الإخوان المسلمون: هل تستمر الوسطية؟
لا يكاد يمر يوم دون أن تنشر وسائل الإعلام خبرًا أو تحليلًا حول جماعة الإخوان المسلمين. المجتمع كله يتابع، يوما بيوم، الصراعات الداخلية للتنظيم، والتطورات الدورية لهجمات أجهزة الأمن عليه، ومواقف مختلف القوى السياسية منه. ورغم ذلك، فإن ما يشعر به المهتم هو أن التدفق الهائل للمعلومات لا يساعد كثيرا في فهم حاضر ومستقبل الإخوان. فالمعلومات الكثيرة يقابلها فهم محدود.
أمران رئيسيان يقفان، في رأيي، عقبة في وجه فهم “حالة الإخوان” على الوجه الأكمل: أولا عدم وضع الإخوان المسلمين بمواقفهم ورؤاهم في الإطار الأشمل للصراع السياسي والطبقي؛ وثانيا عدم النظر إلى البعد الاجتماعي-الطبقي، وليس فقط السياسي الظاهري، عند تحليل تيارات الجماعة الداخلية. وفيما يلي سأحاول أن أتناول النقطتين في محاولة لفتح النقاش حول المواقف المتوقعة من أهم جماعة مصرية معارضة في مرحلة التوريث التي نعيشها اليوم.
الإخوان والصراع الطبقي
كانت القوى السياسية المصرية المعارضة قد شهدت ربيعا قصيرا خلال عام 2005. يمكن للمراقب أن يتأكد الآن أن جزءا هاما من خلفيات هذا “الربيع” يعود إلى تفاعل الظروف الإقليمية والدولية مع السياق الداخلي. فبعد إسقاط صدام حسين ثم التقاطه من حفرة، وفي سياق الانتعاش المؤقت لمشروع المحافظين الجدد في الولايات المتحدة لتغيير الأنظمة المتكلسة في الشرق الأوسط، بوصفها السبب الرئيسي لعدم الاستقرار، بدأ القلق يدب في قلوب حكامنا.
لوهلة بدا أن الجامح جورج بوش قد يقوم بتشجيع قوى معارضة ليبرالية في بلدان المنطقة على إزاحة أنظمة الحكم، التي رأى أنها لا تحظى بأي شعبية، وأنها غير قادرة على كبح المعارضة الإسلامية، بالذات جناحها المسلح ممثلا في القاعدة.
في مصر، وجدت ضغوط بوش أرضًا خصبة للتفاعل. فهي كشفت عن اتساع مساحة التناقضات بين نظام الحكم والإمبريالية العالمية، وهو ما يعني فقدان النظام لأهم سند اعتمد عليه للاستمرار.
التقطت مختلف قوى المعارضة الإشارة. وعلى حسب الطبيعة السياسية-الطبقية للقوة المعنية كان رد الفعل. هناك من رأى أن الخلاف بين الأعداء – أي بين النظام والإمبريالية – هو خبر طيب لأنه يضعف جبهة العدو، وبالتالي يتيح فرصة أكبر للحركة الجماهيرية الصاعدة – وهي المصدر الوحيد لأي تغيير حقيقي – للانتعاش. وهناك في المقابل من رأى أن اختلاف مصر مع أمريكا خبر طيب لأنه يسمح “لنا” بإزاحة نظام مبارك من خلال التقدم بـ”عرض أفضل” للصديق الأمريكي.
في تلك الأيام اللاهثة أظهر الإخوان المسلمون طبيعتهم المتناقضة. فلا هم ارتكنوا للحركة الجماهيرية بشكل تام، ولا هم أهملوها. لا هم وقفوا في المعسكر الأمريكي، ولا هم أدانوه بشكل قطعي. ولا هم ساندوا النظام بلا لبس، ولا هم هاجموه بلا موائمات. وقف الإخوان في المنتصف من كل شيء. شاركوا في المظاهرات المطالبة بالديمقراطية، لكنهم صمموا على عدم الإشارة بالنقد من قريب أو بعيد إلى حسني مبارك. ساهموا في الجبهات الديمقراطية، لكنهم آثروا تخفيض سقف مطالبها. توافقوا مع بعض القوى الأخرى، لكنهم رفضوا مقاطعة انتخابات الرئاسة. شاركوا في انتخابات الرئاسة، لكنهم رفضوا كشف من يؤيدون ومن لا يؤيدون.
ما معنى هذا كله؟ معناه أنه مع صعود فرص التغيير السياسي حرص الإخوان على الاحتفاظ بمسافات متقاربة من، أو فلنقل بشعرة معاوية مع، كل الخيارات. الإخوان كانوا في ذلك أمناء لطبيعتهم السياسية-الطبقية. فهم قوة ذات أساس طبقي متعدد، أي ذات جماهيرية في أوساط طبقية متعددة: من الشرائح الوسطى لرجال الأعمال، إلى الطبقة الوسطى الحديثة، إلى الطبقة الوسطى التقليدية، إلى البرجوازية الصغيرة الفقيرة. لهذا السبب فإن الهم الرئيسي لآلة التنظيم الإخواني هو الحفاظ على وحدة هذه البانوراما الطبقية، وهو ما يعني الوسطية والتذبذب بلا نهاية، وهو ما يعني كذلك السقوط في كل امتحان يتطلب الانحياز الواضح.
هذا ما يفسر لماذا يحب الإخوان المسلمون الخمول ويكرهون احتدام الصراع السياسي. فالإخوان ليسوا فقط غير مهيأين لدخول المواجهات، ولكن كذلك فإن المواجهات في خارج التنظيم تؤدي في أحيان كثيرة إلى تمزيق داخل التنظيم ذاته. وهذا ما ينقلنا إلى مسألة الأساس الاجتماعي-الطبقي للصراع بين تيارات الجماعة.
تيارات الإخوان المسلمين
ليس جديدا على الإخوان وجود تيارات داخلهم. فمنذ أن كتب المرشد الأسبق حسن الهضيبي “دعاة لا قضاة”، بل وقبل ذلك، والإخوان يعيشون تنازعا بين تيارات أكثر اعتدالا وموائمة مع نظام الحكم وتيارات أكثر راديكالية وصدامية مع نظام الحكم. لكن الجديد أنه بعد إعادة بناء تنظيم الإخوان في مطلع السبعينيات، لم يحدث أن أصبح الصراع الداخلي بينهم هو حديث الساعة كما هو الحال الآن. لقد وصل الأمر اليوم إلى أن مرشد الإخوان يطرح شكاواه من مكتب الإرشاد علنا في الصحف.
المسألة في رأيي ليست فقط إثارة إعلامية. فلقد تباعدت بالفعل السبل بين تيارات الإخوان، وذلك بالضبط بسبب تناقضات تجربة 2005 وما بعدها.
قلنا أن الإخوان، كجماعة، تأرجحوا طوال 2005 بين مختلف المواقف. وقلنا أن ذلك يرجع إلى أن الحفاظ على تماسك قاعدتهم الطبقية يتطلب اللجوء إلى الغموض. لكن الإخوان المسلمون تنظيم مكون من بشر ذوي ميول وتوجهات. فما الذي يحدث لهؤلاء البشر عندما يُجبر تنظيمهم على الخروج من شرنقة الخمول ويضطر إلى “اتخاذ مواقف” بسبب تصاعد وتيرة الصراع السياسي في المجتمع؟ في ظروف كتلك، مهما كانت آلة التنظيم محنكة في ألاعيب الوسطية، فلن تنجح تماما في الخروج بمواقف “ترضي جميع الأطراف”.
هذا بالضبط ما حدث في 2005. ولفهم ذلك نبدأ بتحليل مختصر لتيارات الإخوان.
فمع التبسيط المخل، يمكننا القول إن الإخوان ينقسمون إلى تيارين رئيسيين: تيار تحديثي وتيار محافظ. في تقديري أن القاعدة الطبقية للتيار التحديثي (الذي تسميه الصحافة التيار الإصلاحي) هي الرأسماليون متوسطو الحجم ومهنيو الطبقة الوسطى الصاعدون، أي تلك الشرائح التي تعيش حياة رغد نسبي وتريد التصالح مع التحديث الرأسمالي وترفض أي صدام مع المجتمع، لكنها كذلك تبحث “إصلاح” معتدل يقوّم الفساد في المجتمع ويحفظ لها إيمانها الديني وتقاليدها الموروثة.
هذا التحليل هو ما يفسر لنا مواقف هذا التيار. فهو وإن كان يتخذ مواقف أكثر تقدمية (نسبيا وشكليا) من قضايا كالمرأة والأقباط، إلا أنه يتخذ مواقفا أكثر يمينية من قضايا الخصخصة والسياسات الاقتصادية والموقف من أمريكا وإسرائيل.
أما التيار الثاني، فهو جماعة المحافظين وأساسها الاجتماعي هو الشرائح الأكثر تقليدية من الطبقة الوسطى من موظفين وتجار صغار وأبناء برجوازية صغيرة فقيرة. هؤلاء، لأسباب مفهومة، أكثر غضبا وتناقضا مع الواقع الاجتماعي السائد. وهم يرفضون كثير من مظاهره. لكن رفضهم يصب في اتجاه رجعي. بتعبير آخر: إنهم يوجهون غضبهم ليس للنظام الاجتماعي المسبب لكل مآسيهم، بل لما يصفونه بالانحلال الأخلاقي في المجتمع. وهو ما ينعكس في مواقفهم الأكثر تشددا في مواجهة المرأة والأقباط.
هذه طبعا صورة تقريبية. فهناك من “يجمعون الشامي على المغربي”. وهناك من يقفزون من هنا لهناك. والخطوط الفاصلة أحيانا تبدو غائمة. لكن المهم في كل ذلك أن أحدث وسياقات 2005 وما بعدها باعدت بين هذين التيارين الرئيسيين.
ذلك أن مشاركة الجماعة في حركة التغيير الديمقراطي ساهمت في بروز وصعود أسهم التيار التحديثي، داخل التنظيم وخارجه، وهو ما أغضب المحافظون، ومن ثم خلق برودة وجفوة بين التيارين. لكن أداء الجماعة أثناء هذا العام العاصف – 2005 – لم يثلج كذلك صدور التحديثيين برغم كل ما حققوه. فمواقف الإخوان الغامضة في اللحظات الحاسمة لا شك أنها أحبطت كثير من التحديثيين وأشعرتهم بأن التنظيم يكبح تقدمهم.
ثم أتت مرحلة الهبوط عندما تراجعت حركة التغيير وتم رأب الصدع مع الإمبريالية الأمريكية واشتد الهجوم على الإخوان، بدءا من القضية التي أسماها الإعلام الرخيص “الميليشيات الإخوانية” وانتهاء بقضية التنظيم الدولي المفبركة. في هذه المرحلة أُضيف إلى أسباب الفرقة الداخلية قضية الصراع حول كيفية التفاعل مع الدولة والمجتمع في مرحلة المحنة الإخوانية. حتى وصل الأمر إلى صراع علني مفتوح داخل مكتب الإرشاد.
وماذا عن المستقبل؟
وهكذا، خرج الإخوان من الشرنقة. لكن خروجهم من الشرنقة وإسهامهم في الصراع السياسي المتقلب أدى، كما هو الحال في الأمثلة الشبيهة دائما، إلى تعزيز تناقضاتهم الداخلية. فما الذي يمكن توقعه من هذا التنظيم في الأيام المقبلة مع احتدام معركة التوريث؟
يبدو لنا أن الأمر كله يعتمد على طبيعة المعركة ذاتها. فلو سارت الأمور على ما هي عليه الآن، أي لو كانت المعركة أقل زخما، جماهيريا وسياسيا، من معركة 2005، وذلك بسبب تراجع عوامل التمزيق في أوساط النخبة الحاكمة، وعودة التوافق مع الإمبريالية الأمريكية، وزيادة عوامل تمزق المعارضة، فإن الإخوان سيواجهون امتحانا أقل صعوبة من امتحان 2005، مما سيسمح لهم أكثر أن يقولوا الشيء ونقيضه دون أن يدفعوا ثمنا غاليا.
لكن لا ننسى أن الإخوان يدخلون المعركة وهم أكثر انقساما داخليا من 2005. ولذلك، فإنه حتى لو كانت معركة 2010-2011 أهدأ وأقل احتداما، وحتى لو كانت لن تؤدي إلى تمزيق الجسد الإخواني تماما، فإنها بلا شك ستعمق من التناقضات بين تياري التحديث والمحافظة.
ويبقى الأمل الحقيقي في أن تتقدم الحركة العمالية والاجتماعية إلى الأمام لتقود المجتمع في معركته من أجل التغيير السياسي. لو ظهرت في الأفق بوادر لهذا، فسوف تتبدل شروط المعادلة تماما. ولسوف تفرض تلك القوة الجديدة على تيارات الإخوان المسلمين أن تطرح مواقفها الحقيقية من الأسئلة الجوهرية: إصلاح أم ثورة؟ وثورة من؟ لمصلحة من؟