المحاكمات العسكرية: مطلب للنظام.. خصخصة للقضاء
دخل صراع النظام وجماعة الإخوان المسلمين منعطف جديد يحمل عنوان المحاكم العسكرية. ففي خطوة تجسد ازدراء النظام المروع للقانون ولأحكام القضاء، أصدر رئيس الجمهورية، بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة، قرارا بإحالة النائب الثاني للمرشد خيرت الشاطر و15 آخرين من أعضاء الجماعة إلى المحكمة العسكرية. جاء ذلك في 6 فبراير الماضي، أي بعد أسبوع من قرار قاضي المحكمة الجنائية (القاهرة) بإسقاط كافة التهم المنسوبة إليهم والإفراج عنهم.
تجدر هنا الإشارة إلى قرار النائب العام عبد المجيد محمود الصادر في يوم 28 يناير الماضي، قبل يوم واحد من إصدار القاضي الطبيعي للقضية لحكمه بالإفراج، بتجميد كافة ممتلكات الشاطر و28 آخرين، إستنادا إلى قيامهم بتمويل منظمة سياسية محظورة. الأمر الذي يفضح التدخل الصريح من قبل السلطة التنفيذية في مسيرة “العدالة”. ولم يقف الأمر عند حدود العرض العسكري الذي قام به طلبة الأزهر من أعضاء الجماعة في 14 ديسمبر 2006، فشمل قرار رئيس الجمهورية 24 قضية أخرى، ليصل عدد المقدمين للمحكمة العسكرية من أعضاء ذات الجماعة إلى 32 شخص.
خلفية المحاكم العسكرية
ارتبطت المحاكم العسكرية في أذهان الكثيرين بتصاعد الحركة الإسلامية الجهادية في تسعينات القرن الماضي. ففي عام 1992 بدأت الحكومة بتحويل “قضايا الإرهاب”، المتعلقة إما بالأشخاص المتهمين بنشاط إرهابي أو بعضوية جماعات إرهابية، إلى المحاكم العسكرية ليتم الفصل فيها بعيدا عن القضاة الطبيعيين.
وفي عام 1993 حكمت المحكمة الدستورية العليا بأن لرئيس الجمهورية الحق في إحالة أي جريمة إلى المحكمة العسكرية. تزامن ذلك مع صدور العديد من التصريحات الحكومية التي تؤكد على أن المحاكمات في المحاكم المدنية تؤدي إلى تطويل فترة التقاضي فضلا عن تعرض رجال القضاء وأسرهم إلى تهديدات إرهابية. عمليا، أدى ذلك إلى حرمان مئات المدنيين من حق المثول أمام قاضيهم الطبيعي منذ عام 1993.
الأصل في قانون الأحكام العسكرية، وفقا لنص المادة الرابعة منه، اقتصار تطبيقه على المجموعات التالية: ضباط القوات المسلحة وضباط الصف وجنود القوات المسلحة عموما، سواء الرئيسية أو الفرعية أو الإضافية أو الاستثنائية بمعنى المنشأة بأمر من رئيس الجمهورية لتأدية خدمة ما، وطلبة المدارس ومراكز التدريب المهني والمعاهد والكليات العسكرية، وعسكريو القوات الحليفة أو الملحقين بهم الموجودين على أراضي مصرية، وأخيرا المدنيين العاملين بأي صيغة في وزارة الحربية.
كما أن الجرائم التي كان يحق للمحاكم العسكرية الفصل فيها، ما قبل صدور قرار المحكمة الدستورية، كانت تلك الموجهة ضد أمن وسلامة ومصالح القوات المسلحة فقط، أي تلك التي تخترق القوانين المنصوص عليها في قوانين الخدمة العسكرية والوطنية أو التي تقع في مواقع عسكرية – المواقع التي ترتبط بمصالح القوات المسلحة مباشرة كالمعسكرات والثكنات والمؤسسات والمصانع والسفن والطائرات وسائر الأشياء التي يشغلها عسكريون.
عساكر لا قضاة
يمكننا القول بأن الانتقادات والمناشدات والتقارير الدولية لم تكف عن النظر في شأن المحاكم العسكرية في مصر منذ صدور القانون. ففي يوليو1993، أعربت لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة عن قلقها العميق إزاء محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية، وخلصت إلى أنه “لا يجوز أن تملك المحاكم العسكرية القدرة على النظر في قضايا لا تشير إلى جرائم ارتكبها أفراد في القوات المسلحة في سياق أدائهم لمهامهم”. تعتبر لجنة حقوق الإنسان المذكورة أعلاه الجهة المنوطة بمتابعة مدى امتثال مصر للعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي صدقت عليه في عام 1982، والذي ينص على “أن تكون محاكمة المدنيين من قبل محاكمات عسكرية أمر استثنائي للغاية، ويحدث فقط في ظروف تتوفر فيها الإجراءات القانونية”. هذا وقد سجلت التقارير السابقة واقع أن أطول فترة محاكمة عسكرية في الفترة ما بين عام 1993 و1998 استغرقت 22 يوما، بالرغم من اشتمالها على أحكام بالإعدام.
وقالت منظمة العفو الدولية في عام 2002 إن “المحاكمات التي تجري أمام المحاكم العسكرية تنتهك المقتضيات الأساسية للقانون الدولي للمحاكمات العادلة، بما في ذلك الحق في المحاكمة أمام محكمة مختصة ومستقلة ونزيهة تشكل بموجب القانون، والحق في تقديم استئناف إلى محكمة أعلى”. فلا تخضع جميع الأحكام الصادرة عن المحاكم العسكرية لإشراف محكمة عليا (نقض أو استئناف) تراقب سلامة تطبيقها للقانون، بل لإعادة النظر من جانب مكتب الاستئنافات العسكري، وهو هيئة مؤلفة من قضاة عسكريين، وللمصادقة من جانب رئس الجمهورية، الذي يحق له أن يغير أو يلغي القرار الصادر عن المحكمة، بما في ذلك قرار إطلاق سراح المتهم. لكن من البديهي أن مثل هذا النوع من القرارات غير وارد من الأصل.
المحاكم العسكرية أشبه بالمجالس العسكرية فهي لا تمت للقضاء بصلة. وقانون المحاكم العسكرية ينص على ذلك صراحة وبأشكال متعددة، أولها، اعتبار المحاكم العسكرية إحدى إدارات القيادة العليا للقوات المسلحة بحسب المادة الأولى من القانون. أما ثانيها، فهو كون من يتولى الإدارة العامة بالقضاء العسكري ضابط مجاز في الحقوق يتبع وزير الدفاع مباشرة، الأمر الذي يخرق المادة 166 من الدستور التي تنص على أن “القضاة مستقلون لا سلطات على قضائهم لغير القانون ولا يجوز لأي سلطة التدخل في القضايا أو في شؤون العدالة”. ثالثها، أن قضاة المحاكم العسكرية يعينون لمدة سنتين قابلة للتجديد بقرار من وزير الدفاع وهو ما يتعارض مع مبدأ عدم قابلية القضاة للعزل. باختصار، القضاة العسكريون يخضعون لكافة قوانين الخدمة العسكرية، وهو ما يعني أن القاضي العسكري هو ضابط أولا وأخيرا، ويخضع كسائر الضباط لأحكام انضباطية، تجعله عرضة للتدخل في عمله، وبالتالي غير مؤهل على الإطلاق للفصل في قضايا المدنيين. ففي عام 2001 سجل تقرير لجنة حقوق الإنسان قيام المحاكم العسكرية بإصدار أحكام إعدام ضد 160 مواطن مصري خلال عامين فقط!
أداة لقمع المعارضة
من المعروف، أن قرارات إحالة المتهمين المدنيين إلى المحاكم الاستثنائية جاءت في سياق حالة الطوارئ المعلنة دون انقطاع منذ عام 1981، بعد حادث اغتيال السادات. وطالما، أكدت الحكومة أن قرار الإحالة لهذه المحاكم مقصور على قضايا الإرهاب أو قضايا الأمن القومي، بالإضافة إلى القضايا الكبرى للاتجار في المخدرات. رغم ذلك كثيرا ما شهدنا لجوء الحكومة لاستخدام المحاكم الاستثنائية في محاكمة أناس يصعب درجهم ضمن التصنيفات السابقة، مثل الجماعات الدينية المتهرطقة والمثليين.
وقد وصفت منظمة العفو الدولية بعض بنود القوانين الخاصة بمعاقبة جرائم “الإرهاب” بكونها “فضفاضة وغامضة بشكل يبعث على القلق”. يجدر هنا استعراض أجزاء مما يشمله تعريف المادة 86 من قانون العقوبات للإرهاب: “إلحاق الضرر بالبيئة أو بالاتصالات أو المواصلات أو بالأموال أو المباني أو بالأملاك العامة أو الخاصة، أو احتلالها أو الاستيلاء عليها أو منع أو عرقلة ممارسة السلطات العامة.. أو تعطيل تطبيق الدستور”.
في هذا الإطار القانوني الفضفاض، صدر حكم المحكمة العسكرية بالسجن لمدد تتراوح من 3 إلى خمس سنوات ضد 60 عضو مزعوم للإخوان في العامين 1995 و1996، الفترة التي سبقت وتلت الانتخابات البرلمانية لعام 1995. وتكرر ذات السيناريو ما قبل الانتخابات البرلمانية لعام 2000 بتقديم مرشح الجماعة عن دائرة حي شبرا الخيمة حسين الدرج للمحاكمة العسكرية مع عشرات الأعضاء الآخرين. أما في نوفمبر 2001 فصدر مرسوم رئاسي بتحويل 22 من أعضاء الجماعة المهنيين -أساتذة جامعة ومهندسين وأطباء- إلى ذات المحاكم. بحسب جريدة الجمهورية ( الصادرة بتاريخ 14 نوفمبر 2001) تضمنت التهم المنسوبة إلى المتهمين “وضع الخطط المستقبلية لتحركات الجماعة لحث الجماهير على السخط على النظام والاحتجاج على ضرب أفغانستان..”.
النظام يحكم قبضته
لا يمكن فصل خطوة النظام الأخيرة عن سائر المعطيات السياسية الراهنة، عبر القول بأن المحاكم الاستثنائية أمر اعتيادي في مصر-بالرغم من حقيقة لجوء النظام المتكرر لاستخدامها في تصفية حساباته السياسية. يمكننا تلخيص أبرز تطورات حركة التغيير الديمقراطي في ثلاث نقاط: تراجع الإمبريالية الأمريكية عن دعمها للديمقراطية في مصر ما بعد صعود حماس إلى سدة الحكم في سبتمبر 2005 وحدوث انشقاق في صفوف النخبة الحاكمة تمثل في حركة القضاة للمطالبة باستقلالهم في مايو 2006 وظهور مبادرات لا تعول على المنظومة الشرعية للمعارضة – سواء على مستوى النخب السياسية والصحفية أو على مستوى الحراك العمالي المكتسح.
على هذه الخلفية يحاول النظام تقويض جماعة الإخوان المسلمين بحيث يحول دون تكرار ما حدث في الانتخابات البرلمانية لعام 2005 – والتي شهدت صعود 88 من أعضاء الجماعة – في انتخابات المجالس المحلية التي أرجأت إلى عام 2008. جدير بالذكر، أن التعديلات الدستورية أعطت صلاحيات أكبر للمجالس المحلية بمجال أخذ القرار وأضعفت من مركزية الدولة في مقابل تهميش دور القضاء في الإشراف على الانتخابات. هنا تجدر الإشارة إلى قيام القاضي الطبيعي، رئيس محكمة الجنايات بالقاهرة، للمتهمين بقضية العرض العسكري للإخوان بتسجيل طلبه باحترام الحكومة -ذكرها إسما- لقراره بإسقاط التهم والافراج عن المتهمين.
كما تتزامن خطوة النظام محل النقاش مع التجهيز لإصدار قانون الوظيفة العامة بالدولة الذي يستهدف إلغاء الهيكل الوظيفي وتشريد الملايين. هنا تجدر الإشارة إلى جزء من مقال عنوانه “إعدام الدولة المصرية” للكاتب عبد الحكم دياب (القدس العربي اللندنية 14 فبراير) كتب فيه، “والوظيفة الوحيدة المخطط لها أن تبقي علي أنقاض الدولة، هي وظيفة الشرطة والأمن، شيء أشبه بالسلطة الفلسطينية”.