بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

الدستور.. الحبر والورق لا يكفيان

الدستور هو القانون الأعلى الذي يحدد القواعد الأساسية لشكل الدولة ونظام الحكم والحكومة، وينظم السلطات العامة والعلاقات بين السلطات والواجبات والحقوق الأساسية للأفراد والجماعات. ويشمل اختصاصات السلطات الثلاث:  التشريعية والقضائية والتنفيذية، ويجب أن تكون القوانين واللوائح متفقة معه.

الدستور إذن بمثابة عقد اتفاق ينظم العلاقة في “بلد ما” بين الأفراد والمؤسسات، وبالتالي يفترض فيه أن يراعي حقوق ومصالح “الجميع”، ولكن لأن “الجميع” هم مواطنون من طوائف وأعراق وديانات ومذاهب، وكذلك من طبقات اجتماعية وفئات مهنية مختلفة، فإن الدستور يجب أن يعكس ثقل كل فئة أو قطاع أو طبقة في المجتمع والتوازنات بينهم، كما يفترض أن يوجه مؤسسات الدولة لمراعاة تلك التوازنات.

من يملك.. يحكم
لكن قوة كل فئة في المجتمع لا تُقاس بقيمتها العددية، بل بقدر ما تملكه من قوة. ولو قمنا بتبسيط الصورة سنجد ثلاثة قوى أساسية:

أولاً، الدولة ومؤسساتها.. تتحكم في القضاء والشرطة والجيش والجهاز الإداري.

ثانياً، الرأسمالية.. تتحكم في الثروة وقوى الإنتاج التي تنتج الثروة، من شركات ومصانع ومزارع، ومواقع استخراج الثروات الطبيعية، ومواقع تقديم الخدمات والمرافق.

وكنتيجة لتحكمها في الثروة فهي تتحكم فيما يمكن تسميته بالقوى الناعمة في البلاد، من تعليم وإعلام، وقد حلت في ذلك محل الدولة التي ظلت لأوان قريب هي المتحكمة في ذلك. ويتكون النظام الحاكم في مصر من تحالف قيادات مؤسسات الدولة مع والراسمالية.

ثالثاً، الجماهير.. وبرغم أن الجماهير تشكل الأغلبية العظمى، وبالرغم أنها المنتج الحقيقي للثروة، إلا أنها لا تترجم هذه القوة لسبب بسيط، وهو أن هذه الجماهير في الأغلب متفرقة إلى أفراد ومجموعات صغيرة، حيث تعمل الطبقة الحاكمة على الإبقاء على هذا الوضع بشتى السبل، بالرغم من اشتراك فقراء الجماهير وعمالها في معاناة الاستغلال والفقر والاستبداد. من هذه السبل وضع عراقيل على تنظيم الجماهير لأنفسهم في كيانات تمثل مصالحها الحقيقية، مثل النقابات العمالية والمهنية والروابط والأحزاب السياسية التي تمثل تطلعاتهم. وأيضاً وضع القوانين التي تدعم سيطرة الطبقة الحاكمة وتؤمّن مصالحها، وترهب أية محاولة من جانب الجماهير للتغيير وقمع ومعاقبة – أو حتى قتل – كل من يحاول ذلك، مستخدمةً قوة الشرطة والجيش لتنفيذ ذلك.

هذا إلى جانب الهيمنة على الأفكار الشائعة بين الجماهير لترسيخ كل المفاهيم التي تعطي قدسية لهذا الوضع وتنفر من أية محاولة لتغييره، وتختلق أو تضخم من فروق غير حقيقية بين الجماهير، على أساس العرق والدين والمذهب، كما تختلق أو تضخّم من خطر خارجي أو داخلي، كمبرر لكتم كل الأصوات.

الأقوى على الأرض.. أقوى على الورق
من الصورة السابقة يتضح أنه من الصعب – إن لم نقل من المستحيل – أن تتم صياغة “دستور” يراعي التوازن بين مصالح كل القوى القائمة في المجتمع، ولكن صياغة “الدستور” تمثل انعكاس لتوازنات القوى على الأرض. فالدستور في نصه يكرّس ويثبّت وضع قائم بالفعل، أو يستهدف لتغييرات هي أيضاً تتفق مع توزانات القوى القائمة.

على سبيل المثال، شملت التعديلات الدستورية في مارس2007، عدداً من المواد، منها إلغاء كل ما يتعلق بالاشتراكية وتحالف قوى الشعب، والمدعي الاشتراكي، في الوقت الذي أصبحت هذه الأمور بالفعل في طي الذكرى، فمنذ أن مهّد السادات سياسات الانفتاح، مرت أكثر من ثلاثين سنة استعملت فيها الطبقة الحاكمة – التي تغيرت تركيبتها هي الأخرى – كل الطرق المباشرة وغير المباشرة، الفجائية والتدريجية، لترسيخ اقتصاد السوق.

كما شملت هذه التعديلات “قانون الإرهاب” الذي يطلق يد الدولة في استخدام القمع من مصادرة الحريات والاعتقال أو حتى قتل كل من يعارضها باسم “محاربة الإرهاب”، ورغم أن التعديل له هدف مستقبلي، لكنه يتماشى مع نظام الطوارئ المتبع، ومع مصالح تحالفات الطبقة الحاكمة القائمة، ومباركة قوى الاستعمار الدولية التي يتذيلها النظام.

معركة لا بد منها.. ولكن
ما أحدثته الثورة هو كسر لحالة الخنوع للنظام الحاكم، أدت إلى إرباكه وإصابته بالخوف من أن تمتد أيدي الجماهير إلى “أكثر مما ينبغي”.. إلى مصادر قوته وسيطرته. ومن هنا ضحّى النظام الحاكم بعدد من الرؤوس على التوالي، على اختلاف الطريقة والتفاصيل.. مبارك، وطنطاوي عنان، ثم أزاح مرسي بعد عجزه هو وجماعته عن إجهاض الثورة، وهو على استعداد أن يضحي بالمزيد من الوجوه عبر الإطاحة والتنحية.

لكنه ليس على استعداد لقبول علاقات جديدة بين تحالف الطبقة الحاكمة وبين الجماهير، وسيظل لآخر نفس حريصاً على السيطرة على مفاتيح السلطة والثروة، بالتحكم في مؤسسات الدولة وفي مواقع إنتاج الثروة من شركات ومصانع ومزارع، إلخ.

وهكذا ظلت كل مباريات التعديلات الدستورية التي تلت الثورة معارك صاخبة حول تفاصيل الصياغات وتشكيل اللجان والتعبئة للتصويت بـ”نعم”، وفي النهاية نجد تغيير في القشور دون الجوهر.

معركة الدستور معركة مهمة، يجب أن نخوضها، ولا نقبل ببساطة بتمرير نسخة جديدة من عقد الاستعباد لحاكمنا. ولكن يجب أن نكون على وعي تام أن كل الصياغات، ستظل حبراً على ورق، طالما ظلت السلطة والثروة بعيداً عن أيدي الجماهير التي خرجت ثائرة لتغيير حياتها، حتى لو كانت هذه الصياغات حالمة ووردية – وهو ما يغيب أصلاً عن هذا الدستور البغيض المعادي لمطالب الثورة واستحقاقاتها.. معركة الدستور جولة مهمة في طريق طويل.