بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

المرحلة الأولى من انتخابات مجلس الشعب: خطوة للأمام.. أم خطوة للوراء؟

ظهرت نتائج المرحلة الأولى من انتخابات مجلس الشعب. ولن نبالغ إذا قلنا أن حالة من الاندهاش وعدم الفهم تسود أوساط قوى المعارضة والمراقبين. فكيف تتسق المعلومات الواردة عن تزوير واسع النطاق في غالبية الدوائر مع فوز الإخوان المسلمين بـ34 مقعدا في المرحلة الأولى وحدها؟ وإذا لم يكن هناك تزوير، فكيف يمكننا أن نفسر انهيار جبهة المعارضة إلى حد حصولها على ما لا يزيد على ستة مقاعد من إجمالي 164 مقعد دارت عليها المنافسة في المرحلة الأولى؟ وكيف نفسر استمرار وجوه قبيحة ككمال الشاذلي ومحمد إبراهيم سليمان في المجلس مع سقوط وجوه قبيحة أخرى كثريا لبنة وفائدة كامل؟

ملاحظات رئيسية
الحقيقة أنه لا يمكننا فهم نتائج الجولة الأولى إلا إذا أجملنا أولا الملاحظات الرئيسية على تلك النتائج. باختصار، يمكننا إجمال الملاحظات على الجولة الأولى في النقاط الآتية: 1) بروز الإخوان كقوة المعارضة الرئيسية بحصولها على أكثر من 20% من إجمالي مقاعد المرحلة؛ 2) انكشاف هزال الأحزاب التقليدية (الوفد، التجمع، الناصري) بعد حصولها مجتمعة على 4 مقاعد فقط؛ 3) الانهيار المدوي، على الأقل مؤقتا، لظاهرة أيمن نور/ حزب الغد، وذلك بفضل ميوعته المريعة كليبرالي مصري أصيل؛ 4) انكشاف هزال حركة كفاية، وحركة التغيير عامة، وضعف تأثيرها في الشارع بعد أن حصل رموزها على مئات قليلة من الأصوات في دوائرهم بعد معارك هزيلة هامشية لم يسمع عنها أحد في معظم الحالات؛ 5) استمرار صراع الوطني ضد الوطني وحصد منشقي الحزب لعدد لا بأس به من المقاعد (أكثر من 25% من مقاعد الجولة) مما يكشف ضعف الحزب وعدم أهميته كرافعة لمرشحيه؛ 6) انحسار أشكال التزوير التقليدية بالرغم من استمرارها، وظهور أشكال جديدة للتزوير تتركز في مسألتين رئيسيتين: شراء الأصوات والقيد الجماعي في الجداول الفضيحة التي لا تعكس الواقع في شيء.

ماذا نستنتج من هذا؟ نستنتج أن الجولة الأولى من انتخابات 2005 أبرزت قوتان رئيسيتان على سطح المجتمع: قوة المال وقوة الإخوان المسلمين! من فازوا في الانتخابات حتى الآن فازوا إما لأنهم يمتلكون من المال ما يكفي للسيطرة على آلاف الأصوات (مثلا يحتفظ أحمد عز ومحمد أبو العينين بآلاف البطاقات لعمال مصانعهما)، ولرشوة آلاف أخرى أمام صناديق الانتخابات، أو لأنهم ينتمون إلى تنظيم هائل الحجم حديدي الانضباط كالإخوان المسلمين.

يؤشر هذا الوضع إلى حالة الاستقطاب في المجتمع السياسي المصري. فمن ناحية أولى أدى تحطيم ديكتاتورية مبارك لكل أشكال التنظيم السياسي الجماهيري البرجوازية (حزب برجوازي أو إصلاحي، نقابة إصلاحية …)، وهي الأشكال التي تتمكن من خلالها الطبقة الحاكمة من إنفاذ سيطرتها على قطاعات واسعة من الجماهير، إلى دخول الرأسماليين بأنفسهم إلى معترك السياسة دفاعا عن مصالحهم. فبدلا من أن يبرز الحزب السياسي البرجوازي كممثل للمصالح المشتركة لهذا الجناح أو ذاك من الرأسماليين المصريين، دخل رجال الأعمال الأفراد إلى الحياة السياسية، ومن ضمنها مجلس الشعب، معبرين عن مصالحهم الفردية في أغلب الأحيان، وعن المصالح المشتركة لطبقتهم في بعض الأحيان. انظر إلى الواقع السياسي المصري. سترى أنه يشبه بمعنى ما الظاهرة المملوكية حيث يسعى كل رأسمالي فرد، بواسطة أدوات السياسة، إلى تغليب مصالحه على مصالح أقرانه. ولعل هذا ما يشرح لنا هزال مؤسسة كالحزب الوطني. فالوطني لا يمثل قوة معتبرة يلجأ إليها المرشحون للدعم وبدونها يفقدون فرصتهم في الوصول إلى المجلس. على العكس، الوطني هو الذي يسعى إلى الرأسماليين من المرشحين، وذلك لأن الحزب يمثل في حقيقته همزة وصل بين الرأسماليين وجهاز الدولة.

لكن من ناحية أخرى، فإننا نجد هامش المعارضة يتزايد في المجتمع. صحيح أن هذا الهامش، والحراك الذي يخلقه، لا يزال منحصرا في أوساط الطبقة السياسية وأقسام محدودة من الطبقة الوسطى وامتداداتها. لكن صحيح أيضا أن الهامش يتسع، وأن الأزمة ترشحه للاتساع أكثر وأكثر. هنا نجد أن التناقض بين عمق الأزمة، على خلفية محاولات النظام الحاكم لحلها بتوسيع نطاق الديمقراطية الشكلي، وبين تراجع الحركة الجماهيرية وانحصار حركة التغيير في أقسام من الطبقة الوسطى .. هنا نجد أن هذا الحال المتناقض يدعم تيار الإخوان المسلمين كبديل راهن.

فالإخوان المسلمون تنظيم كبير وقديم ومتماسك. تنظيم قادر على الوصول إلى معظم مدن وقرى مصر، وله خبرة تنظيمية راقية، وفي نفس الوقت يلبي، بإصلاحيته ووسطيته ولعبه على شعارات غامضة وذات طابع طوباوي، مطامح طبقة وسطى تأمل في التغيير في لحظة لم يبرز فيها واقعيا البديل الجماهيري العمالي كطريق ممكن وضروري. من هنا، فإن الإخوان المسلمون هم قوة اللحظة الراهنة بامتياز. الغالبية العظمى من رافضي الوضع الراهن يلجأون، وسيلجأون، إلى التصويت للإخوان المسلمين. وهذا، بقليل من التفكير، أكثر الاختيارات منطقية. فهل تختار مرشحي حركة ككفاية ظهرت للجماهير العريضة كظاهرة مثيرة للإعجاب ولكنها بعيدة وتنتمي إلى عالم وسط البلد والمثقفين وأصحاب الياقات شديدة البياض؟ أم تختار مرشحي أحزاب رسمية اكتسبت شرعيتها القانونية من تهادنها مع النظام؟ أم تختار مرشحي حركة سياسية مغروسة في حيك ولها تاريخ طويل وتتسم بالقوة الباهرة وبالشعارات المغرية لابن القطاع المهمش من الطبقة الوسطى الذي يلوم التحديث ذاته على هوانه وانهيار أوضاعه؟

يخطئ من يتصور أن انتصار الإخوان المسلمون في الجولة الأولى جاء فقط نتيجة لحجمهم الكبير ولكفاءاتهم التنظيمية العالية في حشد الأعضاء والأنصار. الإخوان فازوا أيضا لأنهم مثلوا البديل الأكثر اعتبارا في أعين الجماهير.

تناقضات الطبقة الحاكمة
على أن هذا لا يفسر كل شيء. نحن الآن يمكننا أن نفهم منطق بروز قوة المال مع قوة الإخوان في نفس واحد. ولكن أين يقع التزوير من هذا كله؟ وأين تقاليد جهاز دولتنا العريق في رفضه البات لصعود الإخوان أو أي تيار ديني آخر؟

الحقيقة أننا لا يمكننا فهم حدود ووظيفة عملية التزوير في انتخابات 2005 إلا إذا ربطنا الانتخابات بصراعات الطبقة الحاكمة على مدى الأعوام الأخيرة. المرحلة الأولى من انتخابات 2005 أظهرت لنا حدود وتناقضات انتصار تيار جمال مبارك على تيار الحرس القديم. صحيح أنه يمكننا القول أن جمال مبارك وحاشيته هم الآن الممسكون بالدفة في هذا البلد. لكن علينا أن نفهم أن انتصار جمال مبارك ليس باتا ولا نهائيا ولا حاسما. جمال مبارك لم يتنصر من خلال تصفية كاملة ونهائية لعناصر الحرس القديم. جمال مبارك لم ينتصر من خلال السيطرة على كل مفاتيح السياسة والحكم والبيروقراطية في مصر. جمال مبارك انتصر بمعنى أقل من هذا كله .. فقط مال التوازن بشكل كبير إلى جانبه وجانب تياره .. ولكن التيار الآخر لا يزال باقيا وفاعلا إلى حد ما. وهذا أمر طبيعي .. فالمنطق الداخلي لبديل جمال مبارك، بمقارنته ببديل أيمن نور، هو تحقيق النصر التدريجي البطيء وغير الصدامي على تيار الحرس القديم وخياراته ورموزه.

من هنا فإن ما رأيناه في الانتخابات هو مزيج مدهش من التزوير واللا تزوير. تلك هي سمات المرحلة الانتقالية المعقدة بكل تناقضاتها. ذلك هو ما يفسر لنا كيف حقق الإخوان انتصارا مؤزرا، بينما لازالت بعض مظاهر التزوير الفاضحة ماثلة أمام أعيننا. ذلك هو ما يفسر لنا كيف يتعايش نجاح كمال الشاذلي مع سقوط رموز أخرى للحزب الحاكم.

الانتخابات والتغيير
رأينا كيف ولماذا صعد الإخوان. ورأينا كيف ولماذا صعدت قوة المال. ورأينا مزيج التزوير مع الفكر الجديد. لكن لابد أن نؤكد أن كل هذا الكوكتيل السياسي يجد مصدره في مستوى الصراع الطبقي .. في مستوى حركة الجماهير. فقوة المال لا يمكنها أن تكون فاعلة إلا إذا كان لا بديل أمام الجائع إلا أن يبيع صوته بدلا عن النضال ضد من يسرق قوته. وقوة الإخوان لا يمكنها أن تكون فاعلة، على أرضية شعارات غير جذرية وغامضة، إلا في ظل تراجع بديل النضال الجماهيري. وتيار جمال مبارك لا يمكنه أن يكسب النقاط إلا إذا كان بانيا ثقته على نظرة استعلائية حقيرة مضمونها أن الجماهير لن تتحرك وأن في مقدورنا السيطرة ليس بالعصا وإنما بالجزرة.

من هنا يظهر خطأ حركة التغيير الفاضح. تلك الحركة التي قدمت وعودا وأنعشت آمالا، ثم لم تفعل شيئا لترتبط بالجماهير ولتتبنى مطالبهم. تلك الحركة التي كان في مقدورها، قبل الانتخابات وأثناءها، أن تبني لنفسها جسرا مع الكادحين حيثما يوجدوا، ولكنها لم تحرك ساكنا غير الكلام واستراتيجية المظاهرات الرمزية. حركة التغيير في خطر كبير. وبديل التغيير بواسطة الجماهير ومن أجل الجماهير في خطر كبير. فلو لو تتقدم تلك الحركة، وبالأحرى جناحها الأكثر جذرية، لملء الفراغ الذي ولّدته الأزمة، لأصبح المستقبل ألعوبة في يد اليمين والوسطيين. نحن نحتاج، قبل الانتخابات وبعدها، إلى الارتباط بالجماهير والإيمان بنضالها وبحركتها المستقلة .. نحن نحتاج إلى ديمقراطية أخرى غير ديمقراطية رأس المال. وما أظهرته المرحلة الأولى ونتائجها هو أن حركة التغيير حجمها في الشارع صفر كبير .. فهل نتحرك لنصبح قادة حقيقيين للناس في الشوارع والحواري والقرى والنجوع؟