العالم وأنيس.. ثمانون عاما من التفاؤل والنضال
تعرب “أوراق اشتراكية” عن عميق حزنها وأسفها لفقدان اليسار المصري والعربي اثنين من أهم المثقفين المصريين من جيل الرواد: محمود العالم وعبد العظيم أنيس.
وتقدم هيئة تحرير المجلة تعازيها للشيوعيين المصريين بكل تياراتهم، الذين تأثروا بفكر ونضال المفكرين الكبيرين. ونطرح في هذا السياق دعوة لكل المهتمين بتاريخ وحاضر الأيديولوجيا الماركسية المصرية والعربية، لتنظبم مؤتمر لمناقشة ودراسة فكر العالم وأنيس. فأكبر مظاهر الوفاء لفقيدينا العظيمين هي الدراسة النقدية لإبداعهما، لكشف مواطن القوة والضعف فيه، ولتجديده، في إطار المسعى العام لتطوير الفكر الماركسي المصري في علاقته بتطور حركة الجماهير من أجل التحرر والانعتاق.
“غيّب الموت، في شهر يناير الماضي، اثنين من أهم المثقفين اليساريين المصريين: محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس. لم يكن عمل العالم وأنيس الأساسي يدور، كما هو الحال بالنسبة للكثيرين من اليساريين المرموقين من جيلهما، حول بناء تنظيم شيوعي ما، وإن كان كلاهما كان له باع ودور في هذا المجال. الإسهام الرئيسي لهذين المثقفين الكبيرين كان في مجال الفكر والثقافة، وسوف يظل التاريخ يتذكرهما كمساهمين رئيسيين في تشكيل ما يمكن أن نطلق عليه “الوعي اليساري” المصري الحديث.
ولد العالم وأنيس، وكانا رفيقا درب واحد، في مطلع عشرينيات القرن العشرين، وقد شاركا، كل على طريقته، في الحركة السياسية المصرية بدءا من أواخر الثلاثينيات وخلال سنوات الأربعينيات: سنوات إعادة بناء الحركة الشيوعية بعد انهيار الحزب الشيوعي الأول، في رابطة وثيقة بالفكر الستاليني وعلى أساس من رؤية راديكالية وطنية تؤمن، في الإجمال، بنظرية المراحل الستالينية الشهيرة.
وعلى هذا كان العالم وأنيس جزءا من حركة اليسار في هذه المرحلة العاصفة من تاريخ مصر. وقد تبلور فكرهما في صلته بأحداث تاريخية حاسمة من أهمها: إعادة تأسيس التنظيمات الشيوعية في أواخر الثلاثينيات ومطلع الأربعينيات، انتفاضة الطلبة والعمال 1946، ثورة يوليو 1952، العدوان الثلاثي 1956، الوحدة السورية المصرية 1958-1961، سجن الشيوعيين المصريين 1959-1964، قرارات عبد الناصر الاشتراكية 1961، وهزيمة 1967.
وفي الإجمال كان ارتباط العالم وأنيس بالحركة السياسية في سنوات ما قبل الثورة – كما ذكرنا – مبنيا على منظور الثورة الوطنية الديمقراطية، بما يعنيه هذا من استبعاد الإمكانية المباشرة للثورة الاشتراكية قبل إنجاز مهام مرحلة التحرر الوطني واستكمال مقومات المجتمع الرأسمالي.
على أن العالم وأنيس انتهيا، كجيلهما كله تقريبا، إلى تأييد ما سُمي بإجراءات عبد الناصر “الاشتراكية” باعتبارها خطوة حاسمة للأمام في اتجاه التحول الاشتراكي في المجتمع. ثم عارض كلاهما السادات فيما سُمي من جانب الشيوعيين والقوميين بـ”الثورة المضادة” على الإنجازات الناصرية، تلك “الثورة” التي انتهت إلى زيارة القدس ومقتل السادات.
وكما يعلم الكثيرون، فقد كان إسهام العالم وأنيس في مجال النقد الأدبي هو الأهم بين أبناء جيلهما قاطبة، وذلك بإصدارهما المشترك لكتابهما شديد التأثير، “في الثقافة المصرية”، ذلك الكتاب الذي كان عبارة عن مقالات كتبهما كل منهما بانفصال عن الآخر، ثم تم جمعها في كتاب واحد في بيروت عام 1955. وقد أسس هذا الكتاب للواقعية الاشتراكية في طبعتها المصرية والعربية، ولعب دورا في تشكيل وعي جيل من الكتاب والأدباء والروائيين والشعراء من المنتمين إلى اليسار أو المتأثرين به. وكان كل من العالم وأنيس قد قدم نقدا لكتابهما فيما بعد بوصفه نصا ميكانيكيا بعض الشيء، يركز، في تحليله للإبداع الأدبي، على المضمون دون الشكل.
لا يمكننا، بالفعل، تقدير مدى إسهامات كل من العالم وأنيس وتأثيرهما على الثقافة المصرية. فكثير من أفكار الحركة الشيوعية الثانية، وهي أفكار كان العالم وأنيس من أهم من بلوروها وصقلوها، تسربت في نسيج الوعي الجمعي في الثقافة المصرية، وأصبحت، أحيانا، من المقولات السائدة، بدءا من ربط القضية الاجتماعية بالمسألة الوطنية في الأربعينيات، وهو الأمر الذي، مثلا، وضع قضية الإصلاح الزراعي على أجندة الحركة السياسية المصرية من اليمين إلى اليسار، ومرورا بتحليل الناصرية نقديا كنظام وطني يسير في اتجاه الاشتراكية، أصابه الفساد من الداخل، وافتقر إلى مناعة الديمقراطية، فوقع في هوة 67، وانتهاءً بتحليل نظام السادات كنظام تابع للإمبريالية ذو رأسمالية طفيلية غير منتجة.
كثير من هذه المقولات يستحق النقد والتفنيد، وبعضها – للحق – كان من أسباب بلبلة اليسار وتراجعه في مراحل لاحقة بدءا من الثمانينيات وما بعدها. فلا إعطاء بعد يساري لحركة ذات طابع وطني برجوازي كان هو الأفق الوحيد لنضالات الأربعينيات، ولا أزمة الناصرية تكمن في مجرد فساد أصاب التجربة، ولا تأييد الناصرية غير النقدي كان الطريق لبناء الاشتراكية، ولا الساداتية كانت، بدقة، ثورة مضادة، ولا نظرية التبعية بقادرة على تحليل تطورات الرأسمالية المصرية في عصر السادات ومبارك.
لكن قبل كل ذلك وبعده لا يمكننا إنكار أن العالم وأنيس بتفاؤلهما التاريخي، وباستمرار حيويتهما وفاعليتهما حتى النفس الأخير، وهو ما تجلى في كتابات العالم في السنوات العشرين الأخيرة من عمره، وفي إشرافه على سلسلة قضايا فكرية، وتجلى كذلك في مقالات أنيس وعمله كعالم رياضيات؛ نقول لا يمكننا إنكار أن المثل الذي أعطاه هذان الرجلان يعد بالنسبة للأجيال التي تلتهما مصدرا لا ينضب للإلهام.
فلا العالم ولا أنيس توقفا عن ممارسة عملهما النقدي حتى اللحظة الأخيرة. كلاهما اقتنع بأن معنى الحياة هو ممارسة النقد. وطبعا في بلد كمصر، بما تعيشه هذه الأيام من قبح واستغلال، هناك الكثير من الأمور التي تستحق أن تنتقد وتقوّم، ليس بقلم الكاتب وعقل المفكر فقط، ولكن بنضال الجماهير الحية التي استلهم منها المثقفان الكبيران الروح الوثابة التي ميزتهما على مدى أكثر من ثمانين عاما من الفعل والنضال.