المعذبون في مصر
على مدار الشهور الماضية كان الحديث عن جرائم التعذيب التي يرتكبها زبانية الشرطة هو الزاد اليومي لوسائل الإعلام. السبب في هذا، كما نعلمه جميعاً، هو ما سمي بـ”كليبات التعذيب” التي صورت داخل سلخانات الشرطة بأجهزة الموبايل لتنتشر بعد ذلك من خلال الإنترنت.
ملف التعذيب في مصر متعدد الزوايا، أحدها الزاوية القانونية، وبالرغم من أن القانون في مصر ينفذ طبقاً لأهواء الطبقة الحاكمة والنظام، إلا أنه قد يكون من المفيد أن نلقي نظرة على الطريقة التي يتعامل بها القانون المصري مع هذه الجريمة.
القانون لا يعرف التعذيب
تساهم عوامل عديدة في إعاقة مواجهة جريمة التعذيب وتقديم مرتكبيها للمحاكمة. أولها هو ذلك العوار القانوني المتمثل في المواد القانونية التي تتناول جريمة التعذيب، فعلى سبيل المثال تنص المادة 126 من قانون العقوبات على أن “كل موظف أو مستخدم عمومي أمر بتعذيب متهم أو فعل ذلك بنفسه لحمله على الاعتراف يُعاقب بالأشغال الشاقة أو السجن من ثلاث إلي عشر سنوات، وإذا مات المجني عليه يحاكم بالعقوبة المقررة للقتل العمد”. في هذه المادة تم قصر حالات التعذيب على تلك التي يتعرض لها “متهم” بغرض حمله على “الاعتراف” بجريمة ما، فإذا تغير أيا من هاتين الحالتين لم تعد الجريمة تعذيباً. فإذا تم احتجاز أحد أقارب المتهم مثلاً وتم تعذيبه بغرض الإدلاء بأقوال معينة أو الاعتراف بمكان اختباء المتهم فنحن هنا لسنا أمام حالة تعذيب، بل هي إفراط في استخدام القسوة أو سوء استغلال للسلطات الممنوحة لأفراد الأمن. وهذه عقوبتها، وفق المادة 129 من قانون العقوبات، السجن مدة لا تزيد عن سنة أو دفع غرامة لا تتجاوز المائتين جنيه!!! وبموجب هذا يصبح ما تعرض له الآلاف الذين تم اعتقالهم في سيناء، بعد تفجيرات شرم الشيخ وطابا، هو استعمال للقسوة وليس تعذيباً!!!
التعذيب في نظر القانون يحدث فقط عندما يكون الهدف منه هو حمل “متهم” على “الاعتراف” بجريمة ما. أما التعذيب في الواقع فهو يمارس ضد المتهمين والأبرياء على حد سواء. يمارس لأسباب عدة، ربما الانتقام أو التأديب أو الإكراه على الإدلاء بأقوال معينة، وليس فقط للاعتراف بجريمة ما.
العوار القانوني يطال أيضاً القانون رقم 121 لسنة 1956 الخاص بتعديل المادة 63 من قانون الإجراءات الجنائية والذي يحرم المدعي بالحق المدني من رفع الدعوى في حالات التعذيب أمام القضاء بشكل مباشر ويجبره على رفعها أمام النيابة العامة مما يسمح بإفلات الجناة في أغلب الحالات بسبب عدم حياد النيابة وتبعيتها للسلطة التنفيذية.
سبب أخر لضياع حقوق المواطنين الذين أوقعهم حظهم العسر تحت يد جزاري وزارة الداخلية هو صعوبة إثبات تهمة التعذيب على شخص بعينه. فالطب الشرعي قادر على إثبات وقوع جريمة التعذيب، ولكن تبقي أزمة عدم توافر الأدلة الكافية لإثبات تهمة القيام بالتعذيب على شخص بعينه.
دوام الحال من المحال
وبالرغم من كل هذا فالأسابيع والشهور الماضية قلبت كل الموازين. فقد وقع ضباط الشرطة ورجال الداخلية بسبب ساديتهم في ورطة كبيرة وذلك عندما قام بعضهم بتصوير أنفسهم وهم يعتدون على بعض المواطنين داخل أقسام للشرطة على سبيل”التسلية والمرح”. وصلت هذه التسجيلات بطريقة ما إلي أيدي المدونين ومنهم إلي الصحافة، وفجأة وجد الضباط أنفسهم محاصرين بالاتهامات من كل جانب. وللمرة الأولى تتوافر الأدلة المادية التي تظهر بوضوح تام الجلاد والضحية أثناء ممارسة التعذيب، مما أربك الداخلية بشدة. وكما هي العادة لم يخل رد فعل الداخلية من الكوميديا. فقد نشرت إحدى الصحف أن أوامر صدرت داخل وزارة الداخلية بأخذ الهواتف المحمولة المزودة بكاميرا من المواطنين أثناء وجودهم داخل القسم، وأيضاً الحرص على عدم التعدي على أي من المواطنين في الشارع تحسباً لأن يكون أحد المارة يحمل هاتفاً مزوداً بكاميرا!
الفترة الأخيرة بدأت تشهد حالات مقاومة لممارسات الشرطة، من أبرزها حالة السائق عماد الكبير، الذي رفع دعوى على نقيب وأمين شرطة بقسم شبرا الخيمة لهتكهما عرضه وتصوير ذلك وتوزيعه على سائقي الميكروباص. من ناحية أخرى بدأت صحافة المدونين والصحافة المستقلة والحزبية في ملاحقة جرائم رجال الداخلية. ويبدو أن انتشار المدونات وثقافة التدوين والهواتف المزودة بكاميرات سيتسبب في إزعاج شديد للداخلية مما سيضطرها إلي التخلي عن رجالها في كثير من الحالات. ولكن إذا كان الفضح والتشهير ومحاولة اللجوء للقانون خطوة على طريق التصدي لجلادي الداخلية، فالخطوة الحاسمة لن تأتي سوى بتكاتف “المعذبون في الأرض”. فعندما تجد الداخلية أقسام الشرطة محاصرة بالجماهير الرافضة لممارسات رجال النظام، وقتها سيعلم هؤلاء الذين يستمتعون بتعذيب البشر أن دوام الحال من المحال، طالما هناك من يقاوم.