بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

“الكويز”: كذبة من يصدقها؟

مر ما يقرب من عامين على توقيع اتفاقية المناطق الصناعية المؤهلة بين مصر وإسرائيل، والتي عرفت باسم “الكويز” (وقعت في 14 ديسمبر 2004). ومنذ توقيعها تلقي حكومة نظيف، وفي أكثر من مناسبة مبارك نفسه، بثقلها دفاعا عن الاتفاقية. ومؤخرا أظهرت دراسة مصرية، أعدها المركز المصري للدراسات الاقتصادية وهو العقل المفكر لطبقة رجال الأعمال النافذين، أن الاتفاقية أسهمت في زيادة الصادرات المصرية من الملابس والمنسوجات للولايات المتحدة بنسبة 9.1% خلال العام الماضي. وأوضحت الدراسة أن قيمة الصادرات بلغت 612.3 مليون دولار العام الماضي مقابل 561.1 مليون دولار عام 2004. وبصدور الدراسة، خرجت علينا فرق الطبول المنظمة المعتادة في الصحف القومية مشيدة بالمكاسب القومية “التاريخية” التي جلبتها الكويز. بل خرج علينا كبار مسئولي وزارة الصناعة المختصون بملف الكويز معلنين عن دهشتهم لزيادة صادرات المنسوجات بسبب الكويز، وليقولوا لنا إنهم عندما أبرموا الاتفاقية إنما كانوا يأملون في تقليل حجم خسائر مصر من صادرات المنسوجات لأمريكا إلى أقصى حد ممكن بعد أصبحت تلك الصادرات مهددة بسبب إلغاء نظام الحصص، فإذ بالكويز تفاجئهم ليس فقط بقدرتها على الحفاظ على صادراتنا المهددة، وإنما أيضا بقدرتها على زيادة تلك الصادرات. لكن نظرة أكثر قربا تكشف اختلافا كبيرا بين هذه الصورة البراقة والواقع.

الحقيقة المرة

تختلف البيانات الخاصة بصادرات المنسوجات للولايات المتحدة من وقت لآخر ومن مصدر لآخر، لكن إجمالي هذه الصادرات ظل تاريخيا، ومازال، يتراوح عند 600 مليون دولار سنويا، وهو ما يعني زيادة الصادرات بحوالي 10% على حسب المصدر. لكن دقة هذه الأرقام لا تهم كثيرا، فالزيادة التي طرأت على الصادرات لا تزيد بأي حال من الأحوال عن 60-70 مليون دولار، وهذا رقم هزلي بالنسبة لصادرات الدول، وبالنسبة للتكلفة الاستراتيجية التي تكبدتها الدولة عندما أبرمت اتفاقية عار كهذه. كما أن زيادة الـ70 مليون دولار لا تقترب من قريب أو بعيد من الوعود الرسمية التي كانت تتحدث عن زيادة صادرات بالمليارات. وعادة ما تورد الصحف الرسمية أرقام الصادرات في المجمل بدون ذكر حجم الزيادة، وأظنها بذلك تحاول توجيه القارئ لاستنتاج أن إجمالي حجم الصادرات (600 مليون دولار) هو في واقع الأمر زيادة في الصادرات وكأننا لم نكن نصدر منسوجات لأمريكا من قبل. وحتى عندما تذكر الزيادة بالفعل نجدهم يعرضونها في صورة نسبة مئوية فقط، ولا يتطرقون إلى أن الزيادة الجبارة لا تعدو كونها 60-70 مليون دولار فقط لا غير حتى لا يتساءل القارئ: أيتكبدون كل هذا العار من اجل سبعين مليون دولار؟

من ناحية أخرى تتفق الصحف والبيانات الحكومية على عدم التطرق لمسألة المكون الإسرائيلي، ولهذا الصمت أسباب كثيرة وواضحة. فطبقا للبيانات الإسرائيلية تجاوزت صادرات إسرائيل لمصر بسبب الكويز حاجز الـ100 مليون دولار وهو ما يفوق الـ70 مليون دولار التي يفترض أن صادرات مصر كسبتها بسبب الكويز. هذا يعني أننا إذا أخذنا الواردات الإسرائيلية في الحسبان لن نصل إلا لنتيجة واحدة وهي أننا خسرنا ما يتراوح بين 30 إلى 40 مليون دولار بسبب الكويز، هذا بحساب ميزان المدفوعات. ليس هذا فقط، بل أدت الكويز إلى فرض الإكسسوارات الإسرائيلية على المصنع المصري بأضعاف ثمنها وسحبت هذا السوق من المصنعين المصريين بشكل بدأ يهدد ما يتراوح بين 50-80 شركة إكسسوارات مصرية صغيرة. في حقيقة الأمر إذاً، ما يعرض علينا على أنه زيادة في الصادرات ليس إلا جزء مجتزأ عمدا من حدوتة خسارة أكبر بكثير إذا ما أخذنا الواردات الإسرائيلية في الاعتبار.

أما بالنسبة للوعود بأن الكويز ستخلق 400 ألف فرصة عمل في قطاع المنسوجات فحدث ولا حرج. فالكويز لم تؤدي حتى الآن لخلق حتى عشر فرص عمل. بل إن تأثيرها المباشر على العمالة سيكون في غالب الأمر تشريد المئات، إن لم يكن الآلاف، فمصانع الإكسسوارات المصرية التي تعاني من الكويز بسبب فرض الإكسسوارات الإسرائيلية على سوقها ستغلق مع الوقت وتشرد عمالها. أما تأثيرها غير المباشر على العمالة فلا يمكن وصفه إلا بالكارثة. فقطاع النسيج كله يتدهور، وتم رهن تطويره بهذه الاتفاقية التي لا تفعل شيء. ونتائج عدم تبني خطط لتطوير قطاع النسيج، وترك ذلك لتأثير ايجابي مفترض لاتفاقية الكويز الفاشلة، باتت واضحة. فالحكومة أعلنت منذ شهور عن نيتها بيع أصول مصنع كفر الدوار خردة وبدأت التجهيزات لطرد العمالة من مصانع النسيج بالمحلة أيضا. وفي النهاية بدأت ملامح ما سنراه في الأعوام الخمسة الأولى للاتفاقية كعنصر أساسي في تطوير قطاع النسيج تتبلور في صورة تشريد مئات الآلاف من العمال وليس توظيف ما يقرب من نصف مليون عامل كما أعلنوا.

عملية كبرى للتغطية

لا أظن أن أيا ممن عارضوا هذه الاتفاقية توقعوا أن تخرج نتائجها تافهة إلى الحد الذي خرجت عليه. بالفعل، توقع لها معظم المحللين الاقتصاديين الفشل، كما توقعوا أيضا أنها لن تفيد سوى المجموعة التي فاوضت عليها. لكن حجم الفشل الذي نراه الآن أظنه أدهش الجميع بما في ذلك النظام الذي توقع نجاح ما ولو محدود، ولهذا ارتبك النظام في مواجهة نتائج الكويز. فكيف يمكن مواجهة تواضع النتائج إلى أقصى حد مقارنة بالوعود البراقة التي بررت بها الاتفاقية؟ ألم تعد كوكبة من كبار مسئولي النظام، عشية توقيع الاتفاقية، بأنها سوف تعدل الحال المايل وتجلب الرخاء، وأنها ستوفر 400 ألف فرصة عمل وتجذب استثمارات أجنبية تصل إلى خمسة مليارات دولار في أول عامين ثم عشرة مليارات في الأعوام الخمسة الأولى؟

أول الأساليب المعروفة التي يتبعها النظام في التعامل مع فشله هو تزوير بيانات تدل على نجاحه. لكن لسوء حظه لم يكن هذا ممكنا في حالة الكويز لأن لكل بيانات الدولة بخصوص الكويز بيانات مماثلة من مصادر أمريكية وإسرائيلية. ووضعت عدم القدرة على التزوير النظام في موقف حرج لم يعتد مواجهته كثيرا، فلجأ لاستراتيجية منع النشر ومصادرة المطبوعات. وهذا ما حدث مثلا عندما منع الأزهر نشر كتاب «الكويز في المنظور الإسلامي» للدكتور أشرف محمد دوابة. لكن سرعان ما ظهرت استحالة تعميم منع النشر في حالة الكويز، فخرجت التقارير تحلل نتائج الاتفاقية الفاشلة وامتلأت الانترنت بفضائحها. تعذر إذن فبركة البيانات ومنع النشر بشكل فعال، ولذا لم يبقى أمام النظام إلا التلاعب بدلالات الأرقام وتهميش موضوع الكويز في الصحف.

فعلى سبيل المثال، تحتفل الصحف الرسمية بصفة دورية بعدد الشركات المصرية المشتركة في الكويز. وعندما تقوم بذلك تنشر عدد المشتركين في الاتفاقية والذي وصل في يوليو 2006 إلى 470 شركة منسوجات، لكننا نجد أن 400 من هذه الشركات لم تصدر شيئا حتى الآن، أي أنها اشتركت في الاتفاقية ثم لا شيء. ودائما ما يسقط هذا البيان “سهوا” من كل الصحف الرسمية التي تحلل الموضوع. وإذا أخذنا هذا البيان في الاعتبار سنصل إلى أن عدد شركات الكويز الفاعلة في حقيقة الأمر لا يزيد عن 70 شركة. وإذا دققنا في البيانات بشكل أعمق سنجد أن العشرة الكبار منهم يحتكرون أكثر من نصف إجمالي الصادرات، وأن من بينهم أغلب من تفاوضوا باسم مصر مع إسرائيل على تفاصيل الاتفاقية قبل إبرامها، وهم أيضا الذين شكلوا لوبي الكويز للضغط على الدولة لإبرام الاتفاقية التي لا تخدم إلا مصالحهم الضيقة في حقيقة الأمر. من هنا، ففي حين تحتفل هذه الصحف بأكثر هذه البيانات هامشية (بيان الـ470 شركة) نجدها لا تذكر أبدا البيان الذي يمثل جوهر اللعبة وهو حقيقة العشرة الكبار، ولا أظن أن إجماع الصحف الحكومية على هذا الانحياز يمكن رده إلى تواتر الخواطر.

لماذا نقول “لا” للكويز؟

نحن لا نعارض الاتفاقية من منطلق تفاهة نتائجها وإنما نعارضها من حيث المبدأ، ومن حيث كونها اتفاقية ترسخ الاستبداد والاستغلال والاستعمار. فهي في جوهرها مساومة فاشلة بين نظامنا المستبد والنظام الاستعماري. لكن ما حاولت إيضاحه هنا هو أن الاتفاقية، وإن كانت كارثية على المستوى الاستراتيجي، فإنها خرجت أيضا تافهة على مستوى النتائج من زاوية الانجاز الرأسمالي. وبكل تأكيد فإن خطورة البعد الاستعماري لهذه الاتفاقية، وقدرتها على شراء ولاء البرجوازية المحلية لصالح الاستعمار، تفوق مشكلة توابعها الاقتصادية. ظهر هذا بوضوح على سبيل المثال في حرب لبنان. فعندما بدأت الأصوات تطالب بإلغاء الكويز، انبرى عدد من كبار رجال أعمال الكويز يدافعون عنها، ونظرا لصعوبة الدفاع عنها من منطلق اقتصادي أتى الدفاع عنها في صورة الهجوم على المقاومة اللبنانية. وفي أحد الموضوعات التي نشرتها جريدة المصري اليوم لاستعراض آراء رجال أعمال الكويز، لخص أحدهم (لم يذكر اسمه) الموقف واصفا المقاومة اللبنانية بأنها “مجرد ميليشيات مسلحة”، رافضاً إطلاق توصيف «المقاومة» عليها! كما اتضح دفاع معظم رجال الكويز عن استمرار الشراكة مع اسرائيل مكتفين بالتأكيد على إرسال المعونات للشعب اللبناني.

وبهذا يمكن أن نستنتج بضمير مستريح أن تأثير الكويز الأهم هو زيادة صادرات إسرائيل لمصر، وشراء ولاء العديد من رجال الأعمال المصريين بإدخالهم في شراكات مباشرة مع نظرائهم الإسرائيليين بحثا عن وهم التصدير لأمريكا. ولم يستفد من هذه الاتفاقية غير عدد محدود جدا من رجال الأعمال المقربين من السلطة، في حين لم يكلل لهاث الصغار من أصحاب مصانع المنسوجات وراء الكويز بأي نجاح. فقد اكتشفوا في نهاية المطاف أن الشراكة الإسرائيلية ليست جسرا للسوق الأمريكية كما وعدهم النظام وإنما بوابة الفشل والتدهور. وعند ذلك التفتوا ليجدوا أنهم لا يستطيعون حتى حماية أنفسهم في السوق المحلية أمام الوافد الصيني، وفي هذا سخرية عجيبة من القدر. فبدلا من الضغط على النظام لحماية أسواقهم كما هي عادة البرجوازيات المحلية في مواجهة الواردات الرخيصة لهثوا وراء السراب الأمريكي ولم يجنوا شيئا في نهاية المطاف.