الانتخابات ومعركة التغيير الديمقراطي
تجري انتخابات مجلس الشعب في ظل ظروف سياسية مغايرة. يتناول سامح نجيب بالنقد والتحليل طبيعة الانتخابات البرلمانية في مصر، وما تعنيه بالنسبة للحركة الديمقراطية والقوى السياسية ودور اليسار المناضل.
مرة أخرى تمتلئ الشوارع باللافتات الانتخابية والدعاية الصاخبة والطبل والزمر والميكرفونات والنخلة والهلال والقلة. مرة أخرى تسخر إمكانيات الدولة والأموال الطائلة لرجال الأعمال لتجديد سيطرة الحزب الوطني على مجلس الشعب. مرة أخرى تستعد الأجهزة الأمنية لتحديد نتائج الانتخابات لصالح مرشح الحزب الحاكم من خلال التلاعب بجداول الانتخابات والتحكم في وصول الناخبين إلى مراكز الاقتراع والتضييق على مرشحي المعارضة وتنظيم عمليات الرشوة وشراء الأصوات، هذا إلى جانب التزوير المباشر. مرة أخرى يحدد الحزب الحاكم مرشحيه ويستقبل المئات من الأعضاء ليرشحوا أنفسهم كمستقلين استعدادًا للفوز والعودة إلى أحضان الحزب في مسرحية تنتهي باحتلال الحزب الحاكم لغالبية المقاعد البرلمانية حتى لو خسر غالبية مرشحيه الرسميين في الانتخابات. ولكن مهرجان الانتخابات هذا العام يأتي في سياق ظروف سياسية تختلف نوعيًا عن سابقاتها. فهناك حالة من الغضب السياسي المتنامي والذي بدأ مع حركة التضامن مع الانتفاضة الفلسطينية عام 2000 وازداد عمقًا مع الحرب الأمريكية على العراق وتبلور هذا الغضب خلال العام الماضي في حركة ديمقراطية رافضة للتجديد والتوريث ومطالبة لتغييرات ديمقراطية محدودة مثل إلغاء العمل بقانون الطوارئ واستقلال القضاء والإفراج عن المعتقلين السياسيين وتحرير الحركة السياسية من القوانين المقيدة للحريات.
حدود الحركة الديمقراطية:
بدأت الحركة بظهور تشكيلات سياسية ذات طابع جبهوي من خارج الأحزاب الرسمية مثل الحركة المصرية (كفاية) والتي نظمت عدد من المظاهرات المؤثرة رغم صغر حجمها. وقد دخلت المعركة مرحلة جديدة مع تنظيم الإخوان المسلمين بشكل منفرد عدد من المظاهرات الضخمة في مختلف المحافظات للمطالبة بالحريات السياسية انتهت باعتقال الآلاف من كوادرهم.
ولكن رغم الحراك السياسي الذي أحدثته الحركة الديمقراطية الوليدة ورغم كسر الجمود السياسي الذي اتسمت به فترة التسعينات، فهناك عدد من الحقائق يجب الانتباه لها إذا كنا نريد أن نفهم بشكل موضوعي الفرص والمخاطر التي تواجهنا اليوم.
فلم تنجح الحركة بمختلف أجنحتها في الخروج من طابعها النخبوي الضيق ولم تنجح في جذب قطاعات واسعة من الجماهير لتبني المطالب الديمقراطية وظلت في حدود النشطين السياسيين وجمهورهم المباشر حتى في حالة الإخوان المسلمين.
وهذا الفشل في تعميق وتوسيع الحركة الديمقراطية له سببان أساسيان. الأول هو عدم الربط بين المطالب الاجتماعية والاقتصادية لجماهير الفقراء من عمال وفلاحين وبين المطالب الديمقراطية العامة للحركة. وإذا كان هذا الفصل هو أمرًا مفهومًا في حالة الأجنحة الإسلامية والليبرالية للحركة، والتي تريد تغييرًا ديمقراطيًا محدودًا في إطار نفس المنظومة الاقتصادية والاجتماعية الحالية، فهو ليس مفهومًا أو مقبولاً في حالة الأجنحة اليسارية للحركة، بما فيها الاشتراكيين الثوريين، والتي أجلت أو همشت المطالب الاجتماعية والاقتصادية بهدف الإبقاء على “وحدة” الحركة. وقد ساهمت بهذا المنطق المرحلي العقيم في إبقاء الحركة معزولة وراء أسوار النخبة، تجذب انتباه وإعجاب الجماهير السلبي وتفشل في إشراكهم في المعركة الديمقراطية.
والسبب الثاني لهذا الفشل هو بدون شك تراجع القضية الوطنية عن المعارك السياسية الدائرة بين الحركة الديمقراطية والنظام. فبعد أن كانت قضيتي فلسطين والعراق في قلب المعركة مع النظام وبعد أن كانت مطالب المقاطعة وقطع العلاقات وفضح الدور العميل للنظام المصري هي القضايا التي تشعل المعركة وتجذب قطاعات واسعة من الشباب للساحة السياسية ولمعارضة النظام، اختفت هذه القضايا والمطالب تمامًا.
عودة السفير المصري إلى الكيان الصهيوني وتطبيق اتفاقية الكويز وتصدير الغاز والأسمنت إلى شارون ومشاركة الجيش المصري في حصار غزة والشركات المصرية في العراق والدور المصري في إضفاء الشرعية على عملاء الاحتلال في العراق ومرور حاملات الطائرات والصواريخ الأمريكية عبر قناة السويس، كل ذلك وغيره أصبح يمر مرور الكرام في حين تفرغت المعارضة المصرية بما فيها فصائل اليسار لمعركة “التغيير” الديمقراطي، وكأن ليس هناك أي صلة بين الاستبداد الداخلي للنظام وبين دوره الإقليمي في خدمة الاستعمار والصهيونية، وكأن كل الغضب الجماهيري الذي صاحب الانتفاضة الفلسطينية واحتلال العراق لم يكن.
مرة أخرى كما في حالة المطالب الاجتماعية والاقتصادية يظهر الوجه القبيح لنظرية المرحل – نبدأ بالديمقراطية أولاً..
هذه الإخفاقات أدت في نهاية المطاف إلى الفشل في تحقيق المطالب المحدودة للحركة الديمقراطية من إلغاء قانون الطوارئ إلى منع التمديد لحسني مبارك أو حتى الإفراج عن المعتقلين السياسيين.
ولعل ما حدث في الانتخابات الرئاسية هو أكبر دليل على أزمة الحركة الديمقراطية، فبدل من أن تتمكن الحركة من خلق مقاطعة إيجابية واسعة لمهزلة الانتخابات مما كان سيمكنها من سحب الشرعية من النظام وعدم الاعتراف بنتائج الانتخابات بكل ما كان سيعنيه ذلك من تعميق الحركة مع النظام، هرولت المعارضة الليبرالية ومعها الإخوان المسلمين للمشاركة في المسرحية وانحصرت حركة المقاطعة في مجموعات صغيرة من اليساريين والقوميين.
إذًا فالانتخابات البرلمانية الحالية تحدث في ظل صحوة للمعارضة الديمقراطية ولكنها صحوة محدودة لم تتمكن من كسر نخبويتها ولم تتمكن من خلق قاعدة جماهيرية تجعلها قادرة على إحداث تغيير حقيقي.
هذا لا يعني بالطبع أن الأحوال ستظل على ما هي عليه أو أن الانتخابات الحالية ستمر بنفس الشكل التي مرت بها الانتخابات السابقة بل يمكننا القول أن الانتخابات الحالية هي بمثابة فرصة أمام جناح اليسار في الحركة الديمقراطية للبدء بالخروج من المأزق الحالي والتحول إلى قوة تغيير فاعلة. ولكن كيف؟
طبيعة الانتخابات البرلمانية في مصر:
تتطلب الإجابة على هذا السؤال فهم الطبيعة الخاصة للانتخابات البرلمانية في مصر. ولعل أهم ما يميز هذه الانتخابات هو غير السياسة. فالأقلية من الناخبين التي تدلي بصوتها لا تصوت للمرشح لاقتناعها بالبرنامج السياسي الحزبي الذي يتقدم به بل للخدمات المباشرة والملموسة التي يمكن للمرشح تقديمها في دائرته من رصف شارع أو بناء مدرسة إلى توصيل الكهرباء أو غيرها من الخدمات. يتحول المرشح الفائز إلى وسيط بين أجهزة الدولة بإمكانياتها وميزانياتها وبين سكان الدائرة التي يمثلها.
هذا الوضع بالطبع يتسم بكثير من التناقضات وعدم الاستقرار، فخاصة مع تطبيق سياسات الليبرالية الجديدة وتراجع الدولة عن تقديم الخدمات وتقليص دورها الاقتصادي، يتقلص دور الوسيط البرلماني وتتأزم منظومة “الزبونية” والخدمية التي يعتمد عليها النظام وحزبه الحاكم.
ولكن طالما ظلت القوى الديمقراطية المعارضة محصورة في النخب السياسية وطالما ظلت غير قادرة أو راغبة على جذب الجماهير لنموذج النضال المطلبي الجماعي وتحويل ساحة الانتخابات البرلمانية إلى ساحة لدفع هذا النضال وليس ساحة للوساطة والخدمية، طالما تمكن النظام وحزبه الحاكم من تجديد استيعابه حتى إن تم ذلك بشكل مأزوم وغير مستقر.
الأحزاب والقوى السياسية والانتخابات:
كانت هناك لحظة خلال العام الماضي كان يبدو فيها الأمر وكأن القوى السياسية المعارضة كلها في صف واحد ضد النظام، وبدا النظام على وشك الانهيار أو على الأقل على وشك تقديم تنازلات كبرى تحت وطأة الانقسامات الداخلية والضغوط الخارجية ووحدة وصخب مطالب قوى المعارضة.
ولكن الوحدة الظاهرية لمطالب المعارضة كانت تخفي ورائها تناقضات صارخة في الأهداف والمصالح والوسائل. الكل يتفق على شعار “التغيير” ولكن أي نوع من التغيير ولمصلحة من وكيف؟
لعل الانتقال من “معركة” الرئاسة إلى “معركة” مجلس الشعب يساعدنا على توضيح التناقضات.
لنبدأ بالأحزاب الرسمية. ولعله لن يكون من الضروري تذكير القارئ بهزال هذه الأحزاب وتبعيتها للنظام الحاكم واستيعاب خلال العقدين الماضيين كديكور ديمقراطي شكلي يساعد النظام على البقاء والسيطرة.
الكل يتذكر كيف كسر حزب التجمع مقاطعة الأحزاب المعارضة والإخوان لانتخابات 1990 وكيف دخل وحده مع الحزب الحاكم الانتخابات وكيف أصبح حزب التجمع منذ ذلك الحين حليفًا للحزب الحاكم في معركته مع الإسلاميين بل ومبررًا للقمع الوحشي على يد وزارة الداخلية والتي كوفئ عليها الحزب بتعيين رفعت السعيد في مجلس الشورى وقبوله المشين لذلك التعيين.
والكل يتذكر كيف انتهج حزب الوفد نفس النهج منذ انتخابات 1995 وكيف أصبح ذلك الحزب شريك صغير للحزب الحاكم في سياساته القمعية والاقتصادية.
والحزب الناصري رغم شعاراته ورغم جريدته، والتي لم تكن تعبر أصلاً عن سياسات الحزب، لم يخرج عن تلك المعادلة برضوخه للخطوط الحمراء التي فرضها الحزب الحاكم والتي ظل سقفها ينخفض طوال التسعينات.
وقد ظلت الأحزاب حتى لحظة مهزلة تعديل المادة 76 من الدستور في حوار ثم وفاق وطني مع الحزب الحاكم. وحتى بعد انكشاف المهزلة قرر حزب الوفد المشاركة في الانتخابات الرئاسية.
ولكل هذا فمن الخطأ الشديد التضخيم من قيمة مقاطعة التجمع والناصري لانتخابات الرئاسة أو من فعالية أو جديدة الجبهة التي شكلتها أحزاب المعارضة لخوض الانتخابات البرلمانية. فهذا لا يشكل بأي حال من الأحوال تحولاً في طبيعة هذه الأحزاب فهم سيهرولون مجددًا إلى أحضان الحزب الحاكم والسؤال الوحيد هو من سيهرول أولاً هذه المرة.
أما الإخوان المسلمين فرغم الحجم الضخم والانتشار الواسع في أوساط الطبقة الوسطى ورغم التحول في تكتيكاتهم خلال العام الماضي من سياسة المهادنة إلى سياسة التصعيد ضد النظام ورغم المواجهات العنيفة والمظاهرات الصاخبة والاعتقالات، فلا بد من وضع هذه التغييرات في سياساتهم في سياقها الصحيح لفهم حدودها.
فسياسة التصعيد سرعان ما تحولت إلى مهادنة جديدة ظهرت بوضوح أولاً في انحصار موجة المظاهرات الإخوانية وثانيًا في قرار الإخوان المشاركة في الانتخابات الرئاسية وهو الأمر الذي وأد مشروع المقاطعة وأضعف الحركة الديمقراطية، وثالثًا في تحول الإخوان في حملاتهم الانتخابية من الشعارات الديمقراطية التي كانوا يرفعونها خلال فترة التصعيد إلى شعارهم التقليدي والرجعي “الإسلام هو الحل”.
بدلاً من أن يستخدم الإخوان معركة الرئاسة وتعديل الدستور ومعركة انتخابات مجلس الشعب كمحاور في معركة ديمقراطية لإسقاط الديكتاتورية، استخدم الإخوان المعركة الديمقراطية كمحور من أجل زيادة مقاعدهم ونفوذهم في مجلس الشعب كهدف في حد ذاته.
طبيعة الإخوان المسلمين الوسطية والمتناقضة ستجعلهم هكذا دائمًا يتأرجحون بين التصعيد تحت ضغط قواعدهم والمهادنة تحت ضغط النظام. وطالما غاب عن الساحة السياسية قطبًا جماهيريًا مستقلاً قادرًا على جذب قواعد الإخوان، طالما استطاعت قيادات الإخوان المهادنة من السيطرة على تلك القواعد واستخدامهم كولرقة ضغط للحصول على مكاسب ضيقة ومحدودة تنحصر حاليًا في زيادة مقاعدهم في مجلس الشعب (من أقل من 5% حاليًا إلى 15% في أحسن الأحوال).
أما حزب الغد والذي نزل بعدد كبير من المرشحين وتم استبعاده من الجبهة الوطنية بسبب صراعه مع الوفد، فقد راهن وما زال يراهن على انقسام الحزب الحاكم وتمرد قطاع من كبار الرأسماليين عليه وجذب دعم الإمبريالية الأمريكية. ولكن هذه الرهانات كلها قد فشلت بشكل كامل، فالحزب الحاكم لم ينقسم والرأسمالية الكبيرة تنطوي بشكل كامل تحت لواءه كما تثبت قوائم الحزب في الانتخابات البرلمانية والإدارة الأمريكية ليست على وشك تغيير عملائها في هذه المنطقة الملتهبة الآن، فمصر ليست أوكرانيا والغد لا يشبه أقرانه الأوكرانيين إلا في لون اللافتات.
اليسار والحزب الغائب:
لقد تناولنا في فقرة سابقة كيف فشلت الحركة الديمقراطية والتي نشأت خلال العام الماضي من خارج الأحزاب الرسمية، في خلق جذور جماهيرية والخروج من إطار النخبة الضيقة. وقد أرجعنا هذا الفشل إلى الفصل بين المعركة الديمقراطية ضد النظام من جانب وبين المعركة ضد الرأسمالية الكبيرة وسياسات الليبرالية الجديدة وضد الإمبريالية والصهيونية من الجانب الآخر. أو بعبارة أخرى فالمعركة ضد الاستبداد في أشكاله الثلاث – السياسي والرأسمالي والاستعماري والذين يمثلهم جميعًا النظام الحاكم في مصر. فنحن نواجه عدوًا له ثلاث رؤوس كالأفعى في أساطير اليونان القديمة.
والفشل حتى الآن في توحيد المعركة وتعميقها وتجذيرها هو فشل لليسار في المقام الأول. فالقوى السياسية الأخرى لا تريد تحويل المعركة في هذا الاتجاه فهذه ليست معركتها وأهداف وأساليب هذه القوى تبعد كل البعد عن معركة كهذه.
ولكن اليسار، بما فيهم الاشتراكيين الثوريين، لم ينجح حتى الآن في خلق منبر علني مستقل وواضح المعالم قادر على التصدي لهذه المهمة الصعبة والتاريخية. لقد أصاب اليسار حين تعاون وتحالف مع القوى الأخرى في المطالب الديمقراطية للحركة ولكنه أخطأ حين تأخر في بلورة منبره الجماهيري المستقل. وقد حان الوقت لتصحيح هذا الخطأ ولعل الانتخابات البرلمانية الحالية وترشح مناضلين اشتراكيين للبرلمان سيكون الخطوة الأولى نحو بناء الحزب الغائب، حزب اليسار المناضل.