ثورتهم انتهت.. ثورتنا بالكاد تبدأ:
الدستور والانتخابات أم الشعب أولا؟

ما كاد رئيس المخابرات السابق اللواء عمر سليمان، الذي يعلم الله وحده أي دور يقوم به الآن، يعلن ان حسني مبارك قرر التنحي عن رئاسة الجمهورية، حتى قرر المجلس الأعلى للقوات المسلحة، بدون تفويض من أحد، أن الشعب قد استأمنه على الثورة والسلطة، وبدأت النخب السياسية في التنافس والتصارع على نصيبها منها. ولا نبالغ اذا قلنا ان هذا الصراع قد بدأ حتى قبل التنحي في لقاءات مع عمر سليمان بصفته في ذلك الحين نائبا للرئيس ثم مع وزاة شفيق في محاولة لحسم ثورة الشعب المصري بأقل قدر ممكن من الخسائر للطبقة الحاكمة قبل وأثناء وبعد 11 فبراير وبأقل تنازلات للجماهير الكادحة التي مثلت وقود الثورة ودفعت ثمنها حتى الآن مئات الشهداء وآلاف الجرحى والمعتقلين، لا من اجل ازاحة راس النظام بل من اجل اسقاط النظام كله.
نعتقد ان هذه هي النقطة الجوهرية التي تفسر هذا الاستقطاب الحاد الذي ظهر بوضوح مع الاستفتاء على التعديلات الدستورية وما تلاه. ورغم ان هذا الاستقطاب قد يبدو انه بين القوى الليبرالية والقوى الاسلامية، الا انه في واقع الامر استقطاب بين الجماهير والقوى المنحازة لها وبين القوى التي لا تعني لها الجماهير شيئا سوى كونها كتلة انتخابية أو أيدي عاملة رخيصة الثمن، بعد أن أنكرت على هذه الجماهير مطالبتها بحقوقها التي طالما ناضلت من أجلها حتى من قبل 25 يناير، فلم تتردد ان تصف الجماهير بالانانية والفئوية وضيق الصدر وعدم القدرة على الصبر.. استقطاب بين من يريدون استكمال الثورة وبين من يريدون اجهاضها.
بعد معركة الاستفتاء الذي نتج عنه اعلان دستوري تجاوز ما استفتي عليه المصريون، بحيث صدر على شاكلة دستور 71 مع الكثير من الصلاحيات الإضافية للمجلس العسكري الحاكم بالشرطة العسكرية والمحاكم العسكرية في تحالف وثيق مع الشرطة وسطوة النظام السابق.. تعيش البلاد الآن معركتين.. معركة دائرة فيما بين النخب وفي قاعات المؤتمرات حول الدستور أولا؟ أو الانتخابات أولا؟ يدعمها اعلام تحول لمعاداة الثورة بنفس السرعة التي تحول فيها الى مهاجمة مبارك بعد خلعه، إضافة الى دعم مالي وسياسي غير محدود من رجال الأعمال والإدارة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي.. ومعركة أخرى تدور في الشارع وأمام المصانع وفي الشركات، وتصر على استكمال مطالب الثورة وتحقيق الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الانسانية وتواجه في كل يوم بالقمع والاعتقال والتعذيب والأحكام العسكرية.. هذه المعركة الثانية.. معركة الجماهير المصرية الكادحة.. معركة الشباب الذي آمل في أن تحقق له الثورة حلم حياة كريمة في بلاده تعفيه من الوقوف في طوابير البطالة اللانهائية وعرض قوة عمله بأرخص الأسعار والمخاطرة بحياته في محاولات الهروب من القهر الاجتماعي والسياسي.. معركة العمال الذين بيعت شركاتهم ومصانعهم رخيصة لصالح حفنة من رجال الأعمال والمسئولين السياسيين اتضح ان فسادهم لا يعرف حدودا.. معركة الفلاحين الذين يتعرضون لهجمات الاقطاع العائد لنهب الأراضي وتشريدهم وتشريد أسرهم.. هذه المعركة هي معركتنا وقبل انتصارها لا مجال لحديث عن دستور أولا او انتخابات أولا.
المعركة الأولى تحتدم في القاعات المغلقة وفي المفاوضات مع المجلس العسكري.. أطرافها رجال الأعمال والقوى الليبرالية والاسلامية، جميعهم يسعون الى الحصول على أكبر نصيب من السلطة. "الانتخابات أولا" تتيح الفرصة للمؤسسات الأقوى للحصول على نصيب اكبر من السلطة، على حين يوفر "الدستور أولا" فرصة أكبر لليبراليين لتنظيم صفوفهم، لكن الطرفين مجتمعان على ضرورة "الاستقرار" السريع ودفع "عجلة الانتاج" لتصب الأموال في جيبوهم وحساباتهم في الخارج أو الداخل على السواء، وتأجيل المعركة حول المطالب الاجتماعية لصالح المعركة من أجل الديمقراطية في أَضيق حدودها ممثلة في الدستور والانتخابات.
المعركة الثانية تحتدم في الشارع والمصنع، وتواجه بقمع قانوني تمثل في التطبيق العنيف لقانون تجريم الاضرابات والاعتصامات وقمع عسكري متمثل في الشرطة العسكرية وقمع بوليسي بيد الداخلية مضافا اليه قمع تحالف رجال الأعمال مع الاتحاد الحكومي الأصفر مع حكومة عصام شرف التي لم يصدر عن أي وزير فيها، بما في ذلك الوزيرين المحسوبين على اليسار، أي إدانة لقمع الاضرابات التي انتزعها العمال قبل 25 يناير ليجرموا عليها بعد الثورة.
لو أردنا ديمقراطية حقيقية ما هي الخيارات أمامنا: الدستور أولا؟ أم الانتخابات أولا؟ هل نطالب بمد الفترة الانتقالية أم انتخابات تأتي بالإخوان المسلمين؟ وهل حقيقي أن الانتخابات أولا تعني انسحاب المجلس العسكري؟ هل نريد دولة مدنية يديرها المجلس العسكري؟ هي هذه هي الخيارات التي استشهد من أجلها أكثر من ألف شهيد لازال من قتلوهم أحرارا طلقاء يمارسون القمع ذاته والتعذيب ذاته ضد الثوار والفقراء؟
الديمقراطية التي نريد لا تمارس مرة واحدة كل خمس سنوات، ولا تنفصل عن الصراع الاجتماعي والمصالح الاقتصادية، ولا تتلخص في دستور وانتخابات؟ ان هذا التلخيص المبتذل للديمقراطية لا يتجاهل الجانب الاجتماعي للثورة فحسب بل يضلل الشعب فيما يتعلق بالجانب الديمقراطي منها أيضا، حيث لازالت أهم مؤسسات دولة مبارك، الداخلية والجيش، خارج نطاق المحاسبة. كما أن أصحاب هذه الرؤية للديمقراطية لم يترددوا في ضرب هذه الديمقراطية ذاتها ليواجهوا الحركة الاجتماعية لمصلحة رجال الأعمال وأصحاب النفوذ بإصدار قانون تجريم الاضرابات الذي لا يختلف علي طبيعته القمعية ولا حتى أعتى الليبراليين.
الديمقراطية التي نريد تعكس الصراع الاجتماعي الدائر ومصالح الطبقة العاملة وفقراء هذا البلد.. الديمقراطية التي نريد تنعكس في العدالة في توزيع الثورة والسلطة السياسية، وحق العمال في استخدام سلاح الإضراب وتأسيس نقاباتهم المستقلة وحزبهم السياسي. الديمقراطية التي نريد لا تحرم الطبقة العاملة من أدواتها السياسية بتجريم تأسيس الأحزاب على أساس طبقي..الديمقراطية التي نريد تعني استرداد الشركات المملوكة للشعب التي بيعت بأرخص الأثمان دون موافقة الشعب، ومجانية العلاج والتعليم اللذين تحولا الى سلع رغم معاناة الشعب وعلى الرغم من إرادته.. قد تبدو هذه المطالب اقتصادية، فلماذا مكانها هنا ونحن نتحدث عن الديقمراطية؟ لأن الاقتصاد الذي ينفي مصالح وحقوق الغالبية العظمى من الشعب لصالح ثراء نخبة محدودة من البشر لا يمكن أن يكون ديمقراطيا مهما كانت انتخاباته "نزيهة".
موقفنا من الدستور والانتخابات نلخصه في استكمال ثورتنا أولا.. دستورنا الذي نريد لن يضعه الفقهاء والخبراء وإنما يمليه النضال على الأرض ومصالح الطبقة العاملة والفلاحين والطلاب وصغار الموظفين والمهنيين.. الدستور الذي نريد هو انعكاس لنضال ومصالح الفقراء والكادحين.. ومثلما تجاهل الثوار القوانين العسكرية القمعية وعادوا الى الشارع لاستكمال ثورتهم سوف يتجاهلون كل المواثيق والدساتير والفرمانات التي لا تعكس مصالحهم وتضر بتضحايتهم عرض الحائط.. والى ان يستكمل الفقراء والكادحون ثورتهم تبقى المعركة حول الدستور والانتخابات معركة سياسية منعزلة تعبر عن مصالح القائمين على السلطة والمتنفذين في الأموال، سواء كانوا عسكر أو مدنيين، سواء كانوا ليبراليين أو اسلاميين.. هؤلاء استكملوا ثورتهم.. وثورتنا لا زالت في بدايتها