الحقيقة والوهم حول حرب أكتوبر 1973
قليلة هي المحاولات لفهم حرب أكتوبر 1973 فهما طبقيا. فلو قمت بالتقليب في الكتابات العربية حول الحرب ومغزاها لوجدت أن الرومانسية الوطنية، وأحيانا الشعوذة الصريحة، تمثلان القاسم المشترك بين معظمها. ليس هذا مستغربا. فالحروب، كالثورات تماما، كثيرا ما يتم قتل مغزاها بالضبط من خلال طرحها كأساطير شعبية غير قابلة للتكرار في زمن عزّت فيه المعجزات!
ناصر والإمبريالية
لا يمكن فهم الأساس الطبقي الحقيقي لحرب أكتوبر إلا بالعودة إلى زمن الناصرية. فبالرغم من أنه صحيحا القول أن الساداتية تمثل تحولا في الاستراتيجية السياسية للطبقة الحاكمة التي أفرزتها سلطة 23 يوليو 1952، إلا أنه من الضروري أيضا التأكيد على أن الاستراتيجية الجديدة التي تبناها السادات لم يكن مصدرها خيانة أو سوء طوية فرد، وإنما المعضلات التي واجهتها السلطة الناصرية في مجابهتها للإمبريالية.
لا شك أن نظام عبد الناصر كان معاديا للإمبريالية. فالبرجوازيون الصغار (أبناء الموظفين والتجار والفلاحين المتوسطين والصغار) الذين كوّنوا تنظيم الضباط الأحرار ثم استولوا على السلطة في 23 يوليو عام 52، كانوا بالتأكيد يحملون نفس المشاعر التي يحملها عموم أبناء الطبقة الوسطى المصرية في منتصف القرن الماضي. بل أنه ربما يمكننا القول أن هؤلاء الضباط الصغار كانوا ممتلئين بمشاعر معاداة الإمبريالية والاستعمار بشكل مكثف أكثر من أبناء جيلهم.
لكن نظام عبد الناصر كان يحمل تناقضا جوهريا. البرجوازيون الصغار القادمون من صفوف الجيش الذين قفزوا على السلطة واستولوا على جهاز الدولة في 52 كانوا يكرهون الرأسمالية الكبيرة وكبار الملاك والسراي والاستعمار، كما كانوا أيضا يحتقرون الأحزاب المدنية بفسادها وفشلها الذريع في حل المسألة الوطنية. هذا صحيح تماما. لكنهم أيضا، وفي موازاة ذلك، كانوا يحملون شكا عميقا في الجماهير وخوفا أصيلا من السقوط إلى صفوف المعدمين. فالبرجوازي الصغير ممزق بين طبقتين: يمقت من فوقه، ويحتقر من تحته! وهو لذلك يتأرجح في مواقفه بين كراهيته وشكه، بين من يمقته ومن يحتقره.
الطبيعة الطبقية لنظام ناصر هي المفسر الحقيقي لسياسته إزاء الإمبريالية والصهيونية. عبد الناصر كان مستعدا لإتخاذ مواقف جريئة في مواجهة الاستعمار (تأميم القناة على سبيل المثال)، وكان مستعدا لمناطحة إسرائيل ومناوشة أمريكا ولدعم الثورات التحررية العربية والإفريقية، لكنه لم يكن مستعدا لتحرير الجماهير وتعبئتها لخوض الحرب ضد الإمبريالية حتى النهاية. لذلك، فقد انتهى به الحال مهزوما هزيمة نكراء سببها الرئيسي ليس قوة العدو أو فساد الجيش، وإنما الحدود السياسية ـ الطبقية لنظامه ذاته.
حتى نفهم لماذا كان محتما أن ينهزم عبد الناصر علينا أن نسأل أنفسنا سؤالا واحدا: لماذا انهزم هو بينما انتصر الفيتناميون والجزائريون؟ لماذا انهزم هو بينما نرى الفلسطينيين اليوم يلحقون بإسرائيل أكبر خسائر بشرية منيت بها في تاريخها؟ الإجابة هي أن هؤلاء وأولئك خاضوا حروبهم كحركات تحرر وطني ذات جذور شعبية تعد جماهيرها بالخبز والحرية، ومن ثم اتخذت أساليبهم العسكرية شكل حرب التحرير الشعبية. أما عبد الناصر فقد اختار، بكل التصميم وحتى النهاية، خيار الحرب النظامية.
الحروب النظامية التقليدية لا تجدي في مواجهة الإمبريالية. الحرب النظامية التقليدية تفترض قدرا ما من التساوي في القوة بين الجيشين المتحاربين. وهذا أمر غير مطروح بالطبع في أي مواجهة بين الشعوب الصغيرة والدول الإمبريالية الكبرى. فلو قررت دولة صغرى خوض المواجهة، أو لو فُرضت عليها المواجهة، ثم فشلت في تحويلها إلى حرب تحرير شعبية، لكان مصيرها هو الفشل المحتم.
هنا يلتقي الطبقي والعسكري. خيار حروب التحرير الشعبية ليس خيارا عسكريا. الأمر هنا ليس مجرد تقنية عسكرية أو أسلوب قتالي. الأمر يتعلق بالطبيعة الطبقية للنظام السياسي. الجيوش التقليدية بنظامها الهرمي القائم على تكثيف القهر وعلى سحق أي إرادة حرة للجنود (وهم في نهاية المطاف العمال والفلاحون في الزي العسكري) تلك الجيوش التقليدية هي انعكاس مركّز للطبيعة الطبقية للمجتمع بأسره. لا يمكن للسلطة السياسية خلق جيش شعبي في مجتمع قائم على القهر الطبقي. هذا تناقض ليس في مقدور الطبقة الحاكمة احتماله، ولو للحظة.
من هنا فإن نظام عبد الناصر وقع في التناقض الذي لا حل له: إما أن يندفع يسارا أو أن يندفع يمينا؛ إما أن يندفع في عملية تفكيك نظام القهر والاستغلال في المجتمع بأسره حتى يستطيع خوض حربه ضد الإمبريالية والصهيونية حتى النهاية، أو أن يلعب لعبة التوازن الدولي لعله يتمكن من قهر الإمبريالية بالمقامرة على دعم “الصديق السوفيتي”. ونحن نعلم بالضبط ما الذي اختاره ناصر ونظامه وماذا كانت نتيجته المنطقية.
خيارات السادات
السادات هو الابن الشرعي لتناقضات الناصرية بعدما استفحلت وانسدت الطرق لحلها. كانت هزيمة 1967 المدوية قد تكفلت بتوضيح حدود المشروع الناصري فيما يتعلق بالمواجهة مع إسرائيل والإمبريالية. وفيما طرح كثيرون، ومن بينهم الشيوعيون للأسف، أن الأزمة حلها يكمن فقط في ترميم وتطهير النظام الناصري وإعطاؤه صبغة شعبية وتقدمية (التنظيم الطليعي)، كان هناك تيارا جديدا يتشكل بقوة من داخل السلطة يطرح أن المأزق أكبر من ذلك بكثير، وحله في دخول لعبة التوازنات الدولية، ولكن هذه المرة بالطريقة الصحيحة: التحالف مع الولايات المتحدة التي تملك 99% من أوراق اللعبة!
لا يمكن أبدا فهم قرار خوض الحرب في أكتوبر 1973 خارج هذا السياق. فمع استيلاء السادات على السلطة وبروزه كممثل للتيار اليميني داخل السلطة، أصبحت هناك معضلة: كيف يمكن تحويل المسارات وعقد التحالف مع الإمبريالية؟
هنا كانت لدى الطبقة الحاكمة المصرية عقبتان لابد من مواجهتهما: رفض الجماهير وممانعة الإمبريالية. نتذكر أنه بعد هزيمة 1967 عادت الحركة الجماهيرية إلى الصعود مجددا بدءا من فبراير 1968. العمال والطلاب خاضوا في السنوات من 68 وحتى 73 نضالات باهرة كان جوهرها هو المطالبة بالاشتراكية الحقيقية وبالديمقراطية وبخوض المواجهة مع الإمبريالية. صحيح أن الرؤية الاستراتيجية للحركة الجماهيرية الصاعدة آنذاك كانت محدودة بحدود مزيج من الستالينية والناصرية الراديكالية، إلا أن من غير المشكوك فيه أن الحركة كانت تمثل ضغطا هائلا على النظام. والدليل أن السادات أنفق معظم عامي 72 و73 في محاولة لتبرير مواقفه بعدم خوض الحرب (وهل يمكن لأحد أن ينسى مهازل “عام الحسم” و”عام الضباب”).
من ناحية أخرى، كانت هناك الولايات المتحدة. يشرح لطفي الخولي في كتابه “مدرسة السادات السياسية” كيف أن السادات كان مقتنعا بأن حرب 67 أوصلت الولايات المتحدة إلى الاستنتاج بضرورة الاعتماد على إسرائيل وحدها فقط دون غيرها. حرب 67، هكذا كانت رؤية السادات، دللت على أن الخطر المصري كان محض وهم، ودللت أيضا على أن إسرائيل قادرة على سحق أي تهديد. ومن ثم استخلصت الإدارة الأمريكية أن إسرائيل ليست فقط الحليف الأول، وإنما أيضا الحليف الأوحد. هذه هي المعضلة التي كان يواجهها السادات: كيف يمكن تغيير رأي الولايات المتحدة؟
حرب أكتوبر مثلت ـ من وجهة نظر الطبقة الحاكمة المصرية ـ الحل المثالي لهاتين المعضلتين. “الحرب سوف تسحب البساط من تحت الحركة الجماهيرية ومن تحت نقاد النظام، بل وسوف ترفع أسهم السلطة الساداتية وتعطيها شرعية كاملة. من ناحية أخرى، الحرب سوف تهز قناعات الولايات المتحدة لأنها ستعطي الدليل على أن المارد الإسرائيلي يمكن ـ على الأقل ـ مناوشته!” ـ هكذا كانت رؤية رجال الحكم لمنطق الحرب المقبلة.
من هنا كان المضمون السياسي ـ الطبقي للحرب. حرب أكتوبر لم تمثل إحياء أو تعميق أو تجذير للمواجهة مع الإمبريالية. على العكس من ذلك تماما. قرار الحرب كان جزءا من استراتيجية حل عقدة التحالف مع الإمبريالية وعقد صفقة من الصهيونية. الشعارات التي رفعها النظام وقتها كانت ذات معزى أكيد. فعندما قال النظام أن حرب أكتوبر هي آخر الحروب لم يكن يهزل. وعندما كان الحديث يدور حول حرب تحريك للقضية وليس حرب تحرير للأرض، كان هذا بمثابة إعلان للنوايا الحقيقية.
وبالضبط كان هذا ما حدث. فبعد أسابيع ثلاثة لا أكثر تم قبول الهدنة وبدأت المفاوضات. ثم حدث ما نعرفه جميعا من خطب ود الأمريكان والصداقة مع كسينجر وفورد وكارتر وزيارة القدس وتوقيع معاهدة السلام. وأصبحت مصر قلعة من قلاع الإمبريالية في منطقة الشرق الأوسط. وها هي الطبقة الحاكمة المصرية قد وصلت اليوم بهزالها إلى وضع تحاول فيه خطب ود الإمبريالية فلا تجد أذنا صاغية.
الإمبريالية والثورة
حرب أكتوبر عمرها أكثر من واحد وثلاثين عاما. لكن ربما لا نكون مزايدين إن قلنا أنها تعطينا درسا بليغا لا ينبغي أبدا نسيانه. الدرس الرئيسي لنا اليوم من قصة حرب أكتوبر هو أن الطبقات الثورية هي وحدها القادرة على خوض المواجهة مع الإمبريالية حتى النهاية. حتى أكثر الأنظمة السياسية كراهية للإمبريالية لا يمكنها خوض المواجهة حتى النصر إلا إذا بدأت في تصفية القهر الطبقي داخل المجتمع حتى تتمكن من تعميق الحرب وجعلها حربا شعبية حقيقية. هذا هو الاختبار. وهو اختبار لم ـ ولن ـ تصمد فيه إلا الطبقة الثورية حتى النهاية: الطبقة العاملة متحالفة مع الفلاحين الفقراء وكل المضطهدين في المجتمع.