الدستور الجديد: الشرعية الزائفة لاستبداد النظام الحاكم
الدستور هو الوثيقة التي يتوافق عليها المجتمع حسب التقاليد البرجوازية لتنظيم السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية في إطار النظام الرأسمالي السائد، وهو في النهاية تعبير عن شبكة المصالح التي تربط بين الدولة كمنسق عام يهيئ كافة القوانين والتشريعات التي تخدم مصالح الطبقة الحاكمة ورجال الأعمال وأصحاب الشركات الكبرى. وبالتالي يمكننا النظر إلى بنية تكوين الدستور حسب طبيعة النمط الرأسمالي القائم وطبيعة تكوين الطبقات الحاكمة من الجيش والشرطة والأجهزة التنفيذية والبيروقراطية الإدارية والتكوين الطبقي الاجتماعي والثقافي والديني للنخبة الحاكمة من الإخوان التي تكون نسيج السلطة وتحاول فرض أيديولوجيتها على المجتمع بما يخدم في النهاية مصالح النظام الرأسمالي ككل.
تنقسم الأبواب الرئيسية للدستور في تحليلنا إلى خمسة أبواب:
- طبيعة النظام الاقتصادي للدولة وتبنيها لسياسات الليبرالية الجديدة وانعكاساتها على المجتمع
- تركيز السلطة في يد رئيس الدولة باعتباره إعادة إنتاج للديكتاتور الراعي لمصالح الطبقات الحاكمة ورأس المال المهيمن
- أوضاع الطبقة العاملة في ظل تبنى الدستور لسياسات الليبرالية الجديدة ما يعنى مزيداً من نهب حقوق العمال والفلاحين وانهيار فئات الطبقة الوسطى إلى مصاف الطبقة العاملة بسبب حدة الاستقطاب الطبقي
- الحقوق الاجتماعية وتشمل حقوق المرأة والطفل والأقباط والحريات العامة وحرية الصحافة والتعبير
- المؤسسات والهيئات الرقابية والمستقلة والتي يخضعها الدستور لسلطة رئيس الدولة ما يعنى تفريغ هذه المؤسسات الرقابية من مضمونها وتبعيتها في النهاية لمصالح نظام الحاكم
أولا: ينص الدستور على تبني النظام لسياسات السوق الحرة، والتي تعنى خصخصة ما تبقى من القطاع العام وتفكيك القطاعات الأساسية من مؤسسات التعليم والصحة والخدمات العامة كشبكات المياه والكهرباء، وذلك في إطار سيطرة القطاع الخاص على إدارة الاقتصاد وانسحاب الدولة من دورها في تلبية الاحتياجات الاقتصادية والاجتماعية للجماهير ودخول التعاونيات والجمعيات الأهلية ومؤسسات المجتمع المدني في السوق الاقتصادي، والتي هي في النهاية مؤسسات اقتصادية تعمل داخل أطار الرأسمالية ما يعنى مهمتها في تسويق المنتجات والسلع التي تنتجها الشركات الكبرى. وبالتالي تعتبر شبكات للتوزيع وتوسيع أسواق الشركات الكبرى العالمية والمحلية وبالتأكيد فهي لن تغطى كافة الاحتياجات الاجتماعية والاقتصادية للمصريين ولن تستطيع أن توفر البنية التحتية الأساسية اللازمة من العلاج والخدمة الصحية المميزة لكل فئات الشعب والتعليم والخدمات العامة الأخرى. وبالتالي يصبح التناقض واضحا جدا بين ما يدعيه الدستور من دور الدولة في تلبية هذه الاحتياجات وبين انسحاب الدولة فعليا وتراجعها وسيطرة القطاع الخاص على مجمل الاقتصاد، وبهذا يصبح الكلام عن التزام الدولة بتوفير فرص العمل والحد من البطالة وعلاج مشاكل الفقر مجرد لغو فارغ يتناقض تماماً مع السياسات الفعلية التي يتبناها النظام والتي تسفر عن ازدياد حدة الضغوط الاقتصادية على قطاعات واسعة من العمال والفلاحين والشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى.
ثانيا: يعتبر النظام المصري من أكثر الأنظمة تحالفاً مع أقطاب الرأسمالية العالمية لأمريكا والغرب بما فيها إسرائيل ومحور “الاعتدال العربي” من النظام السعودي والأردني ودول الخليج، وبالتالي هذا يفرض نموذجاً خاصاً لطبيعة دور رأس السلطة التي يحتلها رئيس الدولة وهو يقوم على ترسيخ السلطة المركزية التي تكثف جميع الصلاحيات في يده ما يضمن الحفاظ على طبيعة النظام المصري من فرض الهرمية وسيطرة الجهات التنفيذية ممثلة في رئيس الدولة مروراً بالحكومة التي تعتبر منفذة لسياسات النظام بانحيازها الكامل لرجال الأعمال، ومروراً بالبيروقراطية التي تعمل كشبكة أعصاب تربط بين جميع أجزاء النظام وتفرض أيديولوجية النظام بدءاً من القواعد الاقتصادية التي تكرس بالكامل لسيطرة أصحاب الأعمال واستغلال العمال بدعوى دفع عجلة الإنتاج، ومروراً بترسيخ الثقافة الرجعية والتمييز بين الرجل والمرأة في الحقوق العامة وسيطرة الرؤية الدينية المنغلقة التي تفرض قيوداً على حرية المجتمع وحريات الصحافة والإعلام والتعبير وذلك في إطار سيطرة النظام على أجهزة الإعلام والصحافة الرسمية، مما يفرض أيديولوجية الطبقة الحاكمة برؤيتها وانحيازاتها الاقتصادية والاجتماعية ويعطينا الدستور هذا النموذج الكارثة لترسيخ سلطة رئيس الدولة بدءاً من أنه القائد العام للقوات المسلحة وأنه يفرض حالة الطوارئ ويعين رئيس الوزراء وربع مجلس الشورى ومن حقه حل البرلمان وتعيين كافة رؤساء الهيئات والمؤسسات المستقلة من الجهاز المركزي للمحاسبات والبنك المركزي الجهاز المركزي لمكافحة الفساد ويعين رؤساء المحكمة الدستورية والمناصب الحكومية العامة الكبرى من المحافظين ورؤساء الجامعات والمجلس الأعلى للصحافة ومن حقه العفو عن المسجونين وإلغاء العقوبات، وهناك المزيد من الصلاحيات التي تعيد إنتاج مبارك جديد بسلطات أوسع.
ثالثا: تقع الطبقة العاملة اليوم تحت ضغط عنيف من النظام وسيطرة رأس المال على مجمل الاقتصاد ومعاناتهم من عدم وجود تأمين اجتماعي وصحي شامل إلى جانب سيطرة أصحاب الأعمال على نظام الأجور ومنحهم الفصل التعسفي للعمال بدون أسباب، واليوم أيضاً نشهد صحوة كبيرة وتراكم في تنظيم الطبقة العاملة من خلال نقابات مستقلة وروابط واتحادات مما يلم شمل الطبقة العاملة وتركيز نضالها لنيل حقوقها، واستطاعوا بالفعل من خلال التجارب الناجحة للإضرابات والاحتجاجات أن يشكلوا حائط صد أمام تغول وتوحش النظام والآن يجاهد العمال من أجل استكمال ثورتهم وتحقيق مطالبهم من عيش وحرية وعدالة اجتماعية ولكن يأتي الدستور الجديد بما يهدم وينزع حقوق الطبقة العاملة وذلك من خلال عدم التزام الدولة بمواد صريحة تحمى حقوق الطبقة العاملة وإقرار حد أدنى وأقصى للأجور، بل إن الدستور يعيد إنتاج أسوأ القوانين التي تزيد من استغلال العمال وذلك في تبنيه للاقتصاد الحر وقوانين الليبرالية الجديدة بما يتناقض تماماً مع حقوق الطبقة العاملة، وبالتالي فكل الكلام الخاص بالعمال في الدستور مفرغ من المعنى ونحن في الواقع نجد القوانين القمعية التي تجرم الإضرابات وتعتبره خطراً على الأمن القومي ويعطل مصالح الدولة ويوقف عجلة الإنتاج وقوانين العمل التي تتيح لأصحاب الأعمال الفصل التعسفي للعمال وربط الآجر بالإنتاج ما يعنى حق صاحب العمل في تخفيض أجور العمال بدعوى أنهم لا ينتجون وفي ظل ارتفاع التضخم والأسعار واحتكار الشركات الكبرى لوسائل الإنتاج تنخفض قدرة الشراء عند العمال ما يعنى مزيد من الضغوط الاقتصادية والاجتماعية التي يرزح تحتها الفقراء وتوسيع فجوة التفاوت الطبقي وانهيار قطاعات كبيرة من الطبقة الوسطى في هوة الفقر.
رابعا: ينعكس الوضع الاقتصادي والسياسي على طبيعة دور المرأة في المجتمع وتقع المرأة تحت ضغط كبير من القمع الاجتماعي نتيجة ارتفاع حدة الصراع الطبقي ويطال العنف والقهر الاجتماعي المرأة والأطفال باعتبارهم الطرف الأضعف في المعادلة وبعد سيطرة الإسلام السياسي برؤيته الرجعية وتأويلاته المنغلقة للدين نجد إعادة إنتاج اشد القوانين والنظم الاجتماعية تخلفا ضد حقوق المرأة التي تعتبرها إما عورة وسبباً للغواية أو تعتبرها الرأسمالية سلعة تتحكم فيها أهواء الشركات الكبرى في الدعاية والإعلان إلى جانب استغلالها اقتصادياً في عملية الإنتاج بأجور منخفضة وعدم تأمين حقوقها الاجتماعية وبالتالي نجد القهر مزدوجاً على المرأة سواء من جانب الدولة التي تفرض قوانين اجتماعية واقتصادية متخلفة آو من جانب السيطرة الذكورية التي تفرض النمط الأبوي والاستبدادي في استغلال المرأة. ولن تتحقق الحرية الحقيقية لكل فئات المجتمع إلا عبر إقرار نظام اقتصادي تكون فيه السلطة والثروة للشعب ومن ينتج من العمال والفلاحين وبالتالي تحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية.
خامسا: تأتى أهمية دور المؤسسات الرقابية في أنها تراقب أداء السلطات التنفيذية وترصد الفساد المالي والإداري وتفرض رقابة الشعب على السلطات الحاكمة ولكن ليس من المعقول أبداً أن يعين رئيس الدولة وهو من السلطة التنفيذية رؤساء الهيئات والمؤسسات الرقابية. ولكن يأتي الدستور بما يتناقض مع هذا المبدأ في مخالفة صريحة ولكن هذا يكشف عن طبيعة النظام ومحاولته السيطرة على كل أجهزة المجتمع وتهربه من أي محاسبة أو رقابة وبالتالي تصبح عمليات الفساد وطبيعة التحالف الإخواني مع قواعد نظام مبارك التي تسعى للحفاظ على مصالحها وثرواتها المنهوبة من عرق الشعب بعيدا عن المحاكمة ونجد هذا في عدم ضم الصناديق الخاصة إلى الموازنة العامة وعدم تطهير مؤسسات الدولة من الرؤساء والمديرين الفاسدين من نظام مبارك وعدم أعادة هيكلة وتطهير الداخلية لأنها بوضعها الحالي من أكثر أجهزة النظام تشددا في تصفية وقمع الإضرابات والاحتجاجات الاجتماعية.
وفي الخاتمة نجد من خلال تحليلنا لمواد الدستور انه يعطى الشرعية لنظام الإخوان في ترسيخ سلطة الرأسمالية بقواعدها الاقتصادية والاجتماعية التي تكرس لسياسات الاستغلال ونهب منظم لثروات الشعب المصري وتصفية لما حققته الطبقة العاملة من انجازات خلال الموجة الأولى للثورة المصرية وفرض نظام اجتماعي متخلف وإقرار القوانين الرجعية التي تزيد من سيطرة الإسلام السياسي والتغطية على المطالب والاحتياجات الاجتماعية الحقيقية للشعب المصري ومحاولة فرض استقطاب علماني/ديني يكرس للمزيد من التفرقة الاجتماعية وتصفية للمعارضة السياسية باسم الدين وتشويه الحركات الثورية والتنظيمات المناهضة لحكم الإخوان بوجههم الرأسمالي القبيح واتهامهم بالكفر والعمالة ويتم كل ذلك في إطار شرعية زائفة للدستور وتحت حجج الحفاظ على الأمن القومي ودفع عجلة التنمية والحفاظ على الثقافة الوطنية وحماية التقاليد والأخلاق المصرية.