بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

النظام المصري من التواطؤ إلى الشراكة!

ليس بجديد على نظام مبارك التواطؤ مع الصهيونية والإمبريالية. فمنذ ضرب المفاعل النووي العراقي (1981)، مروراً بالاجتياح الإسرائيلي لجنوب لبنان (1982)، وقصف مقر منظمة التحرير الفلسطينية بتونس (1985)، وأحداث الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987-1993)، ومجزرة الحرم الإبراهيمي (1994)، ثم مجزرة قانا (1996)، وصولاً إلى انتفاضة الأقصى في 2000، ظل أداء النظام المصري ثابتا إلى حد كبير: إدانة لفظية للعدوان الصهيوني مع احتفاظ كامل بالعلاقات «الطبيعية» مع الدولة الصهيونية و»الدافئة» مع أمريكا!

الجديد في الحرب البربرية الدائرة ضد غزة الآن، وكذلك في حرب لبنان (2006)، هو أن أداء النظام المصري تطور «بعض الشيء»! فبدلا من إدانة الكيان الصهيوني، أصبح مبارك وحاشيته يدينون المقاومة. فرأينا في الأيام الأخيرة تصريحات أقل ما توصف به أنها «مبهرة»، ذكرتنا بتصريحات، ومواقف، شبيهة في حرب لبنان الفائتة.

رأينا مبارك يدافع عن غلق المعابر لأن «الاحتلال لابد أن يكون صاحب القرار بشأن الدخول والخروج عبرها»! ورأينا أحمد أبو الغيط يدين حماس ومحاولاتها لاختراق السيادة المصرية. الأنكى من ذلك أننا رأينا كتيبة من الكتبة الحكوميين، بل والمستقلين، يحذرون من الخطر الأكبر، وهو، صدّق أو لا تصدّق، ليس خطر حرب الإبادة الدائرة في غزة، بل خطر حرب التشكيك في مصداقية مصر التي تشنها حماس وحلفاؤها!

طبعا حدوتة المعابر و«سيادة مصر» و«قرار إسرائيل» هي قلب غير مسبوق للحقائق يذكرنا برواية 1984 لجورج أورويل حيث كانت تتم إعادة كتابة التاريخ في مؤسسات ضخمة تحول الحق إلى باطل والباطل إلى حق بشكل منهجي.

لكن هذا الفُجر المصري في العداء للمقاومة يطرح السؤال حول: ما هو جذر الانتقال النظام المصري في الحرب الحالية إلى إدانة حماس؟ لماذا لم تظل مصر على حالها السابق: إدانة لفظية وتواطؤ فعلي؟

الإجابة تحتاج إلى نظرة إلى تاريخ الدور المصري في الصراع العربي الإسرائيلي. فقد ورث نظام مبارك عن سابقه ترتيبات سياسية أساسها هو تسوية منفردة مع الصهيونية برعاية إمبريالية. كان هذا تعبيرا عن تحول موقف الطبقة الحاكمة المصرية من المواجهة إلى المهادنة على خلفية الأزمة المركبة التي واجهتها بعد حرب 1967. لكن بعد وصول مبارك للسلطة كان القرار هو تبريد «السلام» بعض الشيء لامتصاص الغضب، والعمل بهدوء على التقارب مع الأنظمة العربية، لكن دون تهديد للتحالف الاستراتيجي مع المعسكر الإمبريالي-الصهيوني.

التطور الأهم أتى بعد ذلك بحوالي عشر سنوات، مع انهيار الاتحاد السوفيتي وحرب الخليج الأولى، حيث أديا إلى «إقناع» كافة الأنظمة العربية، بما فيها معسكر الرفض، بضرورة السلام مع إسرائيل، ومن ثم تم عقد مؤتمر مدريد (1991) وبدأت مفاوضات السلام على مسارات منفردة.

وبدلا من أن يؤدي انخراط الدول العربية في عملية تفاوض مع إسرائيل إلى تهميش الدور المصري على أساس أن مصر لم تعد هي الجسر الوحيد إلى المنطقة العربية، أدى تأزم المفاوضات على أكثر من جبهة، أهمها الجبهة الفلسطينية بعد توقيع اتفاق أوسلو الذي تعثر تنفيذه، إلى بروز مصر كوسيط مقبول من كافة الأطراف (الدولة الصهيونية – الولايات المتحدة – السلطة الفلسطينية برئاسة عرفات). من هنا وجدت مصر لنفسها دورا ووظيفة في «لعبة السياسة الدولية»، أي في لعبة تقديم أوراق الاعتماد لدى الإمبريالية الأمريكية، وهو الأمر الذي عكس نفسه في إعلان مبارك أكثر من مرة أن 70% من وقته يتم إنفاقه على القضية الفلسطينية!

لكن إنفجار عملية السلام وبدء الانتفاضة الفلسطينية الثانية أديا إلى تغيير الأوضاع. ففي هذا الظرف الجديد برز عدد من المتغيرات أهمها هو بعد الشقة بين الطرفين الفلسطيني والصهيوني إلى حد هدد التوازن الذي رأته مصر مريحا خلال سنوات التسعينات. فكيف لمصر أن ترضي الطرفان المتناقضان: الدولة الصهيونية والقوى الفلسطينية؟ وكيف لها أن تفعل هذا بطريقة تحقق مصالح الإمبريالية الأمريكية؟ هنا، وبسبب احتدام التناقض، رأينا الوزير السابق أحمد ماهر يُضرب بالأحذية، ورأينا مظاهرات فلسطينية ضد مصر ومواقفها، ورأينا احتجاجات إسرائيلية على «تطنيش» مصر على الأنفاق السرية بين رفح الفلسطينية ورفح المصرية.. الخ.

ظلت مصر، رغم ذلك، وسيطا مقبولا إلى حد ما بين الأطراف. لكن الذي عقد الأمر أكثر هو تبلور الانقسام في الحركة السياسية الفلسطينية بعدما اغتالت الدولة الصهيونية ياسر عرفات، وبعد أن صعد أبو مازن بدلا عنه إلى السلطة كممثل للتيار المهادن حتى النهاية، ثم جاء انسحاب الجيش الإسرائيلي من غزة، وتبعه نجاح حماس في الانتخابات التشريعية الفلسطينية، ثم حدث المواجهات بين حماس وفتح، وخروج سلطة فتح من غزة.

في هذا الظرف أوكلت الدولة الصهيونية دورا مباشرا إلى مصر في مخططها لتصفية حماس (أي تصفية المقاومة الفلسطينية). طلبت إسرائيل من مصر، بشكل واضح، غلق معبر رفح الواصل بين غزة ومصر، وهو المنفذ الغزاوي الوحيد على بلد آخر غير إسرائيل. بتعبير آخر: طلبت إسرائيل من مصر استكمال حصارها هي على غزة، بحيث يصبح حصاراً شاملاً ومطلقاً. فكيف لمصر في مثل هذا الظرف أن تلعب دور الوسيط المقبول لدى المقاومة الفلسطينية؟ وكيف يمكن لحماس أن تنظر لمصر بوصفها طرف متعاطف، أو حتى محايد، بينما هي تلعب، مباشرة، دور الجلاد؟

من هنا كان في حكم المؤكد، أن كل الكلام المعسول بين عمر سليمان وفصائل المقاومة، وكل العلاقات الدافئة بين حماس والمخابرات المصرية، سيكون مصيرها التآكل. وبالتزامن مع هذا تصاعدت المخاوف المصرية، والإمبريالية، من صعود إسلاميي حماس على الحدود الشرقية لمصر، في ظل التواجد القوي لجماعة الإخوان المسلمين في مصر. فبدا كأنما النظام المصري يكتشف، لأول مرة، أن حماس أخت شقيقة للإخوان، وأن التنظيمان ينتميان لجذر واحد.

الملاحظ في هذا السياق أن حماس حاولت بشتى الطرق، بسبب منطقها الرافض لإحداث مواجهات مع الأنظمة العربية، إيجاد مخرج غير تصادمي مع النظام المصري، بل ومع إسرائيل. فقد طرحت تجديد اتفاق المعابر مع السماح للسلطة الفلسطينية والاتحاد الأوروبي بالتواجد على الجانب الفلسطيني من معبر رفح، وكذلك طرحت تجديد الهدنة مع إسرائيل لمدة عشر سنوات، لكن في مقابل فك الحصار وإيقاف الاغتيالات. لكن كل هذا قوبل بأذن صماء من الطرف الآخر، وكل ما فعله النظام المصري هو الاستمرار في إغلاق المعبر، مع دعوة حماس إلى الرضوخ.

خضوع النظام المصري التام للدور المرسوم له، من قبل الدولة الصهيونية، هو جزء من تكوين الطبقة الحاكمة المصرية ومصالحها الاستراتيجية. لكن ما يضيف انهيارا إلى انهيار، في هذا الصدد، هو التعفن التام الذي أصاب نظام مبارك، بحيث أن قضيته الأولى، مع شيخوخته وتفسخه، أصبحت الاستمرار على مقعد الحكم ثم تأمين السلطة للوريث، وهو لأجل هذا يرى أن السند الوحيد لمطامعه هو إرضاء الإمبريالية الأمريكية وإشعارها بأهمية دوره في الحفاظ على مصالحها الإقليمية. من هنا تحول مبارك من مجرد متواطئ باللافعل على جرائم الصهيونية، إلى شريك أصيل في تنفيذها.