بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

المجتمع المدني وانحطاط اليسار

لقد تضمن نشاط الاشتراكية – الديمقراطية الثورية على الدوام النضال من أجل الإصلاحات. لكنها تستخدم التحريض “الاقتصادي” لا لمطالبة الحكومة باتخاذ إجراءات بعينها وفقد، بل لمطالبتها كذلك (وقبل كل شيء) بأن تكف عن أن تكون حكومة إستبدادية. وهي، بالإضافة إلى ذلك، ترى من واجبها أن تقدم للحكومة هذا الطلب لا على صعيد النضال الاقتصادي وحسب، بل كذلك على صعيد جميع مظاهر الحياة السياسية والاجتماعية بوجه عام. إنها باختصار، تخضع النضال من أجل الإصلاحات، بوصفه جزءًا من كل. للنضال من أجل الحرية والاشتراكية.
لينين – ما العمل؟

من المؤكد، أن عددًا غير قليل من الأصدقاء “اليساريين” يعتبرون تصدير مقالة سياسية بمقتبس من (ما العمل؟)، أمر يدعو للرثاء والسخرية. حيث لازال هناك – من وجهة نظرهم – من يرتلون الشعارات اللينينية المحفوظة ويصدرون بها كتاباتهم!!. الغريب حقًا في أمر هؤلاء الهازئين، أن أحدًا منهم لا يهتم إلى النظر في عمق السياسة الثورية التي يطرحها لينين في الفقرة السابقة. على الرغم من أنهم جميعًا يصنفون أنفسهم كيساريين ثوريين!!. فغالبًا ما يخطئ العديد من المناضلين في فهم الفارق ما بين الإصلاحيين والثوريين. فالإصلاحيون ليسوا هم من يناضلون من أجل الإصلاحات، بينما يرفع الثوريون شعارات الثورة. الاشتراكيون الثوريون يرون في النضال من أجل الإصلاحات خطوة الفارق بينهم وبين الإصلاحيين، يكمن في أن الآخرين يسعون لكسب الإصلاحات كهدف في ذاته، بالتنسيق من البرجوازيات أحيانًا، والتهادن معها في معظم الوقت، وبالقدر الذي تسمح هي به. أما الثوريون فإنهم يخضعون النضال من أجل الإصلاحات للنضال الثوري، ويكون نضالهم الإصلاحي في جوهره عملية لحشد تعبئة الجماهير العمالية لانتزاع حقوقها وفرض مطالبها.

المجتمع المدني مؤسسات منفصلة عن الصراع الطبقي تلعب دورًا في تغريب الطبقة العاملة عن أدوات نضالها

تبدو مساحة اليسار “الراديكالي” في مصر اليوم، وقد امتلأت بنماذج عديدة من الذين سلطت عليهم سياط النقد اللاذع في الأدبيات اللينينية الشهيرة. فسوف نجد على الساحة مراجعي الماركسية، الذين يرفعون شعار “حرية النقد والتجريب”. وسوف نجد أيضًا الإصلاحيين الانتهازيين المستعدين للتواطؤ على الحركة العمالية، من أجل مقعد في البرلمان أو منصب متقدم في التنظيم النقابي المنحط. وسوف نجد الاقتصاديين المبتذلين المشغولين بعدد صفائح السمن و علب الحلوى، التي توزع على العمال سنويًا. وأخيرًا فإننا سنجد الأطفال المغامرين اليساريين، الذي يكتفون بترديد المبادئ الثورية، دون أن يملكوا، أو يحاولوا امتلاك، سياسة ثورية للانخراط في الصراع الطبقي وتجذيره.

ليس فقط ما يجمع هؤلاء، هو سخريتهم من تصدير مقالة سياسية بمقتبس لينيني، بتحدث عن موقف الاشتراكية – الديمقراطية الثورية من النضال الإصلاحي. لكن الأسوأ هي الممارسة الإصلاحية المهادنة المنحطة، التي تربط بينهم على الأرض فعلى الرغم من اختلافهم حول المبادئ والمواقف والتوجهات، إلا أنهم جميعًا يتشاركون الآن في تأسيس شبكة من المؤسسات المغلقة المنفصلة عن الصراع الطبقي، التي تمارس أنشطة ذات طابع خدمي أو تنويري. تتذيل البرجوازية، وتدعمها في بسط سيطرتها الاجتماعية وتأمين سلطتها، وذلك بالنشاط في أحد مجالين:-

  • تقديم خدمات للجماهير المحرومة، تلبي بعض احتياجاتها. مما يثبط قدرة تلك الجماهير على النضال من أجل انتزاع مطالبها.
  • تأسيس أدوات دعاية للأفكار “الحرة” بعيدًا عن محتواها السياسي والاجتماعي. مما يؤخر فرصة إنضاج الوعي الطبقي لدي الجماهير.

باختصار مؤسسات تلعب دورًا في تغريب الطبقة العاملة عن أدوات نضالها، وتحسين شروط الهيمنة للدولة المستبدة. نوادي سينما ودور حضانة ومراكز للخدمات العمالية وفصول محو أمية وجمعيات للمحافظة على البيئة ومنظمات لحقوق الإنسان. إلى آخر ما اصطلح على تسميته بمؤسسات المجتمع المدني، أو باسمها الحركة الجديد “العمل الأهلي الديمقراطي”.

صدرت منذ ما يزيد على عام ورقة سياسية غير موقعة بعنوان “نحو ميثاق شرق للعمل الأهلي الديمقراطي”، في سياق الرد على حملة الدعاية الحكومية ضد منظمات ومراكز حقوق الإنسان. حاول صاحب الورقة أن يوجز في خاتمتها تصوره عن أسباب نمو ظاهرة المجتمع المدني عالميًا في السنوات الأخيرة. وأحال ذلك إلى المراجعة التي تتم على نطاق واسع لما يسمى “بالدولته”، بعد انهيار وفشل النماذج المختلفة للدولة التي عرفت في الخمسينات والستينات، في العالم الثالث والشرق والغرب. هذه المراجعة التي أدت إلى فكرة (… إن اعتلاء قوة سياسية، مهما كان برنامجها لقمة جهاز الدولة البيروقراطي لا يكفي في حد ذاته لكن تطوع هذه الدولة لخدمة الجماهير…) وبالتالي فإن الدرس المستفاد هو (بناء أجهزة للسلطة الشعبية تقوم على التنظيم الذاتي للمضطهدين، تشكل هدفًا في حد ذاته، وليس مجرد أدوات للوصول إلى سلطة الدولة..) وبصرف النظر عن مسألة “التنظيم الذاتي للمضطهدين”، التي تأخذ في الممارسة مسارًا عكسيًا نتيجة لطبيعة الحركة ذاتها، كما سببين لاحقًا، فإن مضمون الفكرة السابقة يعبر عن جوهر الإصلاحية المنحطة، التي يبشر بها “رواد العمل الأهلي الديمقراطي”. وعلينا لإدراك هذا المضمون بصورة صحيحة، أن نتعرف على السياق التاريخي الذي أنتج مشروع المجتمع المدني.

خلال الستينات وحتى النصف الأول من السبعينات، ازدهرت الحركة الإصلاحية في الغرب بدرجة كبيرة. وارتبط ذلك موضوعيًا بقدرة الرأسمالية العالمية وقتها على تقديم إصلاحات من جهة، ومن جهة أخرى بقوة وتماسك الطبقات المتوسطة في فترة صعودها واستقرارها. وهي الطبقات التي كانت السند الرئيسي لحركات المرأة والبيئة والحقوق المدنية.. وغيرها. نجحت الإصلاحية في ذلك الوقت، في حشد وتعبئة الجماهير في حركات شعبية واسعة، نظمت جموع المضطهدين في مواجهة أنماط اضطهادهم. وفي خضم المد الجماهيري، وكاحتياج موضوعي للجماهير المتذمرة، ظهرت في قلب الحركة مؤسسات محترفة تعمل على تطوير ودعم قدرة الجماهير على انتزاع مطالبها. وحصلت بالتالي على دعمها المادي والسياسي من خلالهم، ونظمت كوادرها من بين صفوفهم، (مكاتب للدفاع ومراكز للدراسات ومنظمات للتأهيل..وما شابه).

بدءًا من السبعينات، عادت إلى الظهور مجددًا الأزمة الاقتصادية الرأسمالية لتعصف أساسًا برأسمالية الدولة، هذه الظاهرة التي انتشرت في العالم بصور مختلفة منذ منتصف الأربعينات، كحل تاريخي لأزمة رأسمالية سابقة. واحتاجت البرجوازية العالمية في مواجهتها للأزمة الجديدة، إلى تجاوز رأسمالية الدولة.

من جانب كان يعني هذا التجاوز إعادة مركز رأس المال عبر الشركات متعددة الجنسية، في اتجاه سوق عالمي واحد. ومن جانب آخر كان يعني التخلي عن مجمل الإصلاحات التي انتزعتها الجماهير المضطهدة في ظل دولة الرفاهية. وتسبب ذلك في تراجع الطبقات المتوسطة إلى الوراء، ومعها تراجعت الحركات الإصلاحية وفقدت الكثير من ثقلها الجماهيري.

مع احتدام الأزمة ازدادت البرجوازية شراسة. وظهرت الليبرالية الجديدة كتنظير إيديولوجي يبرر لها شراستها. فبينما دافع الليبراليون الجدد عن تدمير رأسمالية الدولة، على أساس كونه تدمير لدولة الاستبداد والقمع، تغافلوا عن الجانب الآخر من ذات العملية، الذي يتم فيه سحق الجماهير العمالية بتحميلها عبء الأزمة الاقتصادية، وانتزاع كافة الإصلاحات منها، تلك التي اكتسبتها عبر نضالاتها الطويلة.

لم يكن من الصعب بحال أن تلتقي تنظيرات الليبرالية الجديدة، مع المؤسسات المحترفة التي خرجت من قلب الحركة الإصلاحية، وكوادرها من الناضلين اليساريين المتقاعدين. فبعد تراجع الزخم الجماهيري فقدت تلك المؤسسات القوى الاجتماعية الداعمة لها سياسيًا وماديًا. وكان من الطبيعي أن تنجرف باتجاه القوى الاجتماعية المهيمنة القادرة على أن توفر لها هذا الدعم. وتتبنى كوادرها بالتالي التنظيرات السائدة لتلك القوى. وعلى الأرض خرج مشروع المجتمع المدني كتجسيد ملموس لهذا اللقاء. حيث لا داعي لمحاربة الدولة الرأسمالية المستبدة المستغلة، طالما أن الدولة أي دولة ستكون بالضرورة مستبدة وقامعة. والحل هو التعايش معها وخلق مؤسسات للمراقبة والمفاوضة لتحمسين شروط الاستغلال والقهر.

لقد تمرد هؤلاء اليساريون المتقاعدون على مشروع الدولة الستالينية. لكن تمردهم ذلك لم ينطلق من وعي طبقي ثوري بطبيعتها، إنما نطلق من رؤية يمينية متخاذلة، ترى أن الدولة مؤسسة بيروقراطية بالضرورة، بصر النظر عن محتواها الطبقي وعلاقات الإنتاج المهيمنة، والطبقة المسيطرة على عملية الإنتاج. والمجتمع المدني هو الأداة الموضوعية الوحيدة المؤهلة لمواجهة استبدادها. وبعد أن كان هؤلاء الكوادر آداه لتطوير قدرة الجماهير، انحطوا وتحولوا إلى ذيل للبرجوازية الغربية، يلعبون دورًا مختلفًا بتثبيط حركة الجماهير وحرفها.

إن صاحب ورقة “العمل الأهلي الديمقراطي” أراد أن يقول لنا ببساطة في خاتمة ورقته، أن سقوط الستالينية في الشرق والإصلاحية في الغرب وحركات التحرر الوطني في العالم الثالث، يؤدي في رأيه – ورأى المدافعين عن مسألة المجتمع المدني – إلى ضرورة إعادة النظر في مهمة إسقاط الدولة المستبدة (مشروع الثورة). لأن ذلك سيؤدي بالضرورة إلى نتائج عكسية ضد مصالح الجماهير!!. واستبدالها بمهمة تأسيس مؤسسات قادرة على التعايش مع تلك الدولة، تلعب دور المراقب والمفاوض وتعمل على تحسين شروط الاستبداد!!.

الواقع أن المدافعين عن مسالة المجتمع المدني في مصر ليسوا – بأيه درجة – أقل انحطاطا من نظراتهم في الغرب. على الرغم من اختلاف السياق التاريخي لإنتاج الظاهرة في مصر. ولابد لنا أن ندرك أولاً أن تلك الظاهرة المنتشرة عالميًا اليوم، أكثر اتساعا من شراذم اليساريين والإصلاحيين، بقايا الحركات المدنية الإصلاحية البائدة. حركة المجتمع المدني في مصر تضم مؤسسات عديدة نبتت على أرض البرجوازية الجديدة مباشرة. وتضم أيضًا الكثير من المؤسسات والجمعيات المرتبطة تاريخيًا ببيروقراطية الدولة، وأعدادًا واسعة من المنظمات والهيئات المنتمية لمراكز دولية على علاقة وثيقة بالإمبريالية وأجهزة مخابراتها. والغالبية العظمى من العاملين داخل تلك الشبكة الواسعة، موظفين محترفين غير منتمين سياسيًا بالمرة.

لكن هناك من ينظرون لهذا المشروع. يطرحوه ويؤسسوه كبديل سياسي، حتى لو لم يعلنوا ذلك صراحة. هنا سوف يتعلق الأمر مباشرة بحركة اليسار الراديكالي في مصر. ونحن بالطبع لا نستطيع أن نضع الجميع في سلة واحدة. فعلاقة اليسار في مصر بمسألة المجتمع المدني ذات أوجه متعددة. ويمكن رصد اتجاهين رئيسيين داخل الحركة، يعبر كلاً منهما عن علاقة مختلفة بالمسألة. هناك من انحازوا لمشروع المجتمع المدني في مواجهة الثورة، كاختيار سياسي لمشروع طبقي مختلف – مثل صاحبنا كاتب ورقة “العمل الأهلي الديمقراطي” – وبصرف النظر عن احتفاظ هؤلاء بوجاهتهم اليسارية، إلا أنهم يتبخترون بالفعل على أرضية اليمين السياسي وغارقين حتى آذانهم في مشروع البرجوازية. لقد تحول العمل السياسي، بالنسبة لهم، من مهمة نضالية إلى كاريير مهني وآداه للتحقيق الفردي. بعض هؤلاء لا يسعى إلى مكاسب مادية مباشرة، بقدر ما يسمى للحصول على حيثية اجتماعية. والبعض الآخر مرتزقة منتفعون بالأموال الغفيرة المتدفقة من مؤسسات التمويل الإمبريالية. عمال مناضلون انصرفوا عن النضالات المصنعية، وبدءوا يسعون لكسب الرزق عند المؤسسات الداعمة لكسر الإضرابات. ومثقفون ثوريون تخلوا عن مشروع الثورة، وقرروا أن يوفروا لأنفسهم سبل العيش بتسويق علاقاتهم السياسية ونضالاتهم السابقة لدى مؤسسات التمويل الغربية، وغيرهم.

الموقف الوطني الراديكالي “اللا أممي” من القضية الوطنية انحراف باليسار الصاعد في اتجاه مشروع استبدالي

الاتجاه الآخر في الحركة، كوادر يسارية اندفعت باتجاه مشروع المجتمع المدني، كجزء من نشاط تنظيماتها، وكنتيجة للطابع الاستبدالي الحلقي في مشروعها السياسي ذاته. وعلينا في سبل الوصول إلى تحليل صحيح للظاهرة، أن نستكشف الآليات السياسية والتنظيمية، التي دفعت أعدادًا كبيرة من الكادر اليساري – المنتمين تاريخيًا لما أصطلح على تسمية بالحركة الشيوعية الثالثة – للانخراط في أنشطة المجتمع المدني منذ نهاية ا لثمانينات ومطلع التسعينات. والبحث عن جذور الظاهرة في السياق التاريخي لمشروع اليسار الراديكالي في مصر. من المؤكد أن رصد وتحليل التطور السياسي للحركة الشيوعية الثالثة تاريخيًا وطبقيًا، مهمة أكبر حجمًا من هذا المقال، ولا يمكن إجمالها في صفحاته المحدودة. لكن ما سنحاوله هو تحديد بعض العناصر الجوهرية، التي أنبتت في رحم الحركة جنين مشروع المجتمع المدني. سواء بسبب إستمرار عناصر بعينها داخلها في كل المسارات التي اتخذتها، أو بسبب انقطاع عناصر أخرى عند منعطفات تاريخية محددة.

لقد اتخذت المنظمات والحلقات الثورية، التي ظهرت في مطلع السبعينات في قلب كلاً من الحركة الطلابية والحركة العمالية الصاعدتان، خطأ ثورية معاديًا بصورة جذرية للخط النهائي التوفيقي لليسار القديم. واستقطبت حول هذا الخط أعدادًا واسعة من الكوادر الشابة المنخرطة في المنظمات القاعدية، التي انتشرت وقتها بدرجة كبيرة ( اللجان الوطنية للطلبة ولجان مندوبي العمال). وعلى أرض النضالات القاعدية عبر الخط عن نفسه برؤية طبقية ملموسة في مواجهة رأسمالية الدولة الناصرية. وارتبطت المعركة الطبقية بالقضية الوطنية – المحتدمة من ذلك الوقت – منذ اللحظة الأولى. لكن بسبب روافد سياسية وتاريخية عديدة، أنحفر في خضمها مجرى الحركة الصاعدة – لا مجال هنا لرصدها -، انخرطت التنظيمات الثورية الوليدة في المعركة الوطنية، انطلاقًا من موقف وطني راديكالي، لا أممي في عدائه للإمبريالية. ولم تستطع أن تمد رؤيتها لطبيعة الدولة الناصرية، وموقفها الطبقي منها على استقامتها بحيث ترتبط بالصراع الطبقي عالميًا على أرضية أممية ثورية.

على الرغم من الموقف الطبقي الجذري من الدولة الناصرية، إلا أن الحركة حافظت على رؤية لا طبقية لا تاريخية لأنظمة الحكم البرجوازية البيروقراطية على مستوى العالم. وأدى الموقف اللا أممي والرؤية اللا طبقية هذان، إلى تبني الحركة لنموذج سياسي معادي في جوهره لانتصار الثورة العمالية عالميًا. وانعكس ذلك في تأسيس مشروع سياسي استبدالي في قلب المعركة الطبقية للحركة. فالحزب العمالي الثوري وليست الطبقة العاملة، هو المسئول عن انجاز الثورة. وحكومة الحزب العمالي الثوري وليست الديمقراطية العمالية، هي المنوط بها بناء الاشتراكية. ووقعت الغالبية من كوادر الحركة – وهم في معظمهم طلاب جامعات من أبناء الطبقات الوسطى – أسيرة التناقض موضوعي في فاعليات الحركة ذاتها. ما بين الموقف الثوري المعادي لنظام الحكم، وبين الانحياز السياسي لمشروع استبدالي يقوم – في حال نجاحه – بإعادة إنتاج كافة أنماط الاستغلال والقهر.

مع تراجع الحركة العمالية بعد عام 1977 تفاقم النزوع الحلقي العصبوي لدى المنظمات اليسارية

في النصف الأول من السبعينات أو أن احتدام الصراع الطبقي، حسم هذا التناقض لصالح جانبه الأول، بانتهاج سياسة طبقية ثورية في مواجهة الدولة والنظام الحاكم. ومع تراجع الحركة العمالية في النصف الثاني من السبعينات، وبالتحديد بعد العام 1977، تحول التناقض إلى صالح الجانب الآخر منه. وانعكس المشروع الاستبدالي في سياسة حلقية عصبوية على مستوى التنظيم، والحركة. استمرت كسمة رئيسية في المنظمات اليسارية طوال العشرين عامًا الماضية. والمقصود بالحلقية هنا، ليس مجرد التنافس على كسب العناصر، لكن بمعنى أن يكون التنظيم وضرورات نموه هو جوهر وهدف السياسية التي يجب إتباعها.

في أواخر السبعينات، بعد انحسار المد الطبقي ظهر الشعور بالعزلة عن الجماهير داخل أوساط الحركة بشكل عام. لكن نتيجة لهيمنة الرؤية اللا طبقية والمشروع الاستبدالي، لم يكن ممكنًا إنتاج معرفة ثورية بالدوافع الموضوعية والذاتية المسببة لحالة العزلة. وأيضًا لم يملك أحد القدرة على تقديم إجابة ؛د القوأملموسة على الأرض، لمعضلة بناء حزب ثوري في لحظات الجذر في الصراع الطبقي. وأصبحت المهمة هي تدعيم الوجود الذاتي لتلك التنظيمات بانفصال عن ساحة الصراع. وانسحب الكادر إلى الداخل بعيدًا عن العمل الجماهيري، ليغرق في الآليات التنظيمية الضيقة ويعيد إنتاج عزلته. خلال السنوات التالية تفاقم الشعور بالاختناق الداخل. ودخلت المنظمات اليسارية في حالة من عدم التوازن. عبرت عن نفسها في انفجاريات متعاقبة لبعضها. وإعادة حسابات مصاحبة لانهيارات داخلية في البعض الآخر، وانحراف في اتجاه العمل المسلح لدى كثير من المناضلين الرومانسيين.

في 1984 انطلقت موجة جديدة من المدن في الصراع الطبقي، بدأت بإضراب كفر الدوار. واندفع الكادر في محاولة الارتباط بالنضالات الطبقية. ونتيجة لحالة الضعف التي كانت عليها التنظيمات الراديكالية، وتحت ضغط الشعور بضرورة الخروج من فخ العزلة، ظهرت على السطح حالة من الانفكاك التنظيمي. وكما العادة في كل تاريخ الحركة الشيوعية في مصر، في كل مرات الضعف يتم طرح مشروع وحدة الشيوعيين. وكأن الوحدة في ذاتها قادرة على تجاوز مأزق المشروع السياسي للحركة. وتحقق الأمر هذه المرة بتوحيد معظم الحلقات الراديكالية الموجودة داخل إطار “حزب العمال الشيوعي الموحد”. واندفع النشطاء في مسارات متعددة البعض حاول التفاعل مع الحركة العمالية الصاعدة. والبعض الآخر اتجه على تأسيس أنشطة ذات طابع ديمقراطي عام (الدفاع عن حقوق الإنسان أو قضايا المرأة أو البيئة). انطلاقًا من وجهة نظر ترى أن أزمة الحركة الشيوعية تكمن في إهمالها لقضايا العمل “الديمقراطي”. وأن التجارب “الاشتراكية” من ناحية، والنظرية الماركسية ذاتها من ناحية أخرى، للديمقراطية الليبرالية كمنهج وكاتجاه حركة!!. (لاحظ أن هذه الفترة نفسها شهدت صعود جورباتشوف إلى السلطة في الاتحاد السوفيتي السابق، وبدالية مرحلة البيرسترويكا. وأيضًا صعود الليبرالية الجديدة في الغرب وانطلاقة مشروع المجتمع المدني).

وقع هؤلاء في انحراف مزدوج. من الناحية النظرية، أصبحت الماركسية – بالنسبة لهم – نظرية مستقلة ومنفصلة عن الصراع الطبقي. أي أنها لم تعد نظرية انتصار الثورة العمالية، إنما باتت مجموعة من التعاليم القديمة المجردة، التي تحتاج إلى تطوير وتحديث لتصبح قادرة على مواكبة العصر. ومن الناحية العملية كان اندفاعهم باتجاه العمل “الديمقراطي”، استدعاء لنموذج المجتمع المدني الصاعد في الغرب في تلك الفترة (المؤسسات المغلقة المنفصلة عن الصراع الطبقي). وليس محاولة استنهاض النضالات الذاتية للجماهير حول قضايا الديمقراطية.

على الرغم من حالة المد في الصراع الطبقي خلال النصف الثاني من الثمانينات. إلا أن المأزق الذي لم يكن أحد قادر على تجاوزه داخل اليسار الراديكالي، والذي أعاق إمكانية الارتباط الإيجابي بالحركة العمالية الصاعدة، هو ذلك المشروع الاستبدالي والسياسة الحلقية الناجمة عنه، والذي أصبح مستقرًا تمامًا الآن داخل تلك المنظمات. الواقع أن مشروع الثورة انقلب في اتجاه عكسي، فبدلاً من أن تنطلق السياسة الثورية من الصراع الطبقي وضرورات الانخراط داخله، بهدف تأسيس حركة عمالية ثورية، وإخضاع النمو التنظيمي لهذا الهدف. أصبح التنظيم هو الهدف، فوق السياسية وفوق الصراع الطبقي، ومنفصل عنه بالضرورة. وبدلاً من التوجه إلى الجمهور على أساس كونه قطاعات اجتماعية مستهدفة، يجب الاشتباك معها في إطار معركة نضالية، أصبح الجمهور جماعة من حملة الأفكار، المهم هو التواجد داخلها لالتقاط العناصر من بينها التي تتبنى مبادئ التنظيم، وضمها إليه. وبدلاً من تحديد الوسائل الصحيحة من خلال علاقاتها بالغايات المنشودة، تم الفصل ما بين الوسائل والغايات. فالوسائل جميعها مشروعة طالمًا أنها تصل بنا على غاية محددة هي دفع النمو التنظيمي إلى الأمام. الحركة في ذاتها هي كل شيء، والمهم هو النشاط بصر النظر عن حالة الصراع الطبقي والأدوات الصحيحة للارتباط الثوري بالجماهير. تنظيم فصول لمحو الأمية، أو تأسيس منظمة لحقوق الإنسان، أو إصدار مجلة مصنعية، جميعها أنشطة إيجابية، لا فارق موضوعي بينها، ومعيار صلاحيتها الوحيد هو مدى ما يمكن أن تقدمه من عناصر جديدة إلى التنظيم.

بعد إضراب الحديد والصلب في 1989 تراجعت الحركة العمالية إلى الوراء من جديد. في ذات الفترة التي شهدت صعود الحركة الإسلامية الراديكالية، التي أصبحت قادرة على استيعاب حالة التذمر داخل قطاعات واسعة من الطبقات المتوسطة والبرجوازية الصغيرة التقليدية. وبدأت تنتهج سياسة تحرير المواقع في مواجهة النظام الحاكم، وفرضت سيطرتها على العديد من القوى الريفية والأحياء الهامشية في المدن. ومع انهيار الأنظمة الحاكمة في الاتحاد السوفيتي وأوروبا الشرقية وانتصار الشركات متعددة الجنسية وفرض هيمنتها على السوق العالمي، وانتفى تاريخيًا الأساس الموضوعي لرأسمالية الدولة البيروقراطية ومشروعها الاستبدالي. تأثرت حالة اليسار الراديكالي في مصر بمجمل تلك الظروف، لتفاقم أزمته الداخلية وتدفعه إلى المزيد من الانحطاط. واندفعت الكوادر المنخرطة في أنشطة المجتمع المدني، قدمًا إلى الأمام باتجاه مشروع طبقي مختلف، أصبح يمثل لها الفرصة الوحيدة للتواجد على الساحة والخروج من حالة الحصار.

كما حدث في الغرب، فمع تسريع البرجوازية المصرية لمعدلات الاندماج في السوق العالمي، والتخلي عن كل المكاسب التي حققتها الطبقة العاملة في ظل رأسمالية الدولة الناصرية. بدأ مثقفوها – البرجوازية – التنظير لليبرالية الجديدة، وطرح مشروع المجتمع المدني في مواجهة الدولة المستبدة. بهدف حرف الجماهير العمالية عن النضال الطبقي. ولم يكن من الصعب أن يلتقي المشروع المطروح مع هذا النفر من اليساريين المحبطين، الباحثين لأنفسهم من جانب – في سياق تراثهم الاستبدالي – عن مشروع سياسي بديل. ومن جانب آخر الغارقين حتى آذانهم في نشاطوية مبتذلة تعكس عصبويتهم وحلقتيهم التنظيمية. ولم يكن من يد أما الإصلاحية المنحطة، التي تؤسس وجودها على استبعاد نضالات الجماهير، من استجداء الدعم المادي والسياسي من البرجوازية، في لحظة تتدفق فيها الأموال على مصر من مؤسسات ذات علاقة وثيقة بالإمبريالية. باختصار لقد قرر فريق من اليسار “الراديكالي”، أن يكسر عزلته عن الجماهير بالتوقف عن أن يكون يسارًا. وانطلق في تأسيس حركة سياسية جديدة، بأدوات وأموال البرجوازية، وعلى أرضية انتهازية برجوازية صغيرة. ومع فيض الأموال القادم من خزائن الإمبريالية، انقسم الرفاق بسرعة شعار فبول الدعم الغير مشروط، من أجل دفع الحركة إلى الأمام. وفريق تطهري يأبى بشكل مبدأي قبول أي دعم يأتي من مؤسسات تابعة للإمبريالية.

من وجهة نظر فإن علينا كثريين، رفض سياسة التمويل الأجنبي، مشروطًا كان أم غير مشروطًا. وسواء آتي من “فورد فونديشن”، أو من أي مؤسسة لقيطة تابعة لها في هولندا أو كندا أو الدانمرك. لكن هذا الرفض يجب ألا يؤسس على رؤية تطهرية، ترفض الأموال الأجنبية لكونها أجنبية. إنما يجب أن ينطلق من موقف ثوري، يرفض هذه الأموال لرفضه ثوري، يرفض هذه الأموال لرفضه مشروع المجتمع المدني برمته. وعلينا في رأيي ألا نستدرج على مناقشة قضية التمويل الأجنبي بعيدًا عن محتواها السياسي والاجتماعي، في إطار أية مفاهيم أخلاقية تطهرية.

هناك جانبان محوريان في هذه القضية يجب ألا يتم النظر إليها إلا من خلالهما:-

أولاً: لا يمكن الفصل ما بين التمويل والحركة، فانحطاط مؤسسات المجتمع المدني لا يكمن في مجرد حصولها على تمويل أجنبي، بقدر ما يمكن في تذيلها للبرجوازية، مما يجعلها معتمدة على التمويل الإمبريالي لها. حتى تكون قادرة على تثبيط حركة الجماهير. بتقديمها للمضطهدين وأصحاب الحقوق، النشاط الخدمي أو التنويري، كبديل عن نضالهم هم أنفسهم من أجل مواجهة الاضطهاد، وانتزاع الحقوق.

ثانياً: لا يمكن الفصل ما بين التمويل وموقعة من الصراع الطبقي. فالقضية ليست في جنسية الأموال المتدفقة، إنما في الدور الاجتماعي لهذه الأموال. لو نظم عمال الصناعات الهندسية في مصر إضراب واسع للمطالبة بإصلاحات ما. ودعوا عمال الصناعات الهندسية في أي بلد أخر للتضامن معهم، بالتبرع لهم من أجل دعم الإضراب. سيكون هذا من وجهة نظر ثورية، خطوة إيجابية إلى الأمام في اتجاه نضج الوعي الأممي للطبقة العاملة. وعلينا كثوريين دعم هذا الاتجاه والدفاع عنه. فالأموال التي تتجمع من تبرعات بقروش قليلة، لمئات الآلاف من العمال في بلد ما، لدعم إضراب ينظم مئات الآلاف من العمال المصريين. تختلف جذريًا عن الأموال التي تخرج من خزائن البرجوازية، لدعم أنشطة تستهدف تغريب الطبقة العاملة عن أدوات نضالها. وسواء كان المتبرع هو بنك “روتشيلد” أو جمعية رجال الأعمال المصريين فلا فارق.

على أي جانب من المتاريس في الصراع الطبقي تتجمع الأموال؟ وإلى جانب من المتاريس تتدفق؟ وما هو الموقف الطبقي الذي تدعمه في ساحة الصراع؟ هذه هي الأسئلة الصحيحة، وهذا هو الأمر.

غالبًا ما سيطرح كثير من القراء نقدًا على هذه المقالة، أنها تقوم فقط بإدانة مشروع المجتمع المدني، دون أن تقدم بديلاً لكيفية الارتباط بالجماهير. بالطبع هذه المقالة تستهدف بصورة رئيسية فضح مسألة المجتمع المدني، وتحليل علاقاتها بتطور المشروع السياسي للمنظمات اليسارية الراديكالية في مصر. أما عن البديل، فنحن في جماعة “تحرير العمل” نرى أن الطريق الوحيد أمام حفنة من الثوريين لتأسيس ارتباط إيجابي بالجماهير في مصر اليوم، هو الدعاية الثورية بين الجماهير العمالية حول أهمية التنظيمات القاعدية ونضالات المواقع كسبيل وحيد أمامهم لتحقيق إصلاحات جذرية. ودفع العناصر المتقدمة داخل الطبقة العاملة لتطوير سياسة راديكالية داخل المصانع، حول القضايا المطلبية للعمال. وحشد كافة المناضلين على أرضية الممارسة الثورية داخل الصراع الطبقي. ومن يرغب في التعرف تفصيلاً على إستراتيجيتنا حول تلك المسائل. فإني أدعوه إلى قراءة مقالة ناجي حسين “الطبقة العاملة عند مفترق الطرق” المنشورة على ثلاثة أجزاء في الأعداد الثلاثة الأولى من الشرارة. ومقالة كريم زهدي “الدفاع عن القطاع العام أم عن حقوق العمال” المنشورة في العدد الثالث. ومقالتي حسن رشدان وكريم زهدي حول الانتخابات النقابية المقبلة المنشورتان في هذا العدد.

كانت الخدعة الرئيسية التي حاول صاحب ورقة “العمل الأهلي الديمقراطي”، أن يمررها على قراءه، هي محاولة إقناعهم بأن اللجان الوطنية للطلبة التي تشكلت في الجامعات المصرية أثناء الحركة الطلابية في 1972 – 1973، هي نفسها شركات حقوق الإنسان التي تنتشر هذه الأيام. فجميعها تندرج تحت ما يسمى بالعمال الأهلي. لكنه لم يحاول أن يشرح لنا، ما هو المشترك ما بين حركة إصلاحية مناضلة مثل التنظيمات الطلابية القاعدية، التي انطلقت بعفوية من بين جموع الطلبة المضربين. وبين حركة إصلاحية منحطة، مثل الشركات المتحشة بشعار “حقوق الإنسان”، ذات الطبيعة النخبوية المغلقة، المعادية على طول الخط لنضالات الجماهير. اللهم – وقد يكون هذا هو المشترك الوحيد – أن بعضًا من مندوبي اللجان الطلابية، أصبحوا الآن من أصحاب شركات حقوق الإنسان!!. فبعد الانحطاط المذري الذي انتهت إليه حركة اليسار “الراديكالي” في مصر، بات من المألوف لنا، أن نرى منظرين ثوريين يتحولون إلى كتبه في الصحافة البرجوازية. ومناضلين عماليين يتحولون على مرتزقة في “البوتيكات” التنموية. وبعضًا من زعماء الطلبة وقد أصبحوا سماسرة في سوق التمويل الأجنبي. وانحصر الجميع في نقاشات ضيقة مبتذلة، حول العهود والمواثيق، والاتفاقات والصلاحيات، والضرورات والمحاذير. وداخل أروقة المنظمات “الغير” حكومية المدافعة عن “حقوق الإنسان”، فيما بين المؤتمرات والندوات والملتقيات وورش العمل وجلسات العصف الفكري، اختفى الإنسان نفسه لم يعد له وجود، تحول إلى فكرة مجردة مبهمة في حاجة على تحديد وصياغة وإعادة تعريف. ولم يعد أمامنا نحن الثوريون، بل أصبح من الواجب علينا – ونحن نسعى بإرادة واعية لبناء حزب عمالي ثوري في مصر -، أن نعمل بكل جدية على فضح تلك الحثالة المنحطة من أرزقية النضالات وسماسرة حقوق الإنسان وكهنة المنظمات الخربة. وحشد كل ما تبقى من المناضلين، ودفعهم باتجاه ممارسة ثورية داخل الصراع الطبقي. دفاعًا عن فجر آخر للنضالات العمالية القاعدية، حل زمانه وباتت تهل علينا بشائره.