4.1 مليون ذكور و1.4 مليون إناث. وعلى الرغم من النمو الشديد الذي شهده هذا القطاع خلال سنوات حكم مبارك (كان العدد 2.5 مليون في البداية)، إلا أن قراءة هذه الزيادة على علاتها يمكن أن يؤدي لاستنتاجات مغلوطة. ففعليا تم إلغاء التزام الحكومة بتوظيف الخريجين في 1984، ولكن استمرت عملية التوظيف كسياسة لامتصاص حالات الغضب. لكن التوظيف لم يكن يتم بنفس المعدلات في كل القطاعات الحكومية. فباستثناء الشرطة والأوقاف، لا يوجد نمو يذكر في القطاعات الأخرى بدءا من عام 1998. والسبب السياسي لنمو قطاع الشرطة إلى 850 ألف شخص غني عن البيان. أما بشأن الأوقاف، فقد شهدت سنوات حكم السادات بناء 134 ألف مسجد أهلي، خاصة بعد صدور القانون الذي يعفي العقارات التي تضم مسجدا من الضريبة العقارية. وكان اغتيال السادات بمثابة جرس إنذار لخطورة هذه السياسة، فتم ضم جميع هذه المساجد لوزارة الأوقاف. وبذلك ارتفع عدد العاملين في هذه الوزارة من 50 ألف موظف سنة 1981 إلى ربع مليون موظف.
ويستحوذ قطاع التعليم والبحوث والشباب علي حوالي 42% من العاملين بالحكومة، بينما يتواجد 17.1% من بينهم في قطاع الدفاع والأمن والعدالة و14.2% في قطاع الخدمات الصحية والبيئية والقوي العاملة. وهو ما يجعل هذه القطاعات الثلاثة تستحوذ علي 73% من موظفي القطاع الحكومي.
وينقسم الموظفون وفقا للكادر إلى ثلاث مجموعات: الأولى تضم العاملين بنظام الكادر العام، وهم الخاضعون لأحكام قانون العاملين المدنيين بالدولة رقم 47 لسنة 1978، ونسبتهم 87% طبقا لإحصائيات عام 97/1998. وتضم المجموعة الثانية العاملين بنظام الكادر الخاص، وهم العاملون بالسلك الدبلوماسي والقنصلي وأساتذة الجامعات وكادر الشرطة والهيئات القضائية، ونسبتهم 12% من إجمالي العاملين بالقطاع الحكومي. ويعمل 83% من شاغلي الكادر الخاص في هيئة الشرطة، و6% بالهيئات القضائية، و10% بالتدريس الجامعي، والباقي في السلك الدبلوماسي. أما المجموعة الثالثة فتضم المتعاملين بلائحة خاصة مثل العاملين في مجال البترول والتأمين التجاري، ونسبتهم 1%.
ووفقا للهيئة أو الإدارة ينقسم الموظفون إلى أربع أقسام: القسم الأول يعمل في الجهاز الإداري للدولة، وهو عبارة عن الوزارات والمصالح التي في حكم الوزارات والجهات ذات الموازنة المستقلة (106 وحدة)، ويعمل به – وفقا لإحصائيات عام 1998 – 25.5% من إجمالي العمالة بالقطاع الحكومي (كادر عام وخاص). القسم الثاني يعمل في الإدارة المحلية، وهي تضم مديريات الخدمات ودواوين عموم المحافظات وأجهزة الإدارة المحلية الأخرى (347 وحدة)، ونسبتهم 55.3%. القسم الثالث يعمل بـ80 هيئة عامة خدمية ونسبتهم 9.1%. أما القسم الأخير فيعمل في 56 هيئة عامة اقتصادية مثل الهيئة العامة للسكك الحديدية والهيئة العامة للسلع التموينية واتحاد الإذاعة والتلفزيون وهيئة مشروعات التعمير والتنمية الزراعية وهيئة النقل العام وهيئة المجتمعات العمرانية، ونسبتهم 10.1%.
وبالنظر إلى ميزانية 96/97، في بند أجور ومكافآت العاملين في الدولة، نجد أن نصيب الجهاز الإداري 6772.3 مليون جنيه، والإدارة المحلية 8766 مليون جنيه، والهيئات الخدمية 2730 مليون جنيه، والهيئات الاقتصادية 3799.9 مليون جنيه، بإجمالي 22068.2 مليون جنيه.
ويبلغ متوسط نصيب الموظف سنويا في الجهاز الإداري 4828.6 جنيه، و2876.7 جنيه في الإدارة المحلية، و5431.5 جنيه في الهيئات الخدمية ، بينما يصل متوسط نصيب الموظف بالهيئات الاقتصادية إلى 6815.8 جنيه. كما نري فإن أقل المتوسطات تتواجد في الإدارة المحلية حيث يعمل أكثر من نصف الموظفين، وأكبرها في الهيئات الاقتصادية، بحيث يفوق نصيب الموظفين بالهيئات الاقتصادية أكثر من ضعفين ونصف نصيب العاملين بالإدارة المحلية.
وبالأخذ في الاعتبار أن هذه المتوسطات غير دالة، حيث يستحوذ كبار الموظفين والمديرين علي الجزء الأكبر من المكافآت والمزايا النقدية، ولا يصل إلي صغار الموظفين إلا الفتات، فإننا نجد أن الأجر الشامل (المرتب الأساسي مضافا إليه 25% حوافز) للموظفين من حملة المؤهلات العليا، والعاملين في الإدارات المحلية المختلفة وفي مديريات الوزارات الذين يتعاملون مع الجمهور بشكل مباشر، لا يتعدى 250 جنيه كأجر شامل، ومن نافل القول أن الحاصلين على مؤهلات متوسطة أو غير الحاصلين علي أي مؤهلات يحصلون على أجر أدنى.
أما بالنسبة لمتوسط أجر الساعة في الإدارات المختلفة، فكانت أقل المتوسطات بالجهاز الإداري في وزارة الزراعة، والخدمات الصحية والدينية والقوي العاملة، حيث بلغ متوسط أجر الساعة 1.6 جنيه/ساعة، بينما كان أكبرها في الخدمات الرئاسية، حيث بلغ أجر الموظف عن الساعة 11.7 جنيه، يليها موظفي وزارة التجارة والتموين 7.9 جنيه/ساعة ثم الكهرباء والطاقة 6.1 جنيه/ساعة. وفي الإدارة المحلية، كان أكبر المتوسطات في قطاع التعليم والبحوث والشباب 2.3 جنيه/ساعة، وأقلها في النقل المواصلات 1.3 جنيه/ساعة.
وهكذا نري أن الغالبية العظمي من موظفي الحكومة يضطرون لبيع قوة عملهم للحكومة نظير مقابل أقل من حد الكفاف، ولكن هذا ليس كل شيء. فالغالية العظمى من الموظفين ليسوا ضمن الإدارة العليا، وبالتالي ليس في يدهم سلطة اتخاذ القرار. فإذا أخذنا في الاعتبار أن وظائف كبير باحثين أو أخصائيين أو فنيين أو كبير كُتَّاب ليست من وظائف الإدارة العليا، إذ لا يحق لأصحاب هذه الوظائف شغل وظيفة رئيس إدارة مركزية بالدرجة العالية، فإننا نجد أن مجموع من لهم حق الإدارة العليا (من وزير حتى مدير عام) هو 9859 شخص، بنسبة 0.21%، وبقية الوظائف عددها 4638005، أي بنسبة 99.79% تعتبر وظائف تنفيذية لا تتمتع بسلطات حقيقية. وهو ما يتضح من الجدول في الصفحة التالية (*):
في ضوء هذه القراءة المعلوماتية والإحصائية يمكننا تأكيد الفكرة التي بدأنا بها هذا القسم: التحول الاجتماعي للموظفين من قائمين بوظيفة الطبقة الحاكمة وممثلين لها، ثم من أحد فئات الطبقة الوسطى أو البرجوازية الصغيرة، إلى قسم من أقسام الطبقة العاملة الجديدة. طبعا هذا الحكم لا ينطبق على كل الموظفين. لكن المقصود أن قسما معتبرا من العاملين لدى الدولة تدهورت أحواله واقترب كثيرا، من حيث الأجر والسيطرة والوجاهة الاجتماعية، من أحوال الطبقة العاملة، وهو أمر يتزايد حثيثا عاما وراء عام.
(*) جدول الدرجات المالية لعام 2004 “6” (للإطلاع على الجدول برجاء مراجعة ملف الـPDF)
إلى أين؟
من هذه الخلفية يمكننا فقط أن نفهم لماذا يتم طرح قانون الوظيفة العامة الجديد الآن تحديدا والغرض من ورائة. ففي إطار هذه المرحلة من الليبرالية الجديدة، وبعد أن أصبحت الآلة البيروقراطية عبئا على جهاز الدولة، وتركة ثقيلة من العهد الناصري “البائد”، أصبح لابد من ترشيدها.
يمكننا أن نفهم أن هذا القانون مجرد وسيلة تستخدمها الدولة، بصفتها صاحب عمل، لاعتصار عمالها حتى آخر رمق، ضاربة في الصميم آخر مكتسبات الموظفين ومميزاتهم ألا وهي الثبات الوظيفي.
في دراسة سئلت عينة من موظفي الحكومة عن أسباب توجههم للعمل بالحكومة، فأجاب 71.1% من العينة بأن شغل الحكومة أمان واستقرار، بينما أجابت بقية العينة إجابات مختلفة (مواعيد العمل بالحكومة أفضل- القرب من مكان السكن- الدخل ثابت- مؤهلي مناسب للوظيفة- عبء العمل بالحكومة أقل- توافر الخدمات الاجتماعية- مفيش مسئولية في شغل الحكومة- إمكانية الترقي في الحكومة- الهيبة والمركز الاجتماعي (0.6%) إمكانية القيام بعمل آخر (0.2%) وأخرى).
المفارقة أن قانون الوظيفة المدنية الذي تم سحبه لتعديله يشمل 46 مادة تضرب أغلبها فكرة “الاستقرار والأمان”. هذا بالإضافة طبعا إلي العديد من السلبيات الأخرى كتخفيض أيام الأجازات، تقليص الرعاية الصحية والاجتماعية للموظف، إلغاء قطاعات كاملة من الوظائف وإعادة تسكين موظفيها أو إحالتهم للمعاش المبكر، إحالة المنازعات القانونية بين الموظف وجهة عمله إلي القضاء العادي مما يطيل من مدة التقاضي، هذا بالإضافة إلي عدم تضمن المشروع الجديد لجداول الأجور وتجاهل تحديد عدد ساعات العمل.
هكذا، فقد دارت دورة الزمن دورة كاملة، وتحول “الميري” من نعمة إلى نقمة، وأصبح العمل الحكومي أحد علامات الفقر والمذلة، وامتلأت الدواوين الحكومية بالغاضبين من سياسات الليبرالية الجديدة التي تعني بالنسبة لهم الإفقار والتهميش. فهل يطرح هذا على الاشتراكيين، وعلى كل المناضلين من أجل التغيير الجذري، السؤال حول دور “أفندية البيروقراطية” في النضال الاجتماعي والسياسي من أجل التغيير؟
هوامش
1. نظام طبّقه العثمانيون يسمحون بموجبه لحكام المناطق بجمع الضرائب مقابل مبلغ يدفعونه للسلاطين.
2. منذ عام 1981، ومع بداية حكم مبارك، تم تقسيم الدعم إلي بطاقات خضراء ذات دعم كلي، وبطاقات حمراء ذات دعم جزئي. وفي خطوة تالية هدفها حصر الدعم لإلغائه بطريقة تدريجية تقرر منع قيد المواليد بالبطاقات التموينية منذ عام 1989. وبذلك أفرغت هذه البطاقات التموينية من مضمونها. وأصبح الدعم منصبا علي أربع سلع غذائية فقط هي الخبز البلدي ودقيق القمح والسكر وزيت الطعام. في دراسة دكتوراه تمت مناقشتها في 2006 حول التشغيل والأجور وتكاليف المعيشة في ظل سياسات التثبيت والتكيف الهيكلي تبين أن 85% من الموظفين قد تخلوا عن بعض السلع نتيجة لارتفاع ثمنها.
3. حددت الحكومة الحدَّ الأدنى لسن العاملين الراغبين في الاستفادة من هذا النظام بسن 45 سنة، شرط أن يكونوا قد أدوا مدة 20 عاما في الوظائف التي يعملون بها، على أن يحصلوا على مكافآت نظير ذلك يختلف حجمها حسب سنوات العمل والعمر وكذلك طبيعة الوظائف الفنية أو الإدارية. وعلى الرغم من أن هذا النظام الأصل فيه أنه اختياري، فإن الدراسات التي رصدت الظاهرة بيَّنت أن ضغوطا مورست على العاملين من أجل أن يدخلوا في هذا النظام عُنوة.
4. في السنوات التالية، وحتى عام 2004، قُررت علاوات إضافية تبلغ 10%، ليصل إجمالي هذه العلاوات حتى يوليو 2005 إلى 240 % من المرتب الأساسي.
5. وفقا لإحصائيات مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار.
6. وفقا لإحصائيات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء.
المصادر
1. عبد الخالق فاروق، اقتصاديات الوقت الضائع، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية.
2. الهامي الميرغني، الطبقة العاملة المصرية 2007.
3. شهدي عطية، تطور الحركة الوطنية المصرية.
4. ف. روبرت هنتر، مصر الخديوية ـ نشأة البيروقراطية الحديثة، ترجمة بدر الرفاعي.
5. سامح نجيب، الإخوان المسلمون: رؤية اشتراكية