بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

الجدار العازل

في فلسطين المحتلة يوجد جدار عازل تم تدشينه ليخدم أغراض الدولة الصهيونية العنصرية الغاصبة. أما في مصر والمحتلة من قبل العصابة الحاكمة فيوجد أيضا جدار عازل، لكنه جدار من نوع آخر!

إنه جدار الديكتاتورية الحاكمة. جدار الاستبداد والقمع وحالة الطوارئ الدائمة. تستطيع أن تشاهد الجدار بوضوح: عند نزول مئات المتظاهرين إلى الشارع يتم نصب الجدار العازل حولهم بالآلاف من جنود الأمن المركزي، وخلف الجنود مئات من المخبرين والضباط لتشتيت وتخويف المارة بالشوارع المحيطة.

جدار عازل يقام دائما بين أي احتجاج وبين جماهير الشعب: حينما يضرب العمال داخل المصانع يفرض الجدار حصاره حول مصانعهم. حينما يتظاهر الطلاب يلتف الجدار كالأفعى حول أسوار الجامعات. حملات الشرطة التي تشن على الأسواق والباعة الجائلين لا تكون بهدف فرض الإتاوات على الباعة فقط، بل لإفساح المجال أمام الجدار الفاصل كي يقول: نحن هنا. إهانات المواطنين وتعذيبهم في أقسام الشرطة سياسة متعمدة ومنهج محدد لتذكير المواطنين دائما ببيت الرعب للنظام الحاكم.

سجن المعارضين وتروعيهم داخل السجون، وتعمد القبض عليهم بأعداد ضخمة من الجنود المدججين بالسلاح ليس الهدف منه إتمام عملية القبض فقط، بل لزرع الخوف في نفوس الجيران والأهل والأصدقاء.

الجدار هدفه وأد أي تضامن من أي نوع بين أي حركة احتجاج، كبرت أم صغرت، وبين جماهير الشعب. جدار يتم تشيده بإحكام. وإذا كان الاستبداد والقمع وإرهاب الدولة هو الطبقة الأولى من الجدار العازل،  فإن الجوع والإنهاك الدائم للمواطن من أجل لقمة العيش هو طبقته الثانية.

مصر ليست بلدا فقيرا، مصر بلد يمتلك ثروات هائلة. والتجويع سياسة متعمدة، فهناك المليارات تهدر من ثروة هذا الشعب. المليارات التي تنفق سنويا على جيوش الأمن المركزي وأجهزة المخابرات كان من الممكن أن تلجم حالة الجوع  والبطالة بين الناس. لكن الجدار لا يمكن بناؤه إلا بتقوية العصا التي تلهب الظهور إلى جوار الجوع لتمزيق البطون.

ينبغي أن يعيش المواطن منهكا من أجل الحصول على رزقه، وينبغي عليه أن يرى في كل لحظة راية القمع عالية ترفرف في السماء حتى يكتمل الجدار.

يقول أحد المعارضين الشرفاء: “إن مواسير المجاري تنفجر في كل مكان من أرض مصر، ولن ينفجر الشعب المصري يوما رغم كل ما يعانيه من فقر وذل وحرمان واستبداد”.

ثم يضيف ما معناه: “الشعب يعاني في حياته بشكل يومي ولا يثور ولا ينفجر. وأنا كفرد لا أعاني من أي ظلم وأستطيع أن أشتري جميع السلع مهما ارتفع ثمنها، ورغم ذلك فأنا أقاوم وأعارض هذا النظام”!

“إن من يده في الماء ليس كمن يده في النار” تلك هي الحقيقة. إذا تصورنا حالة أب لأربعة أبناء وزوجة، يلهث بشكل يومي من أجل توفير الرزق لأسرته، يدخل منذ الصباح في معارك متواصلة سواء في المواصلات ذهابا وإيابا، ومع طابور العيش فجرا، ومع صلف وتعنت رؤسائه في العمل، ومع مرتب ينفذ في أحسن الأحوال في منتصف الشهر، ومع البحث عن عمل فوق عمل، ومع فواتير الكهرباء.. إلخ.

وفي نفس الوقت يشاهد جيوش الأمن المركزي وثكناته العسكرية متمترسة في الميادين العامة بشكل شبه يومي، ويقرأ في الصحف عن التعذيب في أقسام الشرطة، ويسمع عن هول ما يحدث في المعتقلات، ويمر أمام كمائن الشرطة التي انتشرت في العديد من الأماكن، ويعلم أن أتفه ضابط أو أمين شرطة يمكن أن يجره إلى القسم بقانون الاشتباه، وفي القسم ما أسهل تلفيق القضايا!

ماذا يفعل هذا المواطن؟ إنه ليس صحفيا مشهورا، إذا أعتقل أو حوكم سيقف معه محامون وصحفيون ومثقفون ومبدعون للدفاع عنه. أنه مواطن أعزل يجري من أجل كوم من اللحم البشري. يعلم المواطن جيدا أنه لو تحرك بمفرده سوف يكون مفعولا به وليس فاعلا.

على مدخل كل محافظة معسكر كبير أو معسكرين لقوات الأمن المركزي، يتدرب جنودها كل صباح ومساء. التدريبات ليست تدريبات لياقة بدنية، إنما هي تدريبات حول فن محاصرة وفص الاحتجاجات.

تجربة إخلاء ميدان التحرير وتفريغه من المواطنين والسيارات التي تحدث مع بداية كل دورة برلمانية وخطاب الرئيس، هي تجربة لإثبات القدرة والسيطرة أمام عشرات الآلاف من المواطنين بأكبر ميادين العاصمة.

كل هذا يسير جنبا إلى جنب مع عملية خلق مواطن منهك في سبيل البحث عن لقمة عيشه. هذا هو الجدار العازل الذي يتم تدشينه كل يوم في بر مصر.

متى يتحطم الجدار؟ ومن يحطمه؟ وكيف؟ أم أنه جدار أبدي؟ الجدار يتحطم حينما تتخطى حركات الاحتجاج أعداد المئات والآلاف وعشرات الآلاف. الجدار يتحطم حينما تكون حركات الاحتجاج بالملايين وموحدة.

العمال وحدهم لا يستطيعون تحطيم الجدار، وكذلك الطلاب والفلاحون.

الإضراب العام والعصيان المدني الشامل الذي يضم جميع المقهورين والمضطهدين من عمال وطلاب وفلاحين وموظفين ومهمشين وسكان الأحياء الشعبية وسكان القبور والعشش الصفيح هو الوحيد القادر على اقتلاع الجدار العازل.

تضامن الجميع في وقت واحد، ووحدة الحركة الاحتجاجية هو السبيل الوحيد لمنع التفاف الحية حول كل حركة احتجاج وإخمادها.

الثورة تصنعها ملايين الجماهير ولا تصنعها تجمعات القوى السياسية والنخب الثقافية.

يقول البعض: “الثورة حلم لن يتحقق أبدا. فنحن شعب خانع، يخضع للكرباج دائما. ستثور جميع الشعوب إلا الشعب المصري. أنظر إلى كل هذا الذل والطغيان ولا أحد يتحرك”!!!

وعلى الضفة الأخرى من النهر، وعكس تلك النظرة الدونية للشعب والجماهير تجد أيضا من يتحدثون عن مصر والشعب المصري نظرة شوفينينة مثل:

“وقف الخلق جميعا ينظرون كيف أبني طلائع المجد وحدي”

“وأنا إن قدر الإله مماتي لا ترى الشرق يرفع الرأس بعدي”

“والمصريين اهمه..حيوية وعزم وهمة”

لا ينبغي أن ننظر لجماهير شعبنا نظرة دونية واحتقار لأننا ننتمي إلى تلك الجماهير.

ولا ينبغي أن ننظر لأنفسنا بصفتنا شعب خارق وفوق العادة. نحن شعب مثل كل الشعوب، نتراجع حينما يشتد الطغيان، ونتقدم حينما يكون ميزان القوى لصالحنا. جميع الشعوب تتراجع أحيانا وتتقدم أحيانا أخرى.لا يوجد شعب يثور كل يوم وكل شهر ولا حتى كل سنة. الثورة نتاج ظروف موضوعية تختمر داخل المجتمع. طوال الثلاثين أو الأربعين سنة الماضية لم تنقطع مقاومة الجماهير، ويمكن التدليل على ذلك بالعديد من الطرق سواء برصد الاحتجاجات العمالية والفلاحية والطلابية وغيرها من الاحتجاجات طوال هذه الفترة، أو بتقدير عدد المعتقلين الذين مروا على السجون المصرية طوال الـ26 عاما الماضية، والذي لن يقل عن مليون مواطن بأي حال من الأحوال. لكن ما يعيب هذه المقاومة إنها لم تكن مقاومة موحدة ومنظمة. كان كل قطاع يحتج بمفرده، وكان كل قطاع لا يحتج بأكمله.

تسير حركة كل احتجاج في قناة منعزلة وبحيرات منفصلة ولا تتجمع في abg واحد لتحطيم الجدار. حينما تثور المحلة لا تسمع صوت لحلوان. وعندما يحتج الفلاحون لا يجدون العمال والطلاب بجانبهم. كل كتلة تنكفئ على نفسها وهمومها، مع أن الهم واحد لدى الجميع.

المسألة ليست مسألة شعب جبان يخاف الكرباج. المسألة مسألة احتجاجات متفرقة تفتقد إلى الوحدة والتنظيم والنضال المشترك.

وإذا كانت الطبقة الأولى في خرسانة الجدار العازل هي القمع والاستبداد. والطبقة الثانية هي سياسة التجويع والإنهاك الدائم للمواطن من أجل لقمة العيش. فإن الطبقة الثالثة في الجدار هي تحطيم أو تفريغ أي أدوات للتنظيم والتجميع والتعبئة الجماهيرية. الأحزاب ديكورات مفرغة، والعمال بلا نقابات أو بنقابات عامة أشبه بأقسام الشرطة، والفلاح,ن بلا اتحادات أو روابط، والطلاب باتحادات معينة من قبل أمن الدولة، والنقابات المهنية يتم تفريغها باستئناس النقيب ومجلسه أو بفرض الحراسة، ومنظمات المجتمع المدني بوتيكات لحقوق الإنسان، وصحافة المعارضة مهما علا صوتها فإنهاك المواطنين وراء لقمة العيش سيجعل الكثيرين منهم غير قادرين على شرائها، والعمل السري تمرست أجهزة القمع في محاصرته.

ولكن رغم كل ذلك، فالجماهير تقاوم وبمفردها. إضراب عمال المحلة الأخير لمدة أربعة أيام متواصلة وبأعداد تجاوزت (27 ألف عامل) خطوة على الطريق. تشكيل اتحادات طلاب موازية خارج اتحاد أمن الدولة خطوة .  طرح أفكار عن بناء عمالي مستقل والعمل على تحرير النقابات المهنية وتشكيل نقابات بديلة خطوة أخرى.

لكن الجدار لن يتحطم إلا بتوحيد الحركة وتوحيد الاحتجاجات في مسار الإضراب العام الشامل أو ما يسميه البعض بالعصيان المدني.

شروخ موضوعية في أساسات هذا الجدار بدأت في الظهور:

أولها: سياسة إنهاك المواطن وراء لقمة العيش بدأت بحكم الأزمة الاقتصادية التي تتنامى يوما بعد يوم، وبحكم الفساد العاتي والنهب المنظم لثروات البلد، هذه السياسة بدأت تضع ظهر الجماهير إلى الحائط. وعندما يحدث هذا  فإنها ستندفع نحو الانفجار الشعبي القادم.

ثانيها: الجدار العازل أصبح مسخر بشدة لخدمة عصابة حاكمة وشريحة ضيقة من الطبقة الحاكمة لا تملك أية قاعدة اجتماعية، وهذا شرخ آخر في الأساس، ف سوف يتصدع الجدار مع أول إزاحة لعناصر العصابة الحاكمة.

ثالثهما: الجنوح المتزايد لحركات الاحتجاج والمعارضة في تنظيم نفسها خارج الأطر الرسمية للنظام.

يطرح البعض أيضا:

“أنه إذا نزل إلى ميدان رئيسي بالعاصمة خمسون ألفا من القوى والنخب السياسية، واستمر احتجاجهم ضد العصابة الحاكمة لأربعة أيام متواصلة، فإن هذا النظام سيسقط وبالطبع يتفكك الجدار العازل”.

وجهة النظر هذه تنحاز إلى أنه يمكن إزاحة نظام مبارك من خلال العصيان السياسي للقوى السياسية بدون انتفاضة للجماهير الشعبية!!!

بالطبع إن نزول خمسين أو مائة ألف من المعارضين إلى الشارع ضد النظام الحاكم يعتبر خطوة كبرى وهامة ينبغي أن يسعى إليها الجميع. ولكن خطوة مثل هذه غير كافية لإسقاط النظام وإزالة الجدار العازل. لقد حدث ذلك بالفعل على فترات متعاقبة في تاريخ الحركة الاحتجاجية بالشارع المصري ولم يسقط النظام:

– حدث بالفعل في صيف يوليو 1976 حينما شل إضراب عمال النقل العام مدينة القاهرة بأكملها لمدة أكثر من يومين، وكان يشترك فيه عشرات الآلاف من العمال.

– حدث بالفعل في مارس 1975 حينما انتفضت مدينة المحلة بأكملها،عمالا وسكانا، بعشرات الآلاف ولمدة 3 أيام متواصلة جاذبة معها المناطق الريفية المحيطة بالمحلة.

– حدث بالفعل في عام 1994 حينما انتفضت مدينة كفر الدوار بأكملها، عمالا وسكانا، بعشرات الآلاف وطوال خمسة أيام متصلة.

– حدث بالفعل عام 1986 حينما انتفض جنود الأمن المركزي (600 ألف جندي وقتئذ).

– حدث بالفعل عام 2003 حين كان هناك عشرات الآلاف يوم 21 مارس في مظاهرات متخمة بوسط القاهرة.

– حدث بالفعل في أكتوبر 1997 حينما انتفض عشرات الآلاف من الفلاحين في الغالبية العظمة من محافظات الجمهورية ضد قانون الإيجارات الزراعية (قانون رقم 96 لسنة 92) والخاص بطرد الفلاحين المستأجرين من الأرض.

مصر ليست جورجيا أو أوكرانيا يمكن لنزول مائة ألف معارض إلى الشارع أن يسقطوا ديكتاتورية عاتية. نحن بلد تحكمه رأسمالية عتيدة الخبرة في مجال القمع ووقف التحركات الجماهيرية.

لن تترنح ديكتاتوريتنا المجرمة ويهدم جدارها العازل إلا تحت أقدام ملايين الجماهير التي تنزل إلى الشارع في وقت واحد في حالة إضراب عام شامل يستمر شهور وليس عدة أيام.

لقد نزلت الجماهير بالملايين إلى الشارع في 18 و 19 يناير 1977 لمدة يومين، واستطاعت في الساعات الأولى من الانتفاضة أن تكنس قوات الأمن المركزي وفرق الكاراتيه. لكن بعد ذلك تمت مواجهتها بالجيش الذي استطاع الجيش هزيمتها، لأن الانتفاضة لم تتحول من حالة التظاهر إلى حالة الإضراب العام لانعدام التنظيم الجماهيري بين الملايين الثائرة. رصاص الجيش لن يستطيع أن يقهر ويشتت المتظاهرين، أما الدبابات والمدرعات ذاتها فهي لا تستطيع أن تفك الإضراب العام الشامل الذي ينتشر في ساحات المصانع وأبنية المؤسسات الحكومية ودواوين العمل والجامعات.

ملايين الجماهير هي التي تصنع الانتفاضة، والإضراب العام هو سلاح الانتصار.

الانتفاضة لا تنتصر بالمظاهرات. المظاهرات قد تكون الشرارة الأولى التي تفجر الانتفاضة.

الانتفاضة لا تصنعها قوى سياسية في حالة عصيان سياسي موحد. الانتفاضة تصنعها ملايين الجماهير.

مظاهرات القوى السياسية، أو ما يسمى بحركة التغيير، تساعد على كسر حاجز الخوف وكسر حالة الركود وتنشيط الحياة السياسية العامة، لكنها لا يمكن أن تصنع ثورة.

الاشتراكيون، أو القوميون، أو الإسلاميون .. لن يقوم أي فصيل منهم بالثورة في مصر. ملايين الجماهير هي التي تصنع الثورة في مصر وفي أي بلد في العالم، الانتفاضة والإضراب العام للجماهير هما طريق التغيير الحقيقي.

إن من يتتبع تطور الحركة الاحتجاجية في الشارع المصري خلال شهر ديسمبر 2006منذ إضراب عمال المحلة الكبرى (في الثامن من هذا الشهر) وما تلاه من احتجاجات لخريجي كلية البريد بجامعة حلوان، وعمال قطاع الغزل بالإسكندرية، وسكان جبل المفروزة بحي القباري بالإسكندرية، واعتصام شركة أسمنت حلوان، واعتصام شركة طره الأسمنت بحلوان، وإضراب ورش الفرز بالسكة الحديدية بالشرابية، وإضراب العاملون بالترسانة النهرية بأرمنت بمحافظة قنا. من يتابع هذه الاحتجاجات  يعرف أن كل الاحتجاجات المذكورة أعلاه التي وقعت خلال النصف الأخير من شهر ديسمبر يدرك جيدا أن ميلادا جديدا للحركة الإضرابية العفوية يبدأ في مصر، وأن تصاعد هذه الاحتجاجات وحده هو الذي سيحطم الجدار العازل، وأن هذه الموجة من الاحتجاجات هي المقدمة الطبيعية نحو الانتفاضة الشعبية القادمة.