بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

لماذا يحتاج النظام للتعذيب؟

من جديد تتفجر موجة أخرى من فضائح النظام المصري في انتهاك حقوق الإنسان واحتراف التعذيب كشعار وكوسيلة للعمل داخل سلخانات وزارة الداخلية المسماة خطأ أقسام الشرطة. فقد بات من الطبيعي والعادي أن نطالع يوميا أخبار التعذيب داخل تلك الأقسام كما نتابع ببرود أخبار انفجارات بغداد وقتلى فلسطين. وفى صباح كل يوم تتكشف لنا وسائل جديدة وغريبة للتعذيب يبدعها ويبتكرها رجال وزارة الداخلية تكشف عن ميول سادية ونفوس مريضة تستعذب أصوات الآلام وتهوى تكسير العظام وتنعشها إراقة الدماء. ووصل الأمر إلى سكب الكحول الأحمر على المواطنين وإشعال النيران بهم لكي يعترفوا بجرائم لم يرتكبوها، كما حدث فى قسم سيوة. ولا شك أن العديد من المواطنين وهم يطالعون تلك الأخبار يندهشون من تلك القسوة والسادية خاصة وأن الغالبية من ضحايا التعذيب في الفترة الأخيرة من الغلابة والفقراء ممن ليس لهم نشاط سياسي فعلام إذن هذه الشدة؟ وهو سؤال جدير بالاهتمام والإجابة عنه تفسر لنا الكثير من التفاصيل التي ربما تغيب عن البعض.

في البداية كان التعذيب من نصيب الناشطين السياسين والمعارضين وكان هذا ملحوظ في عهد عبد الناصر ومن بعده السادات. فأعطت الدولة، رغبة منها في القضاء على أى معارضة نتيجة للظروف الخارجية وقتها، أعطت لوزارة الداخلية صلاحيات واسعة تسمح لها بالقمع والتنكيل بكل صاحب رأي. ومضى تسليح تلك القوة الإرهابية التي ترعاها الدولة والتي تنفذ الجرائم باسمها بخطوات سريعة ومتلاحقة، وسخرت لها الدولة كل ما تحتاج من موارد لتطوير وتحديث وسائل القمع والتعذيب. وهكذا قضت الدولة علي المعارضة المصرية واقتلع اليسار من الجامعات والمصانع، ثم جاء موسم ذبح الجماعات الإسلامية، لتقضي الدولة في نهاية الأمر على المعارضة بأطيافها المختلفة، ما عدا بالطبع المعارضة الأليفة والصورية. وهكذا بعد أن أدت أجهزة القمع دورها تحولت تلك القوة الهائلة التي تجمعت في يد وزارة الداخلية إلى المواطنين منذ بداية التسعينات. وإذا كان التعذيب موجودا في عهد عبد الناصر والسادات فالوضع في عهد مبارك أصبح مختلف. التعذيب الآن أصبح فاحش ولم يعد يقتصر على دائرة محدودة من الناشطين بل هو سيف مسلط على الجميع وربما أكثر بطشا وفداحة على الفقراء دون غيرهم. . ولكن هل كان لتسريع وتيرة هذا التحول الوحشي تجاه المواطنين له ما يبرره؟

بالقطع هناك أسباب جوهرية لا يمكن أن نغفلها، ولا يمكن أن نفسر ذلك التحول بمعزل عنها ولا يمكننا أن نرجعها لنقص الوعي بحقوق الإنسان كما يدعي السياسيون الليبراليون.

السبب الأول هو أن مبارك كديكتاتور أكمل على ما تبقى من معارضين حقيقيين في عهده (باستثناء الإخوان وهم معارضة إصلاحية معتدلة)، ولكنه وجد نفسه فجأة أمام الجماهير ولا يعزلهم عنه سوى سور شائك يسمى وزراة الداخلية فأسرع لاهثا لتضخيمه وتدعيمه حتى لا تتاح الفرصة للجماهير للانقضاض عليه، لأنه لم يعتمد على لعبة التوازنات السياسية كما فعل السابقون. فقضاءه على كل المعارضين أفقد دولته ميزة هامة جدا، ألا وهي وجود مؤسسات تحتوى الجماهير وقت الأزمات وتكون مستعدة للتفاوض والمطالبة بإصلاحات، محدودة غالبا .

السبب الثاني هو أن وزراة الداخلية نفسها قد أصبح لها إرادة مستقلة نوعا ما عن القرار السياسي. يظهر ذلك في حالات عدة أثناء الأزمات، ولكن لماذا؟ ببساطة لأن تلك القوة الهائلة التي تم شحذها منذ نهاية الخمسينات وحتى الآن فقدت عدوها الرئيسي، وهو المعارضة اليسارية والإسلامية، فلم تجد أمامها إلا المواطنين العاديين لاستخدام تلك السلطات عليهم. ومن ناحية أخرى هذه المؤسسة الأمنية قد حصلت من الدولة -كمكافأة على مجهوداتها- على امتيازات هائلة لم تكن تحلم بربعها في أي وقت مضى. هذه الامتيازات تستعصى على الحصر، ولكن من أبرزها النوادي والمستشفيات وشاليهات المصايف الفاخرة في أرقى شواطيء مصر والمرتبات العالية والحوافز وحتى تعيين الأولاد في الوزارة، ناهيك عن السلطات غير المحدودة تجاه المدنيين. وبالتالي أصبحت مصالح وزارة الداخلية وجهاز الشرطة مرتبطة بمصالح النظام برباط لا يفصله إلا انتفاضة جماهيرية. وهذا هو سر تلك الحماسة التي نراها في سحق المعارضين لأنهم يدركون أنهم يدافعون عن نظام مبارك بقدر ما يدافعون عن مصالحهم وامتيازاتهم، وأنهم مستفيدين من بقاء النظام لأن سقوطه يعني سقوط تفوقهم الطبقي أيضا.

السبب الثالث هو حاجة النظام ليس فقط للاستمرار كسلطة مستبدة، ولكن أيضا لتنفيذ سياسات الليبرالية الجديدة. فبدون القمع واستخدام آلة العنف المتفوقة للدولة وهى وزارة الداخلية كيف كان النظام سيسيطر على انتفاضات الفقراء كما حدث عام 1977مثلا ؟ وكيف كان سينتزع المصانع من أيدي العمال المضربين والمعتصمين ضد الخصخصة؟ وكيف ينتزع الفلاحين من أراضيهم عنوة بدون وزارة الداخلية؟ ولهذا يمكننا فهم سر الإعجاب والإشادة بمبارك من قبل رجال الأعمال والتفافهم حوله. فمن غيره سوف يقضي على مكتسبات الطبقات الفقيرة ويدشن عهد البرجوازية الكبيرة والإقطاع مرة أخرى؟

والمثير للسخرية وللامتعاض أيضا نداءات بعض منظمات حقوق الإنسان وبعض الناشطين ذوي الميول الإصلاحية والليبرالية للرئيس مبارك ولوزارة الداخلية بمعاقبة الضباط المتورطين في قضايا التعذيب! فالواقع أن النظام غير قادر على ذلك. فكيف يطلب من الجهاز تزوير الانتخابات والاستفتاءات وغلق اللجان الانتخابية وتعذيب الناشطين السياسيين وقمع الإضرابات العمالية والفلاحية، ثم يعاقبهم عندما يعذب الضباط بعض المدنيين بسبب خصومة شخصية بينهم؟ والضباط أيضا يعرفون ذلك جيدا. ففي مقابل القضاء على خصوم النظام يجب عليه أن يغض النظر عن استخدام سلطتهم في تأديب خصومهم الشخصيين. هذا في الحقيقة هو العهد الملعون الموقع بين الديكتاتور وبين وزارة الجلادين في مصر. فمناشدة الرئيس ليست بالتأكيد هي الطريقة للقضاء على التعذيب ومحاكمة السفاحين. الطريقة الوحيدة لمواجهة هذه الجريمة هي محاولة حشد الجهود المختلفة وفي القلب منها الجماهير «المعذبة» لخلق حركة واسعة ضد وحشية جهاز الشرطة. هذه قد تكون الخطوة الأولى التي يجب أن تتبعها خطوات أخرى يتوجها التخلص من النظام الفاسد كله. فالتعذيب باق طالما بقى النظام. والحل الوحيد للخلاص منه هو أن تأخذ الجماهير زمام المبادرة وتقوم بالتغيير ليس لصالح رجال أعمال آخرين واستبدال مبارك ببرجوازي آخر ولكن لتقوم بالتغيير لصالحها.