الناس والشرطة.. السجل الأسود لحقوق الإنسان في مصر
يوجد في السجون المصرية اليوم ما يزيد على 30 ألف معتقل، الغالبية العظمى منهم تعيش رهم الاعتقال على مدى سنوات طويلة مضت دون تهمة أو محاكمة. هذا بينما تتشدق البرجوازية الحاكمة بالديمقراطية صباح ومساء ويقف السفاح مبارك في مؤتمر الحزب الوطني الأخير ليحدثنا عن ديمقراطية النظام الحاكم المزعومة. وفي فبراير 1997، وافق “مجلس شعب” النظام الحاكم على قرار مبارك بمد العمل بقانون الطوارئ لمدة ثلاث سنوات جديدة تبدأ من مايو 1997 حتى مايو 2000. وهكذا تتواصل حالة الطوارئ المعلنة في مصر لمدة 17 سنة وعشرة أشهر منذ أكتوبر 1981 – والبقية تأتي.
من المؤكد أن زمن السفاح مبارك شهد أقسى وأشد أنواع القمع والعنف ضد المعارضة السياسية في مصر والجماهير الفقيرة عمومًا. فعلى الرغم من الحديث المبتذل الذي لا ينقطع عن الديمقراطية والحرية اللتان نعيش في ظلهما، فإن سنوات حكم مبارك شهدت – على حسب تقارير العديد من المنظمات المحلية والدولية – ألوان من القمع السياسي تفوق كل ما عرفته مصر في الأزمنة السابقة، ليتفوق بذلك مبارك على جميع السفاحين أسلافه من الخديوي إسماعيل مرورًا بإسماعيل صدقي وإبراهيم عبد الهادي وجمال عبد الناصر وانتهاءًا بأنور السادات. فمن الاعتقال التعسفي والزج بعشرات الآلاف؛ إلى السجون بدون تهم لسنوات؛ إلى ممارسة أشد أنواع التعذيب (الضرب والصعق بالكهرباء والاعتداء الجنسي والسجل على الأرض) داخل أقسام الشرطة والسجون؛ إلى التصفية الجسدية لعشرات الآلاف من المعارضين السياسيين (الإسلاميون على وجه خاص)، إلى قمع الإضرابات العمالية والجماهيرية عمومًا واقتحام المصانع بالدبابات (كما حدث في الحديد والصلب عام 1989 وفي المحلة الكبرى عام 1986)، إلي أحكام الإعدام التي تصدر بالجملة في محاكم عسكرية مشبوهة ومتواطئة، إلى هدم المنازل وتحطيم القرى وتشريد مئات الألوف من المواطنين الفقراء. بعد هذا كله لازال السفاح وحاشيته يملكون من الصفاقة ما يسمح لهم بالحديث عن الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان!!
القمع في زمن مبارك
إن الأمثلة على القمع في زمن مبارك لا تعد ولا تحصى. فبموجب قانون الطورائ، يمكن للدولة أن تسحق من تشاء في أي مكان وأي زمان. فبالنسبة للجماعات الإسلامية، قتل ما لا يقل عن 191 شخص في عام 1997 فقط في معركة تكسير العظام التي تسحق فيها الدولة الإسلاميين سحقًا بينما يرد الإسلاميون بأساليبهم الإرهابية الفردية المعهودة. ونفذت عقوبة الإعدام في 14 من عناصر الجماعات، كما لاقى 7 أشخاص حتفهم نتيجة التعذيب وإساءة المعاملة داخل السجون، ويزيد الرقم (191) عن مثيله في 1996 بمقدار 9% حيث بلغ عدد القتلى في 1996 174 شخصًا.
وهكذا، تصل حصيلة ضحايا العنف خلال السنوات الثماني الأخيرة (90 – 1997) إلى 1380 قتيلاً. كما واصلت أجهزة الأمن هجماتها العنيفة ضد معاقل عناصر الجماعات الإسلامية المسلحة الهاربة في محافظات مصر المختلفة وبالتحديد محافظة المنيا. فقد كان هناك ما لا يقل عن 15 هجومًا أمنيًا من بينها 9 هجمات داخل المنيا أفضت إلى قتل 30 شخصًا برصاص قوات الشرطة.
ومع توسع الدولة الرأسمالية في الإطاحة بأي نوع من المعارضة لسياساتها وإتباع أسلوب الإرهاب ضد المواطنين عمومًا وأعضاء الجماعات الإسلامية خصوصًا، فقد أصدرت المحاكم العسكرية خلال عام 1997 13 حكمًا بالإعدام. وتضم قائمة هؤلاء المتهمين 4 في قضية سينما ماجدة، 4 في قضية تفجيرات البنوك، 3 في قضية كرداسة، و2 في قضية المتحف المصري. ومن الملفت للانتباه الإسراع الشديد في إصدار أحكام المؤيد والإعدام في هذه القضايا. كما أن المحكمة العسكرية لم تحقق في ادعاءات المتهمين بشأن تعرضهم للتعذيب وسو المعاملة داخل السجون، والتحقيق معهم بدون حضور محامي يدافع عنهم.
ولقد أصدرت المحاكم المدنية أيضًا خلال عامي 1997 – 1998 أحكامًا بالإعدام بسرعة شديدة جدًا ضد بعض المتهمين في قضايا القتل الجنائي العادي، ومنها على سبيل المثال قاتلي السيدة وأبنها في مدينة نصر، والحكم بإعدام الممرضة عايدة (الذي صدر فيه مؤخرًا حكم بالنقض). وذلك في إطار إتباع الدولة لسياسة عقابية متشددة في مواجهة الجرائم الجنائية لتأديب جموع المستغلين والمضطهدين (المرتكبين التقليديين للجرائم) ولصرف الانتباه عن الأسباب الحقيقية للأزمة الاجتماعية الخانقة.
أما بالنسبة لحالات التعذيب داخل أقسام الشرطة والموت الناتج عنها فهي دليل آخر على ازدياد وحشية النظام القائم بشكل لم يسبق له مثيل. إن كل حالات التعذيب داخل أقسام الشرطة (والتي بلغت في عام 1997 وحده 57 حالة توفي منها 12 نتيجة التعذيب)، حدثت لمواطنين عاديين ليست لهم علاقة بأعمال العنف أو بالجماعات الإسلامية. وهناك بعض الحالات التي تم خلالها تعذيب المواطنين كنوع من المجاملة لبعض ذوي النفوذ أو ممن تربطهم بعض الصلات بضباط الشرطة، فالتعذيب يتم في كثير من الأحيان بدون أسباب واضحة أو لمجرد تصفية حسابات شخصية.
والتعذيب لا يمارس ضد المحتجزين من الأشخاص المشتبه فيهم فقط أو المطلوب القبض عليهم، بل يقوم رجال الشرطة السفاحون باحتجاز أهلهم وذويهم كرهائن. فيتم القبض على والد الشخص المطلوب أو شقيقة أو أبنه أو زوجته كرهينة لإجباره على تسليم نفسه، ويمارس التعذيب ضدهم حتى الوفاة.
فهناك مثلاً حالة المواطن عبد المجيد خليفة (63 سنة) حيث قبض عليه كرهينة في أبريل 1994 لحين القبض على أبنه المتهم بسرقة سيارة. وقد توفي عبد المجيد داخل قسم شرطة الوسطى بسبب التعذيب. وهناك أيضًا حالة المواطن فتح الباب عبد المنعم شعبان الذي توفي نتيجة التعذيب داخل قسم شرطة حلوان في أغسطس 1994 حيث تم تعليقه كالذبيحة (أي تقييده من الخلف بقيد حديدي وتعليقه كالذبيحة على أحد الأبواب أو بين مقعدين ويكون هذا الأسلوب مصحوبًا بالضرب واللكم والصعق بالكهرباء)، وضرب ضربًا مبرحًا أدى إلى موته.
وهناك أيضًا الحادثة الشهيرة التي تحدثت عنها الجرائد لمواطن شاب في قيم شرطة بلقاس تعرض للتعذيب حتى الموت ما أدى إلى قيام الأهالي بالتمركز أما القسم واستلام جثته والدوران بها في أنحاء المدينة كنوع من التظاهر ضد موته.
ومن الأمثلة الصارخة لأساليب التعذيب هو ما يحدث بقسم شرطة منشية ناصر الذي أصبحت لديه سمعة سيئة جدًا في تعذيب وإساءة معاملة المواطنين. ففي نفس الأسبوع الذي عذب فيه المواطن رجب فؤاد خليل (51 سنة) حتى الموت، تم تعذيب أربعة مواطنين آخرين أحدهم أصيب بشلل في أحد جانبية والثاني قطع جزء من أذنيه والثالث أصيب بإصابات خطيرة في رأسه والرابع ضرب ضربًا مبرحًا. فهذه إذن هي الشرطة وهؤلاء هم رجال البوليس الذين تحتفل بهم الدولة في أعياد الشرطة كل عام وتكرمهم وتصرف عليهم ملايين الجنيهات وتغدق عليهم العطاء والامتيازات والشقق والفيلات. إنهم في الحقيقة رجال الإرهاب والقمع والقتل.
ومن أشكال القمع والتعذيب الأخرى اتساع دائرة القبض التعسفي وممارسة الاعتقال المتكرر وحالات الاختفاء القسري، إضافة إلى ما يلاقيه السجناء والمعتقلون داخل السجون من ظروف صحية ومعيشية في غاية الذل والامتهان. لقد ارتفعت حالات القبض التعسفي عام 1997 كثيرًا عن السنوات السابقة، وهذا يشمل جميع المخالفين للحكومة في الرأي ومنهم أعضاء جماعة الإخوان المسلمين المحظورة. قبضت الشرطة على 47 من أعضاء الجماعة في مطلع عام 1997 كما ألقت قوات الأمن القبض على 33 مواطنًا من أعضاء حزب العمل فيما عرف بإسم “قضية حلوان”.
أما استخدام أسلوب الاعتقال المتكرر والذي زاد زيادة ملحوظة في السنوات القليلة الماضية، فهو دليل آخر الاستخدام الفج لقانون الطوارئ. لقد ابتكرت السلطات الأمنية هذه الطريقة لكي تتحايل على الإفراج عن الكثير من المتعلقين الذي صدرت أحكام بالإفراج عنهم. فالمتعقلون يحصلون على أحكام قضائية بالإفراج عنهم ولكن هذا يظل حبرًا على ورق فيما يعرف بين رجال الأمن ب “التسكين” إشارة إلى الفترة الواقعة بين الإفراج على الورق وإعادة الاعتقال مرة أخرى. أما السجناء فيطلق عليهم مسمى “التخزين” بمعنى أنهم مخزنون إلى أن يتم اعتقالهم مرة أخرى.
أما بالنسبة لحالة السجناء داخل السجون والمعتقلات فهي غاية في السوء من نواحي التغذية والعلاج والصحة العامة. يقوم أحد المعتقلين المودعين بسجن استقبال طرة: نحن نعيش برحمة الله فقط، فقد انتشرت العديد من الأمراض داخل السجن بسبب غلقه ومنع الزيارة وعدم تهوية الزنازين وعدم خروجنا للفسحة. وأشد هذه الأمراض وافتكها على الإطلاق مرض الجرب الذي يصيب الجسم كله ويصبح الواحد منا لا يستطيع أن يتماسك ويظل يهرش دائمًا حتى يصبح الجسم كله عبارة عن قطعة اللحم الحمراء. وإذا طلبنا الكشف الطبي علينا أن ننتظر الدور، وعلى رأي المثل “عقبال ما تتكحل العمشة يكون السوق خرب”. ولذلك تنتشر الأمراض داخل السجن، حتى بعد الكشف الطبي علينا يكون العلاج عبارة عن بعض حبات البرشام التي لا تمت لنوع المرض بصلة. ولا توجد فسحة إطلاقًا ولو لمدة خمس دقائق يوميًا حتى نرى الشمس أو نستنشق الهواء النقي”.
ويعتبر سجن الوادي الجديد على سبيل المثال من أكثر الأماكن رداءة حيث يعاني أكثر من 70% من نزلاته من مرض الدرن وهي نسبة أكثر من كافية لنشر الميكروب لبقية السجناء الأصحاء. ويقول والد أحد السجناء هناك. “أبنى هيموت في الداخل لمرض بالدرن والسكر وهو هزيل وضعيف جدًا. ولم يستطع محادثتي في آخر مرة وهو بيخاف يتكلم عن مرضه. أنا بازوره كل شهر ولم الحظ تحسنا في حالته”.
كما يوجد أيضًا داخل سجن الوادي 27 حالة ربو، 14 حالة ضغط، 12 حالة بواسير، 7 حالات جرب، 4 حالات شلل نصفي من جراء التعذيب، 20 حالة كلي، 7 حالات قلب، والقائمة ما تزال طويلة. وفي سجن الفيوم توجد على الأقل 50 حالة درن، وهو مرض منتشر في سجون استقبال طرة ووادي النطرون 1 و2 وشديد الحراسة ودمنهور.
وينتشر داخل السجون المصرية نوع آخر من التعذيب وهو الحرمان المتعمد من مواصلة التعليم. فلقد وثقت المنظمة المصرية 53 حالة حرمان من التعليم داخل السجون.
وأخيرًا شهد عام 1997 موجة من الاعتقال التعسفية لعدد من المعارضين السياسيين (من غير الإسلاميين) بسبب موقفهم من معركة القانون 96 لسنة 1992 للعلاقة بين المالك والمستأجر للأراضي الزراعية. فقد تم القبض على مئات الأشخاص بشكل تعسفي لمجرد معارضته م السلمية لهذا القانون الجائر. وإلى جانب مئات الفلاحين، تم القبض على أحمد الأهواني الأستاذ بقسم الهندسة النووية بجامعة القاهرة، والصحفي حمدين صباحي والمحامي السيد الطوخي، والمهندس كمال خليل والفنان عز الدين نجيب والمؤلف مصطفى محمد والطالب أكرم ألفي وغيرهم.
الأزمة الرأسمالية والقمع
القمع هو أحد الأدوار الرئيسية للدولة في ظل الرأسمالية فالدولة الرأسمالية الحديثة نشأت بالأساس تاريخيًا لحماية المصالح الاقتصادية للرأسمالية، أي لتأمين عملية الإنتاج الرأسمالية وضمان الحفاظ على تدفق الأرباح للرأسمالية. والدولة في سبيلها لتحقيق هذا الهدف تنتهج وسائل عدة. والقمع هو أحد هذه الوسائل الرئيسية.
بشكل عام توجد علاقة وثيقة الصلة بين ميل معدل الربح إلى الارتفاع أو الانخفاض وبين خفوت أو تزايد القمع. في فترات الانتعاش والرواج وبينما تصبح البرجوازية قادرة على تقديم إصلاحات وخدمات اجتماعية للعمال والفقراء عمومًا تتراجع حدة قمعها – ولكن لا يتوقف هذا القمع بالتأكيد أبدًا في ظل حكم البرجوازية. أما في فترات الأزمة وبينما تتقلص بدرجة كبيرة أرباح الرأسماليين وتنخفض بشدة قدرة الدولة البرجوازية على تقديم أي إصلاحات أو خدمات اجتماعية ويصبح الطريق الوحيد أمامها للخروج من الأزمة هو رفع وتشديد معدلات استغلال العمل المأجور، والعصف بحقوق ومصالح العمال وكافة الجماهير المضطهدة، بينما لا يعود أمامها سوى ذلك الطريق سنجد معدلات قمعها تتزايد بشكل حاد لتصل إلى ألوان فائقة من السفور.
في هذا السياق يمكننا أن نفهم تلك الدرجة من التوحش والاستبداد التي شهدتها سنوات حكم مبارك. فمبارك الذي بدأ حكمه في ظل أزمة سياسية حادة انتهت باغتيال السادات، حاول أن يضع على وجهه في بداية حكمه قناع الحاكم الديمقراطي. ساعده على ذلك وقتها جوقة الأفاقين والانتهازيين من اليسار الستاليني وفصائل المعارضة “الشرعية” المختلفة. على الرغم من أن سنوات حكمه الأولى شهدت تصفية ومطاردة واسعة للتنظيمات الإسلامية الراديكالية التي شاركت في اغتيال السادات وأيضًا ممارسة ألوان من التعذيب السافر لأعضاء تكل التنظيمات داخل السجون. هذا التعذيب اعترفت به وقتها محكمة أمن الدولة العليا التي أدارت قضية تنظيم الجهاد الشهيرة وأحالت عددًا كبيرًا من ضباط أمن الدولة إلى المحاكمة بتهمه ممارسة التعذيب.
إلا أن الممارسات القمعية السافرة لعصر مبارك بدأت مع منتصف الثمانينات ومع بداية تراجع في معدلات النمو. تلك السنوات التي شهدت صعودًا جديدًا للحركة العمالية بدأت بانتفاضة كفر الدوار عام 1984 واستمرت لعدة سنوات في المحلة، شبرا الخيمة، والسكة الحديد، وانتهت بإضراب الحديد والصلب الشهير عام 1989. تلك السنوات ذاتها هي التي شهدت اندفاع النظام في اتجاه القمع. فبينما تتزايد الأزمة الرأسمالية وتقل معها الفرص في تقديم أن نوع من الرشاوى أنو الإصلاحات وتتصاعد النضالات العمالية والجماهيرية عمومًا (شهدت هذه الفترة أيضًا تمرد جنود الأمن المركزي عام 1986). لم يكن من مفر أمام النظام البرجوازي الحاكم لتأمين استثماراته وأرباحه إلا بالاندفاع في اتجاه القمع. وعلى الرغم من تراجع النضالات العمالية الكبيرة طوال سنوات التسعينات (باستثناء إضراب شركة الغزل الرفيع في كفر الدوار عام 1994) إلا أن قمع النظام أزداد حدة وسفورا. فتراجع النضالات العمالية على الرغم من تزايد حدة الأزمة ومعدلات الاستغلال خلق فراغًا سياسيًا في وسط قطاع كبير من الجماهير الفقيرة (الفلاحين والمهمشين والعاطلين عن العمل وغيرهم) سمح بنمو الحركات الإسلامية الراديكالية ذات الطابع البرجوازي الصغير والتي اندفعت بدورها إلى إبعاد الجماهير المضطهدة عن ساحة النضال الجماعي ولعبت دورًا في حرف وعيها في اتجاه العنف الفردي المسلح. هذا الوضع دفع النظام الحاكم بفي اتجاه المزيد والمزيد من القمع.
في هذه السنوات شهدت مصر الآن من العنف السياسي ضد الجماهير غير مسبوقة في تاريخيها. فمن اقتحام القرى والمدن الريفية الصغيرة في الصعيد بعشرات الآلاف من الجنود والمدرعات والزوارق المسلحة إلى حصار أحد الأحياء الفقيرة في القاهرة الكبرى – إمبابة – واقتحامه بالمدرعات واعتقال الآلاف من المواطنين من أبناء هذا الحي خلال يومي الاقتحام.
في ظل هذا الارتفاع السافر على مدار سنوات طويلة تحول جهاز الشرطة وبالتحديد فرق الأمن المركزي – تلك التي أنشئت عام 1968 في ظل الاضطرابات العمالية والطلابية الصاعدة – إلى جزء من الجيش النظامي المسلح الخاضع لسلطة البرجوازية ومصالحها. وأصبح من السائد والمستقر التعامل بأشد أنواع القمع والعنف الواسع ضد أي نوع من الاحتجاجات الجماهيرية بصر النظر عن طبيعتها وحجمها. شهدنا صورًا من ذلك في قرى أدكو وأبو حماد عام 1991، وفي أحياء القاهرة الفقيرة بعد زلزال أكتوبر 1992، وفي العديد من القرى والأحياء الفقيرة والمدن الريفية الصغيرة، آخرها ما حدث في بلقاس خلال هذا العام. وأيضًا شهدنا صورة لذلك القمع ضد تطبيق قانون الإيجارات الزراعية الجديد خلال صيف وخريف العام الماضي.
قسط كبير من هذا القمع ناله بالطبع العديد من المعارضين السياسيين من الفصائل المختلفة. المهم في الأمر أن هذا الاندفاع الشديد في القمع والعنف الدموي الذي فاق كل ما عرفته مصر في تاريخها السابق كان وثيق الصلة بدرجة كبيرة بأزمة الرأسمالية وتراجع معدلات أرباحها وبإفلاس المعارضة السياسية للنظام. فليس من الصدفة أن يسقط العمال والفلاحون المحتجون صرعي بأيدي رصاصات الأمن وأن تهدم القرى وتحرق البيوت في ذات السنوات التي شهدت التراجع الحاد في معدلات النمو.
من المؤكد أن العنف السافر لمبارك ونظامه ضد جماهير الفقراء لم يمر دائمًا لبدون مقاومة. فكثير من الاحتجاجات الجماهيرية التي حدثت في العديد من المناطق (آخرها ما حدث في مدينة بلقاس كما ذكرنا من قبل)، كان رد فعل جماهيري في مواجهة ممارسات قمعية للدولة وأجهزتها. إلا أنه من المؤكد أيضًا عدم نمو حركة احتجاج جماهيرية ذات شأن في مواجهة القمع. يعود ذلك على أسباب عدة على رأسها تراجع النضالات العمالية عمومًا تكل التي يمكن أن تعطي النضال ضد القمع مضمونًا طبقيًا راديكاليا. أما السبب الآخر والمهم فهو الدور الذي لعبته الحركة الإسلامية المسلحة في مواجهة القمع والعنف السافر الذي مورس ضدها بتحويل المعركة إلى النضال الفردي المسلح وتغييب النضال الجماعي للجماهير المقموعة عن ساحة المعركة.
وفي إطار سياسات النظام القمعية نمت حركة حقوق الإنسان في مصر وانتشرت (يعود ظهور وانتشار حركة حقوق الإنسان إلى أسباب عديدة أخرى ليس هنا مجال تناولها وقد تحدثنا عنها أكثر من مرة من قبل في الشرارة). وعلى الرغم من الدور الذي لعبته تلك الحركة فغي فضح ممارسات النظام القمعية (معظم المادة التي ذكرناها هناك في هذا التحقيق مستقاة من تقارير منظمات ومراكز حقوق الإنسان)، إلا أنه كان لهذه المنظمات دور سلبي رئيسي في تحويل المعركة ضد قمع النظام إلى مجرد معركة إعلامية ذات طابع حقوقي. فالقمع هنا ليس إلا مجموعة من الانتهاكات للقوانين والمواثيق الدولية مفرغة من مضمونها السياسي والطبقي وأسلوب مواجهته هو نشر التقارير وتنظيم المؤتمرات. هذا بالإضافة طبعًا إلى العلاقة المشبوهة والمتواطئة التي تربط تلك المنظمات بالمؤسسات الإمبريالية والتي تلعب تقارير حقوق الإنسان في مصر دورًا رئيسيًا في أدوات الضغط التي تمارسها هذه المؤسسات على النظام المصري.
إن “حقوق الإنسان” بمعناها السائد ليست إلا خدعة برجوازية تنطلق من المساواة الشكلية المفتعلة في الحقوق القانونية بين العامل وصاحب العمل، بين المستغلين والمستغلين. إن الطريق الوحيد للنضال ضد القمع وكافة صور الاضطهاد التي تمارسها الدولة البرجوازية وأجهزتها لسحق الجماهير الفقيرة والعصف بحقوقها يقوم على أرضية النظام الطبقي وعلى قدرة الجماهير المضطهدة على خلق وتنظيم أدوات نضالها الجماعي ضد الاستغلال والقهر وكافة صور الاضطهاد.