الإعلام ووهم «الحياد»

تتردد كلمات على لسان الصحفيين مثل “الموضوعية” و”الحياد”.. أكثر مما ترددت كلمة “الشرف” على لسان توفيق الدقن في أدواره التي جسدها. في حين أن الانحياز سمة الإعلام من الألف للياء.
يبدأ الإنحياز عند اختيار ما هو أساسا “الخبر” الجدير بالتغطية من قبل المؤسسة الإعلامية سواء كانت قناة تلفزيون أو جريدة. إذ يحدث على مدار الدقيقة، بل الثانية، مليارات من “الأحداث” على سطح هذا الكوكب. ومن المستحيل تغطية كل شئ يحدث.
كم منا يتذكر مثلاً قراءة “خبر” عن شخص توقف على الطريق ليساعد سائقاً آخراً لا يعرفه تعطلت عربته؟ لن تقرأ خبرا عن ذلك. هذا خبر “لا قيمة له صحفيا” إذا ذهبت به لرئيس تحريرك. ولكن يصبح الموضوع “خبرا” بل و”خبرا شيقا” عندما يكون الأمر عن شخص توقف على الطريق ليساعد شخصاً آخراً لا يعرفه تعطلت عربته، فيقوم الشخص الآخر بتمزيقه إرباً لسرقته. هنا هذا خبر! وقد يجد هذا الخبر طريقه أيضاً إلى الصفحة الأولى من الجريدة أو ستستدعي القنوات التلفزيونية على الفور التفاصيل المروعة له.
كصحفي، إذا رأيت صبياً يساعد رجلا عجوزا على عبور الطريق، فهذا ليس خبرا على الإطلاق، وأتخيل كم السخرية التي ستتلقاها من الجميع إذا كتبت هذا الخبر أو حاولت نشره في مكان ما على الصحفة الأولى أو الأخيرة من أي جريدة أو على أي موقع خبري. ولكن يصبح الموضوع خبراً إذا رأيت الصبي يهاجم الرجل العجوز بالمطواة ويقتله.
لماذا لا يعد خبر توقف شخص لمساعدة غريب تعطلت عربته في الصحراء، بينما قتله يعد خبرا؟ لماذا لا يعد مساعدة الصبي لعجوز على عبور الشارع خبرا، بينما قتله بالمطواة خبرا؟ ما هي المعايير؟ سيخرج البعض ويقول “قدسية الحياة”، فما هو أهم من إخطار المجتمع بجريمة أودت بحياة أحد أفراده؟ وهذه إجابة معقولة.. ولكن لماذا نتذكر “قدسية الحياة” فقط عندما تنتهي؟ هنا فقط تصبح قدسية الحياة مهمة؟! أليس توقف الشخص في الصحراء لمساعدة سائق آخر لا يعرفه ساهم في الحفاظ على حياته وجنبه مثلا مخاطر التعرض لقتله (أي ضياع “قدسية حياته”) على يد قاطعي طريق أو لصوص؟ أوليس عندما يساعد الصبي الرجل العجوز على عبور الشارع فهو يساهم في الحفاظ على “قدسية حياته” وتجنيبه مخاطر ضياعها؟
ويأتي هنا أيضاً سؤال: إذا كان الملايين يموتون يوميا على سطح هذا الكوكب، فهل تغطي وسائل الإعلام قصة موت كل واحد منهم؟ بالطبع لا، وعمليا مستحيل، فأي الأشخاص إذاً نعتقد إن “ضياع قدسية حياتهم” جدير بالتغطية وأيهم موته “لا يهم أحد”؟
هل موت “عم محمد” البواب في حجرته من السرطان أسفل سلم إحدى العمارات بالزمالك بنفس قدر “أهمية” موت لواء الشرطة الذي يسكن نفس العمارة بنفس المرض؟ كصحفي، أي الشخصين أهم بالنسبة لك وللقارئ؟ عائلة وأصدقاء من ستذهب للقائهم وتسجيل حوارات صحفية معهم ونشرها بالصور والفيديو تعدد فيها “مآثر المرحوم” وكيف أن غيابه سيؤثر عليهم (وأحيانا على “الوطن بأكمله”).
الأمثلة المذكورة أعلاه مبسطة ومختزلة، ولكن تعمدي اختيارها سببه “بديهيتها” للجميع. فأنا لا أتحدث هنا عن الإنحياز “الفج” للإعلام في قضايا سياسية تظهر فيها الإنحيازات بوضوح وسهولة، مثل عندما يستخدم مقدمو البرامج وصحفيو الجرائد أقذع الشتائم أو عند تجاهلهم تغطية مظاهرة مليونية أو مجزرة يروح ضحيتها المئات، أو تجاهل الإضرابات العمالية.
“الانحياز” لا مفر منه، ويبدأ من أول لحظة في التغطية الإعلامية.. وهنا أيضا يبدأ مفترق الطرق بين صحافة الدولة ورجال الأعمال.. وبين الصحافة الثورية. اختيارك لما ستكتب عنه هو بداية “الانحياز”.. فعن ماذا ستكتب؟