بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

الديكتاتورية على الطريقة المصرية

ليس هناك توقيت أفضل من أيامنا الحالية لإلقاء نظرة نقدية، من وجهة نظر اشتراكية ثورية، على حالة الديمقراطية السياسية في مصر كما تراها مختلف القوى السياسية الفاعلة في الساحة. فبعد عدة أسابيع سوف يجري الاستفتاء (البيعة) على فترة الرئاسة الرابعة لمبارك ليصبح بذلك، إذا ظل في الحكم حتى نهاية الفترة الرابعة، أطول رؤساء أو ملوك أو سلاطين مصر عمرًا في الحكم في القرن العشرين. وبما أن الأسابيع التي تسبق البيعة دائمًا ما تكون مليئة بالتوقعات والأحلام والأوهام، فإنها ربما تمثل أفضل الأوقات لتقييم موقف المعارضة، المستأنسة والجذرية على السواء، من الديمقراطية.

في تقديري أن كل القوة السياسية المصرية – بما فيها اليسار الثوري – تعاني، بدرجات متفاوتة ومضامين مختلفة وأحيانًا متناقضة، من أزمات وعيوب في فهمها وإستراتيجياتها السياسية بصدد الديمقراطية. لا يمكن بالطبع أن تنكر أن اليسار الماركسي، خاصة جناحه الثوري، يتميز على كافة القوة المعارضة الأخرى بالرابطة الوثيقة التي يقيمها بين أزمة الديمقراطية (إمكانية حلها) وبين سلطة البرجوازية المصرية (وإمكانيات تحطيمها). ولكن لا يمكن أيضًا أن ننكر أن لهذا اليسار عيوبه ومشاكله. وهذه نقطة سنتناولها بالتفصيل لاحقًا في هذا المقال.

ويمكن أن نتناول أزمة النظر إلى الديمقراطية لدى القوى السياسية المصرية، من زاوية علاقتها بالتحليل السياسية والإستراتيجية السياسية لتلك القوى، من خلال إثارة سؤالين رئيسيين؛ أولاً حول علاقة الديمقراطية بالصراع الطبقي، وثانيًا حول علاقتها بالانفتاح الاقتصادي. وهذا أمر سنقوم به حالاً، ولكننا سنبدأ سريعة على المواقف الأساسية للقوى السياسية المختلفة من تطورات وآفاق الديمقراطية في مصر. تحتل مسألة الديمقراطية السياسية مكانة جوهرية في تحليلات وبرامج وإستراتيجيات كافة القوى السياسية المصرية. يظهر هذا من خلال جانبيين أساسيين. فمن ناحية أولى، نجد أن المثقفين والباحثين الليبراليين أو القوميين أو الإسلاميين أو الماركسيين كانوا – لا يزالون – منشغلين بمحاولة تفسير الماضي، أي تفسير حالة الانفتاح السياسية المحدود التي شاهدتها مصر بدءًا من منتصف السبعينات. وفي هذا الشأن، فأن التفسيرات الشائعة في “سوق الفكر السياسي” تتراوح بين التفسير “الليبرالي” الشهير الذي يتبناه ليبر اليوم مستقلون، سعيد النجار مثلاً، وأحزاب معارضة، كحزب الوفد، والذي يرى أن انفتاح اقتصادي (بمعنى سيطرة قوى السوق الحر) لابد وأن يصاحبه من المشروعات الخاصة. لابد أن يؤدي بالضرورة إلى توزيع السلطة السياسية وقيام أنظمة ديمقراطية ليبرالية” (كما يدعي سعيد النجار)، وبين التفسير التآمري الذي يتبناه عدد من القوانين وأنصار مدرسة التبعية، والذي يرجح التسامح الديمقراطي للسادات ومبارك إلي الضغوط الخارجية، أو التفسير القائم على مركزية دور الفرد الذي يعتبر أن هامش الحريات كان ولا يزال مجرد منحة من الحاكم، وأخيرًا التفسير الماركسي، بالمعني الفضفاض للكلمة، الذي يربط، بطريقة أو بأخرى، بين التطورات السياسية التي شاهدتها مصر في العقود الأخيرة وبين تطورات الصراع الطبقي والحركة الجماهيرية.

من ناحية ثانية، ينشغل قادوه ومنظرو قوى المعارضة بالمستقبل وأفاقة، أي بمكانه الديمقراطي في إستراتيجيتهم السياسية. هنا يمكننا أن نقيم تمييزًا أسياسيًا بين أنصار الإصلاح وأنصار الثورة. أنصار الإصلاح (كل الأحزاب الشرعية ومعها الأخوان المسلمون) يريدون الديمقراطية ولكنهم يكرهون الثورة. وبهذا المعني فهم متشبثون بما يمكن أن نطلق عليه، اتباعًا للينين، “الوهم الدستوري”، أي أمكانية تحقيق الديمقراطية من خلال أصلاح النظام لنفسه بنفسه بواسطة “فرمان عالي” لمبارك. ولذلك فقد ظلوا ثمانية عشر عامًا حتى اليوم، وسيظلون إلي حين تكنسهم رياح الثورة، ومتعلقين بأمل أن يستيقظوا ذات صباح جميل ليجدوا مبارك وقد أصدر فرمانه المنشود.

أما أنصار التغير بالثورة، فهم (فيما عدا الحركة الإسلامية المسلحة التي ترفض، بسبب رجعيتها، كل المطالب الديمقراطية) يتفقون أن الديمقراطية، حتى تتحقق، لابد وأن تمر عبر جسر الثورة. ولكنهم، مع أنهم ينتمون أسما لتراث فكري واحد هو التراث الماركسي، يختلفون في أشياء كثيرة أخرى أهمها، بالطبع، هو طبيعة الثورة المأمولة التي يمكنها أن تفتح الباب لتحقيق ديمقراطية حقيقية. وهذا اختلاف له آثاره الشديدة الأهمية، كما سنرى عند تناول علاقة اليسار الماركسي بالديمقراطية.

وحتى نقيم عيوب، وانحرافات، التحليل والإستراتيجية لدى القوى السياسية، دعونا نبدأ بالنظر، بالدرجة من التفصيل، إلى حقيقة ما حدث في مصر في العقود الثلاثة الماضية.

من الواضح أن هناك خلل كبير في كل التفسيرات المطروحة لفهم الانفتاح الديمقراطي الذي بدأ، في رأس الغالبية من المحللين، في أواسط السبعينات. فالتفسير الليبرالي مثلاً قد يشرح لجوء السادات للديمقراطية في 1975 (بعد عام واحد من إصدار قانون الانفتاح الشهير)، ولكنه بالقطع لا يشرح لماذا انقلب السادات على الديمقراطية بعامين (أو ثلاثة). وبنفس المعني، فالتفسير التآمري يبدو هشا إذا ما تذكرنا أن انقلاب السادات على الديمقراطية، جزئيًا على الأقل، أتي ليحمي تزايد دفء العلاقات بين مصر والولايات المتحدة في النصف الثاني من السبعينات. فمصر كانت في هذه الفترة تحاول بأي ثمن، لعب دور كلب حراسة مصالح الإمبريالية الأمريكية في المنقطة. وقد اندفع السادات لهذا السبب في مواجهة جبهة الرفض العربية، وفي إقامة صلح منفرد مع إسرائيل، وفي دعم أنظمة رجعية كالسعودية وإيران قبل الثورة الإسلامية. وبهذا المعني فإن انقلابه على الديمقراطية لم يبرد، كما قد يتوقع من يتبني التفسير التآمري، بل زاد من دفء العلاقة مع “الصديق الأمريكي” كما كان يحلو للسادات أن يسميه. أما عن تفسير الديمقراطية على أنها منحة من الحاكم، فهو من الهشاشة والتفاهة بحيث لا يستحق أي نظرة نقدية جادة، ألا لو اعتبرنا أن التاريخ هو عبارة عن مجموع نزوات أفراد مسيطرين!

وبالرغم من أن التفسير الماركسي الفضفاض، الذي يفسر ديمقراطي السادات المحدودة بالتصاعد في الحركة الجماهيرية، له وجاهته مقارنة بسطحية التفسيرات الأخرى، إلا أن صيغة الأكثر ميكانيكية تفتقر إلى أي إثبات جدي من الواقع. فقد حدث بدون شك تصاعد في الحركة الجماهيرية في أوائل السبعينات ثم في منتصفها وحتى 1977. ولكن هذا التصاعد، خاصة ذلك الذي حدث بعد حرب أكتوبر 1973، لم يصل إلى درجة تمثيل تحدي كبير للنظام من أسفل هز النظام هزًا وأجبره على تغيير جلده. ومقارنة بالتغيير الديمقراطي الذي تم في بعض دول أوربا الشرقية وفي جنوب أفريقيا مثلاً في أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات، وهو تغيير حدث بضغط هائل من أسفل، يبدو لنا بوضوح أكثر مدي محدودية الحركة الجماهيرية المصرية في أواسط السبعينات. ولذلك، فهناك درجة من العبثية تغلف التركيز الذي يصر عليه عدد من الماركسيين، المخلصين بدون شك، في أن حركة الجماهير، أساسًا، هي التي خلقت الديمقراطية الساداتية المحدودة. وهذه العبثة تصل إلى مداها عند البعض حينما يزورون التاريخ مختلفين حالة ثورية أو شبه ثورية في مصر قبيل 1977، ليفسروا بها، كذبًا، انعطافة السادات الديمقراطية.

أعتقد أن هناك حاجة لنظرة ماركسية أكثر جدلية وشمولاً لتفسير مسار ومصير الديمقراطية في مصر في الثلاثين عامًا الأخيرة. تبدأ هذه النظرة، في الحقيقة، من الاعتراف بأن الديمقراطية المقيدة في مصر بدأت، بدرجة كبيرة، كمبادرة من أعلى، ولكن ليس في صورة منحة من الحاكم، وإنما في صورة حل لأزمة سياسية (واقتصادية) مرت بها الطبقة الحاكمة المصرية بدءًا من النصف الثاني من الستينات.

فقد واجهت الطبقة الحاكمة، في ظل رأسمالية الدولة الناصرية، أزمة بدأت منذ حوالي منتصف الستينات في صورة تراجع اقتصادي واضح. رأسمالية الدولة، تحت قيادة عند الناصر، التي اختيرت كبديل لحل أزمة التنمية الرأسمالية، فشلت في تحقيق أهدافها. فبعد خمس سنوات فقط من تطبيق ما سمي (كذبًا) بالقرارات الاشتراكية – أي في عام 1966 – تراجع معدل النمو في الدخل المحلي من 6% في المتوسط في الأعوام بين 1961 و1965، إلى 5% في عام 1966، وهبط معدل الادخار المحلي إلى 13،7% مما أدى إلى حدوث عجز في ميزان المدفوعات، وهو ما أدي بدوره إلى انخفاض الإنتاج في مجموع القطاعات السلعية وإلى تناقص دخل الفرد. وفي العام التالي – 1967 – هبط الإنتاج مرة أخرى بمعدل 1.8% وتناقص دخل الفرد مقدار 5.7%. وفي نفس هذا العام وجهت الإمبريالية ضربتها القاصمة إلى نظام عبد الناصر، وهزم الجيش المصري هزيمة فادحة في مواجهة عسكرية خاطفة. وهكذا اكتملت جوانب الأزمة التي لفت الطبقة الحاكمة، والتي فتحت الباب في صفوفها للحوار والصراع، الخفي ثم المكشوف، حول البدائل المطروحة للخروج من المنعطف الصعب.

وبدون شك، فقد لعبت المظاهرات العمالية والطلابية، التي اندلعت في فبراير ونوفمبر 1968، دورًا كبيرًا في تأجيج أزمة النظام، لكنها لم تكن من القوة أو العنفوان بحيث تمثل بديل أو حتى تحدي كبير وحاسم. وعلى أية حال، فقد دفع التصدع الذي أصاب النظام، والضعف الذي أصاب قمته، عبد الناصر دفعًا إلى تخفيف القبضة السياسية العنيفة للسلطة وذلك بغرض احتواء خلافات الطبقة الحاكمة، ورغض تسهيل عملية التحول التدريجي إلى سياسة بديلة بعد أن فشلت سياسة رأسمالية الدولة على النمط الستاليني.

وقبيل صعود السادات إلى قمة النظام، بعد وفاة عبد الناصر، كانت كل هذه العوامل تعتمل بشكل واضح، وإن كان محكوم بفضل وجود الرجل القوي – عبد الناصر – في السلطة. ولكن وفاة عبد الناصر رفعت الغطاء عما كان مكتومًا. وبرزت التيارات إلى السطح: تيار السادات المناصر للتوجه ناحية السوق العالمي وناحية المعسكر الغربي، وتيار على صبري الميال إلى مواصلة الطرق القديمة للتنمية والتراكم وإن كان مع بعض التعديلات. وفي المعركة بين التيارين في السلطة استخدم السادات سلاح الديمقراطية لمواجهة خصومه. نلاحظ هنا أن الحركة الطلابية والعمالية، التي أزعجت السادات إزعاجا شديدًا معظم سنوات حكمه، لم تتصاعد إلا بعد إتمام ما أطلق عليه “ثورة التصحيح” في 15 مايو 1971، أي بعد أن اتخذ السادات أولي خطواته “الديمقراطية” (فتح المعتقلات، تصفية الحراسات… الخ). وهذا معناه أن السادات لم يواجه ضغوطًَا جماهيرية تجبره على الديمقراطية، وإنما كان مصدر لجوئه لها هو ضعفه إزاء خصومه في النخبة الحاكمة. وفي الحقيقة، فإن ما فعله السادات ليس مستغربًا أو غير عادي. فقد فعلته أجنحة من طبقات حاكمة مرات كثيرة قبل ذلك وبعد ذلك (أنظر مثلاً إلى جوررباتشوف في الاتحاد السوفييتي السابق أو إلى خاتمي في إيران).

والواقع أن لجوء السادات، بدرجة محدودة، إلى الاستقواء بالجماهير في مواجهة خصومه ولتحطيمهم عن طريق حشد تأييد جماهيري (محكوم بالطبع) في مواجهتهم، قد أدى إلى تشجيع ظهور حركة معارضة من أسفل تحاول دفع حدود الإصلاح السياسي الضيقة إلى أبعد مما يرغب النظام. فاندلعت الحركة الطلابية في 1971 و1972 في مواجهة السادات نفسه الذي نكث وعده بدخول حرب مع إسرائيل فيما سمي عام الحسم (عام 1971).

ومرة أخرى، فإن الخطوة الأكبر والأهم التي اتخذها السادات تجاه الديمقراطية بعد حرب 1973، الخطوة التي بدأت بورقة أكتوبر ثم فتح النقاش حول الاتحاد الاشتراكي ثم خلق المنابر الثلاثة في 1975 وأخيرًا الأحزاب في 1976، لم تكن، فيما هو واضح من سجل التاريخ، مدفوعة بضغوط قوية من أسفل. فالسمة المميزة لتلك السنوات كانت الإضرابات والمظاهرات “الاقتصادية” للعمال، سواء تلك التي ترفع مطالب اقتصادية عامة (مظاهرات باب اللوق، يناير 1975)، أو التي ترفع مطالب اقتصادية جزئية خاصة بمصنع وموقع عمل واحد (النصر للسيارات 197، النقل العام 1976). وهذه احتجاجات عمالية كانت، ولا شك، مؤثرة وقوية (قارنها مثلاً، من حيث الحجم والتأثير بإضرابات العمال في التسعينات)، ولكنها لم تهز النظام في عصب قوته ولم تخلق أزمة عويصة لدى الطبقة الحاكمة.

لتفسير انعطافه السادات الديمقراطية في منتصف السبعينات لابد من النظر مرة أخرى على احتياجات وتحولات الطبقة الحاكمة. كانت الطبقة الحاكمة قد سارت، كما ذكرنا، بدءًا من منتصف الستينات (خاصة بعد 1967) في تفكيك، و”تخفيف”، رأسمالية الدولة التي أثبتت فشلها. ففي أواخر الستينات أعطيت بعض الحريات للوحدات الاقتصادية العامة سمحت لمديريها، بعض الشيء بإتباع قوى السوق وما تمليه من قرارات (أيامها تحول، خفية، الشعار الناظم من “الاشتراكية” إلى “مجتمع الكفاية والعدل”). ولكن ظروف الإعداد للحرب، كل شيء للمعركة، لم تسمح بأكثر من تغييرات محدودة. فلاقتصاد الحرب سماته الخاصة ومن ضمنها ميل الدولة – الطبيعي – ناحية رأسمالية الدولة (لنتذكر أن اقتصاد الحرب هو ذاته واحد من صور رأسمالية الدولة). وهكذا فقد أجلت التغييرات الأكبر لما بعد الحرب. وهذا ما حدث فعلاً. فقد أعلن السادات، الذي عززت الحرب من قوته وشعبيته، في 1974 قراراته الانفتاحية الشهيرة. وبعد عام واحد من القرارات توصل السادات لنتيجة مفادها أن الانعطافة الانفتاحية في الاقتصاد، حتى تتحقق، تحتاج، مجددًا، إلى انفتاح ديمقراطي محدود، من ناحية لتحقيق التأييد الشعبي للتحولات، ومن ناحية أخرى لتحطيم المقاومة التي رأى الرئيس، عن حق، أنها تجد لنفسها شكلاً تنظيميًا في صيغة التنظيم الواحد، الاتحاد الاشتراكي. ولذا فتح، في عام 1974، الحوار حول الاتحاد الاشتراكي. وظهر من الحوار أن القوى المختلفة، مثلاً رجال النقابات والطلاب وبعض المهنيين، يرفعون لواء الرفض لحل الاتحاد الاشتراكي. وظهر من الحوار أن القوى المختلفة، مثلاً رجال النقابات والطلاب وبعض المهنيين، يرفعون لواء الرفض لحل الاتحاد الاشتراكي لأنهم رأوا في حله تحطيمًا “للسياسات الاشتراكية” لعبد الناصر. وهكذا خلق الحوار “جوا ديمقراطيًا” تجاوزت فيه بعض القوى حدودها التي رسمتها لها الطبقة الحاكمة. وأصبح هناك ميل للربط بين ديمقراطية السادات الشكلية وبين التحول إلى رأسمالية السوق الأكثر نهبًا واستغلالية. ولا يعني هذا أنه كان هناك، في أوساط الجماهير، رأيًا عامًا ضد الديمقراطية. لم تكن الديمقراطية هي هدف النقد، وإنما بالعكس، استغل الجو الديمقراطي للتعبير عن المعارضة للنظام وقراراته دفاعًا عن صيغة ديمقراطية، وأكثر جذرية، للاشتراكية. ولا يمنع ذلك من الاعتراف بأن الكثيرين من معارضي تحولات السادات كانوا يعبرون في الواقع، عن مصالحهم المباشرة كأعضاء في بيروقراطية كان “الزعيم الأوحد” يريد تفكيكها.

وهكذا، نشأت الأحزاب، وقبلها المنابر، بقرار من أعلى ابتغي تسهيل التحولات وإعطاءها شرعية. ولكن هذه التجربة لم تعش طويلاً. فقد شرع السادات في تقييدها ابتدءا من 1977، ثم انقلب ضدها، بشكل حاسم تقريبًا، في 1978 وما بعدها. فلماذا إذن غير السادات مساراته؟ لماذا ظهرت للديمقراطية أنياب حسب التعبير الشهير للسادات؟

الإجابة هي أن الانفتاح الديمقراطية المحدود لم يحقق للطبقة الحاكمة ما كان مرجوا منه. فبدلاً من أن تؤدي الحريات السياسية، المقيدة بدون شك، إلى تعبئة الجماهير وراء التغيران الاقتصادية المطلوبة بإلحاح، أدت إلى توسيع نطاق المعارضة الشعبية – والحزبية – للنظام وسياساته. وكانت نقطة الذروة في هذه المعارضة هي انتفاضة 18 و19 يناير 1977 حين خرج العمال والطلاب وفقراء المدن ليعلنوا رفضهم للقرارات الاقتصادية برفع الأسعار، والتي أعلنها رئيس الوزراء آنذاك عبد المنعم القيسوني. منذ ذلك الحين أدرك السادات أن السحر انقلب على الساحر. ولآن المظاهرات في يناير 1977 اندلعت لبرهة قصيرة، ولم تكن من القوة أو التنظيم بحيث تجبر النظام على توسيع النطاق الديمقراطية، فقد استغل السادات – رأس هذا النظام – تراجعها السريع، وتشويشها، وعدم وجود قوة سياسية توحدها وتدفعها للأمام، استغل السادات هذا كله لضرب الديمقراطية التي عبأت الجماهير ضده بدلاً من تعبئتها لمصلحة سياساته (يمكننا اليوم إجراء مقارنة، مع الفارق الكبير بالطبع، بين ما فعله السادات بعد 1977 وميل خاتمي الآن للوقف ضد حركة الطلاب. على أن مصير الأمور في إيران لا يبدو واضحًا إلى الآن).

وهكذا أصدر السادات عقب انتفاضة يناير القانون رقم 2 لسنة 1977 لمواجهة ما بدر من حوادث الشغب والعدوان على المال العام. ثم في فبراير أصدر القانون 33 لحماية الوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي، والقانون رقم 40 لتنظيم الأحزاب السياسية. وتلك كلها قوانين قمعية استهدفت تقليص الهامش الديمقراطي بعد أن اختار النظام مواجهة أزمته بالقمع. وبعد 1977 واصل السادات سياساته القمعية، خاصة بعد بروز المعارضة للصلح المنفرد مع إسرائيل. ونلاحظ هنا أن نجاح قمعية السادات لم يكن محتومًا، بل سهلته حالة التراجع في الصراع الطبقي بعد انتفاضة يناير، وإصلاحية وترنح وهامشية المعارضة بفصائلها المختلفة (جمد حزبًا التجمع والوفد تحت التأسيس نشاطهما في 1978، وفقدت المعارضة الأكثر جذرية – الشيوعيين – اتزانها وفعاليتها).

الديمقراطية وتراكم رأس المال:

هل يؤدي ما أكدناه من أن الطبقة الحاكمة لجأت إلى شكل مقيد من الديمقراطية لتمرير سياسات الانفتاح إلى الإقرار بصحة الصيغة الليبرالية التي تقول بأن أي انفتاح اقتصادي لابد وأن يصاحبه انفتاح سياسي؟ هناك، في الحقيقة، مفارقة مربوطة بالإجابة على هذا السؤال. ويمكن طرح هذه المفارقة على النحو الآتي: كما يمكن للبعض أن “ينظر” لضرورة الديمقراطية كملازم لليبرالية الاقتصادية، يمكن أيضًا للبعض الآخر، وهذا بالفعل ما تطرحه مجلة “الشرارة” كثيرًا على صفحاتها، أن يدافع عن صيغة معكوسة قوامها أن الطبقة الحاكمة تحتاج للديكتاتورية والقمع حتى تطبق سياساتها المعادية للجماهير وإلا فلت الزمام.

حل التناقض بين الصيغتين، وهو تناقض يستمد وجوده – في الجانب الأكبر – من تناقضات الواقع، يحتاج منا إلى التخلص من النظرة الميكانيكية الجامدة لتطورات الصراع الطبقي. لنأخذ مثلاً من الحالة الكورية. لولا ديكتاتورية الجنرال بارك في الستينات، لما استطاعت البرجوازية الكورية أن تحقق الانطلاقة الاقتصادية التي طالما تغني بها، حتى وقت قريب، أنصار رأسمالية السوق. ذلك أن رأسمالية صغيرة ناشئة تحتاج، في عالم يسوده حيتان رأس المال الكبار، إلى فرض نظام قاسي صارم على الطبقة العاملة لاستنزاف عملها وجهدها بأكثر الطرق وحشية من أجل تحقيق “التراكم البدائي المطلوب لرأس المال”، وتحتاج إلى تقييد تنافس الرأسمالية المحليين بغرض توجيه كل الطاقات والموارد، بشكل متناغم، ناحية الخروج من عنق زجاجة التنمية. وهكذا ارتضى الرأسماليون الكوريون الديكتاتورية، حتى ضد أنفسهم، لتحقيق هدف التراكم. ولكن مع تطور الرأسمالية، تفقد الطرق القديمة للتراكم صلاحيتها. إذ يؤدي كبر حجم وزيادة قوة وثقة الرأسماليين إلى مطالبتهم الدولة بدور أكبر في تحديد وإقرار السياسات (يذكر الاقتصادي الاشتراكي الثوري السابق نايجل هاريس أنه في الثمانينات أصبح من الأصعب على ديكتاتوريات جنوب شرق آسيا أن تهيمن وتسيطر على الرأسماليين المحليين الذين بدءوا، بعد تكوين رأسماليات قوية، يضيقون ذرعًا بالديكتاتورية السافرة). يؤدي استغلال العمال. ففي مرحلة التراكم الأولى قد تكون لأساليب القهر والقمع، إذا لم يقاومها العمال، آثارها الإيجابية من وجة نظر رأس المال. ولكن مع الخروج من هذه المرحلة والدخول في مرحلة التنافس عن طريق رفع إنتاجية العمال (الذين لا يعودون، الآن، فلاحين مساقين لتوهم من الريف، وإنما أبناء مدينة متعلمين) ليس بأسلوب القمع، وإنما بأسلوب رفع مهارتهم ومبادرتهم؛ نقول أن الدخول في هذه المرحلة الجديدة يفرض أسلوبًا جديدًا للتعامل مع العمال، أسلوب يقوم على درجة أعلى من الحوار تستبدل العصا الغليظة (اللهم إلا، بالطبع، في حالات الخطر التي تهدد النظام).

إذن فالعلاقة بين الديمقراطية والرأسمالية وحيدة الجانب، وهي تخضع لتقلبات تمليها مرحلة التراكم، وإستراتيجيات الطبقة الحاكمة، وتطورات الصراع الطبقي، وبما أننا لا نكتب مقالاً نظريًا عن الديمقراطية (البرجوازية) وعلاقتها برأس المال، فلن نشغل أنفسنا بتمحيص الجوانب المختلفة لتلك العلاقة، وسنركز على وقائع ما جرى في مصر.

ربما كانت مصر واحد من النماذج الناصعة على الطبيعة المتناقضة للرأسمالية في علاقتها بالديمقراطية. فلا يمكننا أن نفهم الدوافع المختلفة التي أدت بمبارك إلى الإبقاء على بقايا من الهامش الديمقراطي الذي ورثه عن السادات، ونفهم في نفس الوقت سياساته الديكتاتورية الوحشية والمقيتة وبطشه بكل القوى والتحركات المعارضة، بدون أن نربط هذين الوجهين لمبارك – الديكتاتور الذي يرفض، حتى الآن، إغلاق الصحف المعارضة والأحزاب تمامًا – بوضعية الرأسمالية المصرية وإستراتيجياتها، وبحالة الصراع الطبقي في مصر. وفي هذا المقال، تبدو نظرية أن مبارك يبقي على شكل ديمقراطي محدود كمحض ديكور، أو لإرضاء أمريكا، هشة وغير مقبولة كتفسير “شامل” لما يحدث.

فعندما وصل مبارك للسلطة كان يحتاج هو الآخر، كالسادات، إلى تثبيت أقدامه. وبصفته الرمز السياسي الجديد للطبقة الحاكمة، فإن المعارضة التي واجهها لم تكن أساسًا نابعة من جناح آخر في تلك الطبقة أو من حركة جماهيرية واسعة (كان السادات قد حطم هاتين المعارضتين بلا هوادة قبل وبعد 1977)، وإنما كانت نابعة من الحركة الإسلامية المسلحة التي اغتالت السادات وحاولت، فاشلة، قلب النظام. وقد استطاع مبارك، في المرحلة الأولي من بداية حكمه، أن يحشد القوى السياسية الإصلاحية (العلمانيين، والمتدينين المعتدلين) ضد “الإرهاب الإسلامي”. وهكذا، ففي الوقت الذي كان فيه اليساريون يكيلون المد والثناء لمبارك “الديمقراطي”، كان النظام يحول المعتقلات إلى مسالخ حقيقية للمعارضين الإسلاميين.

لم يكن شعار “الاستقرار والتنمية” الذي رفعه مبارك نابعًا من الصدفة، ولم يكن اختيارا فرديًا، وإنما كان تعبيرًا دقيقًا عن احتياجات الرأسمالية المصرية في إستراتيجيتها الجديدة. فحتى تخرج من عنق الزجاجة، وحتى تدفع التراكم للأمام، كان على الرأسمالية أن تجذب رؤوس الأموال الأجنبية، وإن تجد المناخ الملائم للاستثمار من قبل الرأسماليين المحليين. وفي مواجهة مغامرات السادات ونزواته، وتقلبات الحركة الجماهيرية، كانت الرأسمالية تحتاج إلى قيادة سياسية من نوع جديد، قيادة تضع الاستقرار في موقع القلب من مهامهًا. وهكذا أصبح شخص تافه معدوم الخبرة السياسية والموهبة، هو البديل، الذي ساقته الصدفة وحدها، ليدير التوازنات بالطريقة التي تحتاجها البرجوازية عند منعطف بداية الثمانينات. ففي النصف الأول من الثمانينات، تواصلت معدلات النمو العالية التي شهدها النصف الثاني من السبعينات. ولكن الفارق بين النصف الثاني من السبعينات والنصف الأول من الثمانينات كان، باختصار، إن معدلات التراكم الصناعي عاودت صعودها إلى حد ما، ليس لتصبح هي أساس النمو العالي – ظل النفط والتحويلات وقناة السويس هي مصادر الدخل الرئيسية – وإنما لتعكس تزايد ثقة الرأسماليين في الوضع السياسي والاقتصادي.

كل هذا تم بفضل استقرار – اقرأ قمعية – نظام مبارك السياسي الذي نجح في تدجين المعارضة الإصلاحية، وفي وأد كل مقومة. ولكن مبارك، بالرغم من ذلك، لم يقض على الهامش الديمقراطي تمامًا. فقد ظلت الأحزاب موجودة، بل زادت أعدادها (ظهر حزبًا الوفد، والناصري، وأحزاب أخرى كثيرة إلى الساحة)، وظلت الصحف (مع تقييدات متصاعدة) تنتقد الحكومة وسياساتها. فلماذا حافظ مبارك على هامش رفيع من الديمقراطية بالرغم من إظهاره التبرم من سخافة المعارضين ومزايدات الصحف من حين لآخر؟ السبب يمكن، في تقديري، في احتياج الرأسمالية المصرية لدرجة من الديمقراطية لكي تعمل بكفاءة. لا أنفي أن حاجة النظام، في علاقاته الدولية، لإضفاء هالة من الديمقراطية على نفسه، وإن اعتماد مبارك على سمعة أنه ديمقراطي، قد يبررًا إلى حد ما هذه الظاهرة. لكن السبب الرئيس يكمن، كما قلت، في منطقة أخرى، وهي احتياجات رأس المال. ذلك أن الرأسمالية المصرية قد بدأت انعطافتها ناحية سياسات السوق الحر متأخرة، مثلاً عن كوريا بعلي الأقل خمسة عشر عامًا. وهي أعوام حاسمة تغيرت فيها بيئة الاقتصاد الرأسمالي العالمي بطريقة تصعب، وإن لم تلغ بالطبع، السيطرة الشاملة للدولة على المتغيرات الاقتصادية. ومن ناحية أخرى، فالرأسمالية المصرية تتوجه ناحية السوق الحر، على خلاف كوريا أيضًا، على أساس تفكيك أرث قطاع عام واسع أنشأه عبد الناصر في الخمسينات والستينات. كل هذا يعني أن هناك حاجة لدى الرأسمالية لإعطاء مساحة من الحرية في اتخاذ القرار للوحدات الاقتصادية المختلفة (في القطاعين العام والخاص)، ولإعطاء دور للرأسماليين، يتزايد مع كبر شأنهم وحجمهم، في صنع القرار الاقتصادي (والسياسي أحيانًا، حيث أن هذا الأخيرة يتشابك ويتداخل مع القرار الاقتصادي).

وهكذا يبرز لنا أساس التناقض في صميم إستراتيجية وطبيعة الرأسمالية المصرية. فمن ناحية هناك حاجة، من وجهة نظر الطبقة الحاكمة، لدرجة من الحرية يتمتع بها الرأسماليون ليشاركوا في صنع القرار ويشعروا بالاطمئنان أن السياسات لن تتغير فجأة وأن وضعهم مصان ضد مغامرات حكم لا تقيده مؤسسات أو قوانين. ومن ناحية أخرى، هناك حاجة، من وجهة نظر نفس الطبقة، لقمع الجماهير للمرور من المنعطف الصعب الذي يتطلب الإفقار والتشريد والطرد والاستغلال المشدد. وبين النقيضين يوفق نظام مبارك على أساس توازن دقيق يعطي قدر من الحرية لرأس المال، ويسلبها من الجماهير لمصلحة رأس المال. وهذا ما يظهر في أفعال النظام وأقواله. فاليد الباطشة لجهاز القمع الإسلامية، وهامش الحرية الصحافة والحركة السياسية والنقابية يضيق، ولكن مساحة ما – هامش – تظل متروكة لينفذ منها الرأسماليون وأتباعهم.

على مدى ثمانية عشر عامًا، ظل نظام مبارك الاستبدادي يلعب على التوازن الدقيق بين المتناقضات. وكان الثمن الذي دفعه النظام هو خلق “خرابة” سياسية ينعق فيها البوم والغربان. فاليوم، حتى الكتاب البرجوازيون ذووا النزعات المحافظة يشعرون بالقلق والتوجس من الوضع الذي وصل إليه البنيان السياسي الحزبي في مصر. لقد أدى تدجين المعارضة، وقمع الحركة الجماهيرية، على خلفية حالة الجزر في الصراع الطبقي، إلى وجود فراغ سياسي قاتل يخيف حتى الرأسماليين الذين يحتقرون مبارك سرًا ولكنهم، مع ذلك، يشعرون تجاهه بالامتنان لما فعله من أجلهم. إفلاس القوى السياسية كلها، وفقدانها للصلة، من أي نوع، بالجماهير، يخيف الرأسماليين، لأنه يعني أن الأبنية الوسيطة بين الطبقة الحاكمة (البرجوازية) والجماهير، تل كالأبنية التي تحتوي وتهيمن وتدجن خاصة في ظروف تصاعد حركة الجماهير، مفقودة. وفقدان هذه الأبنية يعين، بدوره، أن المستقبل سيكون محفوفًا بالمخاطر. وإلى جانب هذا، هناك حاجة لتوسيع دورهم (أو دور ممثليهم) في صناعة القرار. ولعل هذا هو السبب وراء الحديث عن “حزب المستقبل” كبديل يحي الموات السياسي، ويعطي الفرصة للرأسماليين للتعبير عن أنفسهم بشكل أفضل. ولكن، حتى اليوم، الرأسماليون يقبلون، ويطلبون استمرار، الخط العام لسياسة مبارك، “القمع للجماهير، بعض الحرية للرأسماليين”، لأنها في الواقع، لا تزال تلعب دورًا هامًا في حماية ودعم التراكم.

العامل الغائب في المعادلة هو النضال الجماهيري. ولقد تحدثنا كثيرًا في هذه المجلة، الشرارة، حول حالة الجزر وطبيعتها وأسبابها. فلم يكن في مقدور مبارك وزبانيته أن يفرضوا سياساتهم لولا تراجع مستوى الحركة الجماهيرية. هذا التراجع الذي تشعر أيضًا بأن السياسة هي شأن بعيد لا علاقة لهم به. ولكن، هذا أمر لن يستمر إلى الأبد، لأن توازنات الرأسمالية هشة ورهانها على مواصلة النمو محفوف بالعثرات وعوامل الفشل. ولعل أمثلة حالات كإندونيسيا تعطي صورة، من عدة صور، لما يمكن أن تصل إليه ديكتاتورية مبارك حين تحين ساعتها.

اليسار الماركسي والديمقراطي:

عند منعطف نهاية القرن العشرين يبرز السؤال حول كيفية إنهاء الركود في السياسة المصرية، وحول مستقبل الديمقراطية المقيدة والمحدودة (الديكتاتورية الوحشية المرصعة ببعض الحريات الهامشية). وبالطبع فإن رجال الحكم، والدوائر المرتبطة بهم، لا يرون المسألة وإلا من وجهة نظر الاحتفاظ بالسلطة، وبثقة الرأسمالية. أما المعارضة الإصلاحية فهي، كما ذكرنا، منغمسة إلى أذنيها في “الوهم الدستوري” الذي يعكس جذورها وطبيعتها البرجوازية (أو البرجوازية الصغيرة). ومن ناحية أخرى، فإن المعارضة الإسلامية المسلحة، المهدودة والمفككة، تتخبط في تيه سياسي وفكري غير واضح المعالم، ولا تعترف، تاريخيًا، بالحقوق الديمقراطية للجماهير.

أما اليسار الماركسي، فهو يربط، بطريقة أو بأخرى، بين الديمقراطية وبين الثورة. بالنسبة لهذا اليسار، لا يمكن تحقيق ديمقراطية، عميقة الجذور ومتوسعة، إلا بالثورة. وينقسم اليسار الماركسي، سياسيًا وفكريًا، إلى تيارين رئيسيين أحدهما يميني والآخر يساري. وللتسهيل سنطلق على القسم الأول اليسار الستاليني (الحزب الشيوعي، وربما حزب الشعب الاشتراكي). وعلى القسم الثاني اليسار الثوري (حزب العمال، مجموعة الاشتراكيين الثوريين، مجموعة الشرارة).

وجه الخلاف بين الستالينين والثوريين يدور، في مسألة الديمقراطية، حول نوع الثورة التي يرى كل فريق أن المجتمع المصري، وقواه الإنتاجية والطبقية، مهينين له. الستالينيون يدافعون عن الثورة “الوطنية الديمقراطية”، وهي ثورة يقودها تحالف طبقي وطني واسع يضم العمال والفلاحين والبرجوازية الوطنية والمثقفين الوطنيين، وتهدف إلى تحطيم سلطة طبقي وطني واسع يضم العمال والفلاحين والبرجوازية الوطنية والمثقفين الوطنيين، وتهدف إلى تحطيم سلطة البرجوازية الطفيلية (جناح البرجوازية ذو المصلحة فيما يطلق عليه التنمية التابعة والخضوع للغرب، ويسمى الجناح الكمبرادوري)، وإلى إقامة سلطة وطنية ديمقراطية تحقق تنمية مستقلة وديمقراطية سياسية، وذلك من دون المساس بلب علاقات الاستغلال الرأسمالي حتى لا يصاب حليف أساسي، هو البرجوازية الوطنية، بالفزع ويخرج من الحلف. أما الثوريون فيدافعون عن ثورة عمالية على غرار الثورة الروسية عام 1917، وهي ثورة تقودها الطبقة العاملة التي تجر وراءها الفلاحين الفقراء وكافة المستغلين والمضطهدين في المجتمع، وتهدف إلى تحطيم سلطة البرجوازية (بدون تمييز بين جناح وطني وآخر طفيلي)، وإلى إقامة سلطة عمالية، سلطة المجالس المنتخبة مباشرة من القواعد العمالية، وهي السلطة التي ستنهي علاقة الاستغلال الرأسمالي وتسعى إلى انتصار الثورة العالمية وتحقق ديمقراطية أرفع مستوى وأرقى من الديمقراطية البرجوازية، هي الديمقراطية العمالية القائمة لا على البرلمان وإنما على المجالس العمالية (السوفييتات).

إذن يمكننا تلخيص الفارق بين الستالينيين والثوريين على النحو الآتي: بينما يقول الستالينيون أن الثورة الممكنة، بسبب طبيعة المجتمع المصري، هي ثورة برجوازية وطنية تستبدل حكم برجوازي بحكم برجوازي من نوع آخر يقوم على الديمقراطية السياسية (البرجوازية بالطبع)، وعلى درجة أعلى من العدل والاستقلال، فإن الثوريين يرون أن الثورة الاشتراكية ممكنة وضرورية، وإنها هي التي على جدول أعمال المجتمع المصري (وكل المجتمعات). وبالطبع، فإننا في مجلة الشرارة نرى أن موقف التيار الاشتراكي الثوري هو الصحيح، وإن الموقف الآخر – الستاليني – ليس فقط انتهازي وإنما أيضًا وهمي (في ظل تطورات الرأسمالية المحلية والعالمية).

ولكن بالرغم من صحة وجذرية موقف اليسار الثوري، فإن استتباعاته لدى الثوريين، فيما يتعلق بالديمقراطية، تحتاج إلى تمحيص. فلقد درج اليسار الثوري المصري، ربما انطلاقًا من تأويل شكلي لتراث تروتسكي ونظريته حول “الثورة الدائمة”، على اعتبار أن الديمقراطية البرجوازية غير ممكنة في مصر بأي صورة من الصور. وتسير حجة اليسار الثوري على النحو التالي: حكم البرجوازية المصرية مفلس وغير قادر، لأسباب جوهرية، على تحمل نهائيًا حتى يتحقق أي شكل من الديمقراطية، وهذا معناه بوضوح أن الديمقراطية في مصر ستكون في حالة تحقيقها، ديمقراطية عمالية.

وبالطبع فإن منطق اليسار الثوري له جانب من القوة، وهو الجانب الذي يتعلق بنقد وفضح اليسار الستاليني الذي يعشق ديمقراطية البرجوازية إلى الحد الذي يجعله يعتبرها هدف الثورة الأسمى. ولكن جانب ضعف هذا المنطق هو الخلط بين إمكانية وضرورة الثورة الاشتراكية، وبين عدم إمكانية الديمقراطية البرجوازية. وهذا ضعف يظهر من مراجعة حالات تاريخية عديدة منها، مثلاً جنوب أفريقيا، الأرجنتين،.. الخ فما هي دول عالم ثلاثية تحول فيها الحكم من الديكتاتورية إلى الديمقراطية البرجوازية، أي حدث فيها ما يتصور الثوريون المصريون أنه غير ممكن.

وفي تقديري أن هذه المسألة، مسألة إمكانيات الديمقراطية البرجوازية في مصر كما يراها الثوريون، شديدة الأهمية، وذلك لأن موقفهم المتسم بالميكانيكية سيجعلهم عرضة ليس فقط لمفاجآت غير سعيدة، وإنما أيضا لأخطاء فادحة (أخطاء عدم القدرة على تقدير قوة وخطر الإصلاحية). ففي الحقيقة، سوف تميل البرجوازية المصرية إلى التحول إلى الديمقراطية البرجوازية المكتملة الملامح، في أي لحظة ثورية مقبلة، وذلك بالضبط لدرء خطر تجذير الثورة ولاحتواء حركة الجماهير (أنظر مثلاً إلى حالة إندونيسيا، وكيف سارت الأمور في الشهور الأخيرة). أي أن الديمقراطية البرجوازية ممكن أن تأتي في مصر كوسيلة لوأد ثورة مشتعلة، أو لإجهاض ثورة وشيكة، أو حتى، كما في حالات معينة، لحسم صراعات طبقية مؤثرة. وإذا لم يدرك الثوريون هذه الحقيقة، فإن قدرتهم على فهم وتوقع مسار الأحداث، ومكامن الخطر، سوف تصاب بالعطف. أما إذا أدركوها فإن نضالهم من أجل الثورة الاشتراكية، ضد الستالينية والإصلاحية، سيكتسب قوة إضافية مستمدة من التماسك حول إستراتيجية الثورة، ومن الفهم لإمكانات الثورة المضادة.

إن موقف مجلة، أو مجموعة “الشرارة” من ديكتاتورية مبارك يقوم، في الحقيقة على إدراك خطر الإصلاحية. فنحن تحدثنا مرات ومرات عن أن هدف إسقاط مبارك هو هدف أساسي لكل ثوري. ولكننا دائمًا ما نربط ما بين إسقاط مبارك، مع إبقاء سلطة رأس المال) هدف كافي؛ وثانيًا في مواجهة اليسار الطفولي الذي يرى أن إسقاط مبارك يساوي، أوتوماتيكيًا، إسقاط سلطة رأس المال، ولا يفهم أن نظام رأس المال يمكن أن يضحي بمبارك وحاشيته، ويمكن أن يستبدلهما بديمقراطية برجوازية، للحفاظ على استمراره.

إن المستقبل ملئ بالإمكانيات الثورية. والمعركة الصعبة للثوريين اليوم هي التماسك، السياسي والتنظيمي، حول إستراتيجية ومواقف وأساليب عمل ثورية صحيحة، تختبر يومًا بعد يوم من خلال النضال. وذلك، كما يفهم الجميع، أمر شاق وطويل. ولكن أهميته تطرح نفسها دائمًا بصيغ متعددة. وفي مسألة الديمقراطية، كما في غيرها، يختبر الثوريون مبادئهم ويطبقوها لينخرطوا في المعركة من أجل الديمقراطية بروح اشتراكية وثورية.