الدولة المصرية وكراهية الأجانب

إغلاق الشوارع المحيطة بمناطق العنف وإقامة نقاط تفتيش لتحديد من هم “غير المصريين” المشاركين، وإذا تم العثور على أي سوري أو فلسطيني، فيجب إعدامه. هذا ما اقترحه مصطفى الجندي عضو سابق في البرلمان على شاشة قناة ONTV لتحديد الأجانب وقتلهم! بينما يسخر المذيع يوسف الحسيني على نفس القناة من السوريين مطالبهم بالعودة إلى بلدهم. هذا مقتطف بسيط من كم هائل من الدعاية العنصرية الممنهجة في إعلامنا المصري اليوم.
سيل من التهديدات والتحريض على الأجانب نرى صداه في موت مواطن فرنسي في زنزانته إثر تعرضه لضرب مبرح على يد المساجين الآخرين، بعد أن تم احتجازه لخرقه حظر التجول في أقوال وأقوال أخرى لعدم صحة أوراقه. يأتي هذا في إطار الإعتداء على الصحفيين عموماً، والأجانب منهم خصوصا، واعتقال بعضهم والإعتداء الجسدي عليهم، وتهجير قسري للسوريين والفلسطنيين، وفي نفس الوقت إعتقال من يفرون هرباً من سوء معاملتهم هنا بعد إلغاء معاملة السوريين كالمصريين في المدارس والجامعات وتكرار الإعتداءات اللفظية وجسدية في بعض الأحيان عليهم.
الأخطر من الدعاية وإصدار الدولة قرارات تضطهد اللاجئين هو كم التأثر الشعبي بهذه الدعاية، فالاعتداءات اللفظية والجسدية على السوريين يقوم بها مواطنين مصريين يرون في كل أجنبي الآن جاسوس ومتآمر، فقد نجح الإعلام في بث الكراهية والتشكك في كل ما هو أجنبي بما فيها مسلسلات تركية احتلت شاشات التلفزيون لسنوات أو حتى “بطة جاسوسة” تحمل جهاز تتبع!
تاريخ كراهية الأجانب في مصر
منذ ما يقرب من 60 عاما، كان يعيش بيننا ما يقرب من 80 ألف يهودي لم يتبقَ منهم الآن ما يتجاوز المائة.
بالرغم من التغني الدائم بالوحدة الوطنية والتلاحم الشعبي في عهد عبد الناصر إلا أن فصيل بأكمله تم اقصاءه من المجتمع واضطهاده، والتهمة كانت بالطبع التجسس لإسرائيل، بالرغم من أن اليهود المصريين دائما ما اعتزوا بهويتهم المصرية، وكثير منهم رأى الصهيونية تتعارض مع الحس الوطني المصري.
ومع تصاعد الصراع بين مصر وإسرائيل، بدأت حملة حكومية شرسة على اليهود المصريين. وبالطبع كان الإخوان المسلمين أداة النظام التي نشرت وروجت لكل الأفكار العنصرية. لم تكن أساس قضية كراهية وإضطهاد اليهود ديني أو طائفي، بل كانت تعتمد بالأساس على استنكار جمع الهوية المصرية باليهودية وتعميم فكرة أن اليهودي هو بالفطرة صهيوني. جاءت فضيحة “لافون” واتهام مجموعة من الشباب اليهودي بالتجسس لحساب إسرائيل، ليصبح كل يهودي “مشروع جاسوس” يجب الحذر منه.
وكما أدى العدوان الثلاثي الإمبريالي في 1956 إلى احتدام الصراع بين مصر وإسرائيل وواكبه دعاية رسمية طائفية تجاه اليهود المصريين، جاءت اتفاقية السلام مع العدو الاسرائيلي في 1977 بدعاية عنصرية تجاه العرب عموما والفلسطنيين خصوصا. فبعد مقاطعة العديد من الدول العربية لمصر بسبب اتفاقية كامب ديفيد بدأت دولة السادات دعاية استنكار انتماء المصريين للعرب و”محدش بيحارب غيرنا” مستغلة معاناة الفقراء خلال سنوات الحرب وإحساس المصريين بالانتصار عقب حرب 1973. كما أطلق السادات حملات تخوين الفلسطينيين “الذين باعوا أراضيهم لليهود”، بل وحملات عدائية ضد أهل سيناء لاعتبارهم “أقرب للهوية العربية من المصرية” وبدأنا نسمع عن خيانتهم للمصريين في الحرب وكيف لم يمدوا يد العون لنا.
كانت هذه الدعاية ضرورية؛ أولاً لكسر حالة الحصار النفسي علي نظام السادات بعد مقاطعة الدول العربية للحكومة المصرية، وثانيا مرة أخرى لإبراز السادات في صورة “قائد الحرب والسلام” الذي يتحدى الجميع من أجل استقلال وسلام أبناء مصر. أخيرا، كان يجب أن يروج لفكرة خيانة وعدم انتماء السيناويين لنا لتبرير غياب أي خدمات عنهم، بل وعدم التواجد في الأرض التي حاربنا من أجلها.
أصبحت النعرة الوطنية يسهل استحضارها في أي موقف مهما بلغت تفاهته، فيكفي لمباراة كرة قدم أن تثير كم هائل من الدعاية العنصرية المنهجية مثلما حدث في مباراة مصر والجزائر المشئومة. ويبقى الأبشع على الإطلاق هو جريمة نظام مبارك ضد اللاجئين السودانيين في 30 ديسمبر 2005، حيث تم فض إعتصامهم بالقوة مما أسفر عن ما لا يقل عن 20 قتيل في وسط دعاية عنصرية بغيضة “إيه اللي جايبهم هنا ما يروحوا بلادهم”.
الدول الرأسمالية وتصدير الأزمة للمضطهدين
لا تعد عنصرية الدولة المصرية ظاهرة فريدة من نوعها، فقد اعتادت الدول الرأسمالية على إلقاء اللوم دائما على الطرف الأضعف في المجتمع من أجل إنكار فشل النظام وسياسات وتقليب المضطهدين ضد بعضهم البعض، فتارة تلوم الفقر على النساء العاملات اللاتي يسببن البطالة للرجال، وتارة أخرى تدين العمال الأجانب الذين “يسرقون” وظائف وقوت العمالة الوطنية.
نرى ذلك جليا في دولة مثل اليونان الآن والتي تنفذ فيها الحكومة اجراءات تقشفية رفعت نسبة البطالة إلى 28%. تلقي الدولة من خلال دعايتها المقززة كامل اللوم لهذه البطالة المتفشية على الأجانب، كما يستخدم الحزب الفاشي دعاية عنصرية بغيضة ليحصل على 18 مقعد في البرلمان اليوناني، وكلما ازدادت الأوضاع سوءا، كلما ازداد فشل الحكومات، كلما كثفت من نبرة الدعاية العنصرية وتعالت أصوات اليمين المتطرف بالدعوة إلى تهجير “هؤلاء الأغراب”.
الوضع في مصر ليس مطابق لدولة كاليونان؛ فحجم العمالة الأجنبية ليس كبير، ولكن ومؤخرا شهدنا تصاعد في إستخدام الدولة لورقة العنصرية. فمثلا، مع اشتداد أزمة الكهرباء أثناء حكم مرسي، لم نجد أصوات تطالب بإلغاء الدعم على المصانع ذات الاستخدام الثقيل للكهرباء ولكن وجدنا اصوات تصرخ “أصل غزة منورة بكهربتنا ومصر مضلمة!” ومنذ ذلك الحين تم تسليط الضوء على الأنفاق بين مصر سيناء والإدعاء أنها السبب الأساسي في أزمة البنزين والكهرباء، وأصبح كل فلسطيني “حرامي” يسرق من خيرات وطننا العزيز. ومع تصاعد نسبة اللاجئين السوريين في مصر الهاربين من جحيم النظام السوري، خرجت دعاية الفلول لتقول أن مرسي سمح بدخول اللاجئين السوريين لحشدهم لدعم الإخوان، وبهذا أصبح السوريين كلهم “إخوان” و”أعداء الوطن”.
وجاء 3 يوليو. ماذا يفعل السيسي أمام جماهير خرجت فأسقطت رئيس وسلطة حاكمة لثالث مرة في أقل من ثلاث سنوات؟ ماذا عن كم الثقة التي ملأت قلوب كل من شهد بعينيه الملايين تهتف متحدية تهديدات وترويع جماعة الإخوان؟ ماذا عن مطالبهم التي خرجوا وثاروا ضد نظام الإخوان من أجلها، كيف يمكن إسكاتهم عن هذه المطالب؟ الإجابة كانت في “حرب على الإرهاب” ودفاع مزيف عن استقلال وطني. تم استحضار كل الصور السابق ذكرها عن الفلسطنيين والسوريين لإيهام الجميع بمؤامرة كونية تحاك ضدنا يتصدى لها الزعيم السيسي.
النظام لا يحتاج فقط “شماعة” لتعليق كل أخطاءه وفشله عليها ولكنه يحتاج ايضا إلى إيهام الجميع بمعركة وحرب تخفت في خضمّها كل معارضة وحديث عن مطالب الثورة وحقوق الإنسان. الأهم من ذلك هو أن النظام يدرك خطورة وحدة الشعوب الثائرة والمضطهدة، وكما يفرق بين المضطهدين من شعبه بدعاية عنصرية وطائفية، يفرق أيضا بينهم بشيطنة شعوب هي الأخرى مضطهدة.
ﻷي وطن ننتمي نحن؟
وبالرغم من هذا العداء والحملة الإعلامية الواسعة ضد الأجانب، والسوريين والفلسطنيين خاصة، يؤكد وزير التجارة والصناعة منير فخري عبد النور على تيسير حصول المستثمرين السوريين على الموافقات الخاصة لإقامة استثماراتهم، بينما يؤكد رئيس تجمع المستثمرين السوريين على علاقات الود التي تجمع الشعب السوري بالشعب المصري مما يشجع على الاستثمار في مصر. في نفس الوقت تقريبا يتم احتجاز المئات من السوريين والفلسطينيين في ظروف غير آدمية بالرغم من وجود أطفال بين المحتجزين وترحيل بعضهم إلى دمشق حيث تم القبض عليهم والتحقيق معهم بشكل مكثف من قبل المخابرات السورية!
غريب هو هذا الوطن الذي يرى السوري الفقير عدوه ويرى المستثمر السوري صديقه!
إذا فوطن رأس المال هو وطن المستثمرين ورجال الأعمال وأصحاب النفوذ من كل الجنسيات، أما الفقير أيا كانت جنسيته فهو دائما عدو وأداة تحركها السلطة لتحقيق أهدافها.
ليس من الغريب أن نرى هذه الوحدة بين رأس المال، فطالما كان رأس المال متجاوزا أي حدود، فهو يدرك جيدا أهمية توحيد صفوفه أمام الطبقات المضطهدة والمستغلة من كل الجنسيات، ولكن ألا ندرك نحن المضطهدين أن الاضطهاد هو الآخر عابر للحدود وأن المستغل واحد مهما تعددت جنسيته؟!
يوم أسقط الشعب التونسي بن علي دبت الحياة في شعوب العالم أجمع، ويوم سقط الطاغية مبارك في مصر نادت البحرين وسوريا بمظاهرات على خطى الثورة المصرية وتحركت أمريكا وإسبانيا لاحتلال الميادين الكبرى رافعين لافتات “هنا التحرير”. كل مضطهد في العالم رأى صورة من اضطهاده ووجد في الشعوب الثائرة وحراكها أملا ملهما. الجماهير في حراكها واحد حتى وإن فصلت بينها حدود وتغيرت لغاتها، فالعدو واحد متحد.
* المقال منشور بالعدد 24 من مجلة أوراق اشتراكية – خريف 2013