بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

القضاة والحكومة.. الأزمة مرة أخرى

مد سن التقاعد للقضاة جاء ليضيف فصلاً جديداً في الأزمة بين النظام والقضاة التي تصاعدت مع نمو حركة المطالبة بالديمقراطية قبل نحو عامين. وإذا كان جوهر الأزمة هو إصرار الحكومة على تركيع القضاة، فإن التضامن مع نضال القضاة يصبح ضرورة لأن استقلالهم يمثل ضمانة أساسية في مواجهة القمع المتزايد للنظام. ويمكن القول إن مسألة علاقة الإخوان بالأمريكيين برزت إلى السطح في الكثير من المناسبات خلال السنوات الخمس الأخيرة، وتحديداً منذ اتساع النشاط الجماهيري للإخوان وبروزهم باعتبارهم القوة الوحيدة التي تحظى بوجود في الشارع ومن ثم تمثل المنافس الحقيقي الوحيد لنظام مبارك.

ففي عام 2003 ترددت أنباء عن حدوث لقاء بين دبلوماسيين أمريكيين وقادة من الإخوان. آنذاك أكد متحدث باسم السفارة الأمريكية حدوث حوار بين الطرفين من وقت لآخر. ومع إعلان الإخوان لمبادرتهم للإصلاح السياسي في عام 2004 ثم صعود حركة التغيير الديمقراطي في نهاية ذلك العام وعام 2005، أشار متحدث باسم الخارجية الأمريكية إلى إمكانية عقد حوار مع الإخوان. وترددت أنباء حول وقوع لقاءات بالفعل بين مسئولين أمريكيين وقياديين إخوان في تلك الفترة. وفي كل الأحوال، فإن العلاقة بين الإخوان والأمريكيين يمكن تقييمها في ضوء عدد من الاعتبارات تتعلق بالرؤية الأمريكية للحركات الإسلامية عامة، ومنها الإخوان، وبتصورات الأخوان، بصفتهم يمثلون حركة إصلاحية تهدف إلى الوصول إلى الحكم، حول العلاقة بأمريكا.

عادت مسألة القضاة لتفرض نفسها من جديد على تطورات الوضع السياسي في مصر. والمناسبة هذه المرة كانت إقرار مجلس الشعب مشروع قانون تقدمت به الحكومة لمد سن التقاعد للقضاة من 68 إلى 70 عاماً، رغما عن القضاة الذين عارض أغلبهم هذا القرار، ورغم تعهدات مسئولين في رئاسة الجمهورية، ووعود رئيس مجلس الشعب فتحي سرور بأنه لن يتم طرح القانون. ولا تعد هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها مد سن التقاعد للقضاة، حيث تم رفع السن عدة مرات خلال السنوات السابقة من 60 إلى 64 إلى 66 إلى 68 عاماً. غير أنه ما يميز مد سن التقاعد هذه المرة، هو أنه بمثابة محطة على طريق النزاع، الذي بدأ منذ عامين، وشهد ذروته الصيف الماضي، بين الدولة والقضاة، ممثلين في نادي قضاة مصر الذي يضم نحو ثمانية آلاف قاضٍ.

عامان من المواجهة

أثرت حركة التغيير الديمقراطي، التي اشتعلت قبل نحو العامين ونصف العام، على عديد من القطاعات رغم ما اعترى –ولا يزال— هذه الحركة من نقائص وإخفاقات. وكان القضاة فئة أساسية من الفئات التي تفاعلت مع التطورات التي ارتبطت بتلك الفترة، التي شهدت انتخابات رئاسية وبرلمانية (عام 2005) من المفترض أن يلعب القضاة – وفقا للدستور قبل التعديلات الأخيرة— دوراً أساسياً في ضمان نزاهتها.

بعد التعديل الدستوري، الذي أقره مبارك في فبراير 2005، بأن يتم اختيار رئيس الجمهورية بالانتخاب المباشر بين أكثر من مرشح، طالب القضاة بوضع ضمانات كافية للإشراف على الانتخابات الرئاسية وانتخابات مجلس الشعب. وهددوا بالعزوف عن الإشراف على الانتخابات، في حالة عدم تلبية هذه المطالب. غير أن هذا التهديد لم ينفذ، حيث قبل القضاة في النهاية الإشراف على الانتخابات. لكن ذلك كان بداية لتصاعد أزمة حادة بينهم وبين نظام مبارك. فقد قام بعضهم، وعلى رأسهم المستشارة نهى الزيني، بكشف وقائع التزوير التي حدثت في الدوائر التي كانوا يشرفون عليها. وذهب آخرون إلى أبعد من ذلك حينما أعلنوا أسماء القضاة الذين شاركوا في التزوير، وتحدثوا للفضائيات عن وقائع التزوير، وهو ما مثل حرجاً هائلاً للحكومة، لأنه جاء هذه المرة من من فئة تمثل ركناً أساسياً من أركان النظام، وتحظى في نفس الوقت بقدر هائل من المصداقية بين المصريين. ورداً على هذه الخطوة، قرر وزير العدل، بناء على طلب من النائب العام، تحويل قاضيين من التيار المطالب بالإصلاحات الديمقراطية، هما هشام البسطويسي وأحمد مكي، إلى مجلس صلاحية، وهو مجلس تأديب، يترأسه رئيس مجلس القضاء الأعلى التابع لوزارة العدل. ومن سلطة هذا المجلس أن يحيلهما إلى التقاعد، أو يحولهما إلى وظائف إدارية، إذا ما قرر أنهما غير مؤهلين لممارسة المهنة. وإزاء هذا الإجراء غير المسبوق، نظم نادي قضاة القاهرة، عدة اعتصامات، تلتها اعتصامات تضامنية في نوادي القضاة في الإسكندرية وعدة مدن. وكان أن أدى التعاطف الجماهيري الواسع مع حركة القضاة، وتجدد حركة الديمقراطية –التي كانت قد هدأت بعد انتخابات مجلس الشعب- عبر التضامن مع القضاة إلى منع الحكومة من معاقبة القاضيين، حيث تمت تبرئه مكي وحصل البسطويسي، على عقاب شكلي محدود.

غير أن هذا الحدث كشف أن القضاة يمثلون عائقاً أمام خطط النظام الآنية والمستقبلية، وهو ما جعل من المحتم تقليم أظافر هذه الفئة عبر تقليص السلطات التي تحظى بها. ومن هنا كان إصدار قانون السلطة القضائية في منتصف عام 2006، والذي تجاهل المشروع الذي أعده نادي القضاة عام 1991 بهدف تعزيز استقلال السلطة القضائية. وجاء القانون الجديد ليلبي واحداً فقط من مطالب القضاة وهو فصل ميزانيتهم عن وزارة العدل، حتى يكون الاستقلال المالي عن السلطة التنفيذية فعلياً. لكن القانون تجاهل المطالب الأخرى بشأن إنشاء هيئة مستقلة لتقييم أداء القضاة، وجعل عضوية مجلس القضاء الأعلى بالانتخاب من جانب الجمعية العمومية للاستئناف والنقض.

ثم جاءت الضربة الأخرى في التعديلات الدستورية الأخيرة، حيث تم تعديل المادة 88 التي كانت تضمن الإشراف القضائي الكامل على العملية الانتخابية. فأصبح الإشراف القضائي مقتصراً على مراكز الاقتراع الرئيسية، بعد أن كان النظام المطبق منذ حكم المحكمة الدستورية عام 2000 هو إشراف القضاة على كافة لجان الانتخاب. ومن الطريف أن من مبررات الحكومة في طرح هذا التعديل هو أنه يحافظ على كرامة القضاة بعد الاعتداءات التي تعرضوا لها في انتخابات مجلس الشعب عام 2005، حينما تم الاعتداء على 165 قاضياً. وكما هي العادة دائماً، لم يعبأ النظام باعتراض القضاة على هذه التعديل، خاصة وأن الحكومة تدرك أنه ليس بمقدورهم اتخاذ رد فعل يمكن أن يضعها في ورطة أثناء العملية الانتخابية، لأن المطلوب هو 500 قاضٍ فقط للإشراف على اللجان الرئيسية.

وأخيراً كان القانون الذي أقره مجلس الشعب بمد سن التقاعد، والذي فسره القضاة الإصلاحيون بأنه يهدف إلى مكافأة القضاة المتعاونين مع الدولة –خاصة أعضاء مجلس القضاء الأعلى الذين سيحال معظمهم إلى التقاعد قريبا— وأعاقة ترقية شباب القضاة الذين يشكلون أكثر من 80% من القضاة، وينتمي الكثير منهم إلى التيار الإصلاحي.

استقلال القضاء

تتردد عبارة أن «القضاء هو الجهة الوحيدة المستقلة عن الدولة في مصر» منذ عقود طويلة. ولهذا الاقتناع ما يبرره، بالنظر إلى المعارك التي خاضعها القضاة دفاعاً عن الحريات منذ ما قبل يوليو 1952، والأحكام القضائية العديدة التي مثلت تحدياً للدولة –منها على سبيل المثال الحكم التاريخي الذي أصدره المستشار حكيم صليب بتبرئة المتهمين بالمسئولية عن انتفاضة الخبز في 1977، والتأكيد على أن الانتفاضة كانت عفوية بسبب الارتفاع المفاجئ في الأسعار، لا نتيجة لمؤامرة كما كان يزعم السادات، وحكم المحكمة الدستورية العليا عام 2000 بضرورة إشراف القضاء على كافة مراحل العملية الانتخابية، وعشرات الأحكام التي أثبتت حدوث تزوير في انتخابات مجلس الشعب لصالح الحزب الوطني، وحكم المحكمة الإدراية العليا الذي صدر قبل نحو أسبوعين بإلغاء تحويل عدد من قادة الإخوان المسلمين إلى المحكمة العسكرية، وغيرها. ولذلك فأن غالبية المصريين ترى في القضاء الملاذ الأخير ضد ظلم وقهر الدولة. كما أن مهنة القاضي لها مكانة خاصة في أعين الناس، باعتباره رمزاً للعدل والقدرة على الحكم بين ما هو صواب وما هو خطأ. لذلك فلم يكن مصادفة أن اعتصامات القضاة التي حدثت في إبريل ومايو من العام الماضي احتجاجاً على تحويل مكي وبسطويسي إلى مجلس الصلاحية، حظيت باهتمام وتعاطف شعبي هائل. ومن جانبه، لم يدخر النظام وسعاً في تقويض استقلال السلطة القضائية عن طريق التوسع في نظام المحاكم الاستثنائية، وإنشاء مجلس القضاء الأعلى، وفرض قوانين الطواريء التي تحد من سلطة القضاة في مواجهة قمع الأجهزة الأمنية، إضافة إلى سلسلة الإجراءت التي اتخذتها الدولة مؤخراً كما تمت الإشارة أعلاه. وأخيراً تسعى الحكومة إلى توجيه ضربات لنادي قضاة مصر، عن طريق التواطؤ مع رؤساء نوادي القضاة في بعض المحافظات وعلى رأسها أسيوط والمنيا والقليوبية من أجل الاستقلال عن نادي قضاة مصر.

ولا ينبع نضال القضاة للحفاظ على استقلالهم في مواجهة الدولة من مجرد الإيمان بمبادئ الحريات والانحياز لقيم العدالة، ولكن من عامل أكثر أهمية بكثير يتعلق بطبيعة وضع القضاة التي تختلف عن وضعية كافة المهنيين. ذلك أن الحفاظ على مركزهم وشرعية وجودهم يرتبط بمدى تلبيتهم للوظيفة التي وجدوا من أجلها وهي أن يكونوا حكماً بين السلطات، وبين السلطة والمواطن. وتعد كفاءة الجهاز القضائي واستقلاليته سمة أساسية من سمات الدول الديمقراطية، وعاملاً لا غنى عنه للحفاظ على تماسك ومصداقية أي نظام داخلياً وخارجياً.

النخبة المعزولة

لكن هناك بعداً آخر لهذه الوضعية الخاصة للقضاة. فمن جهة، هم ممنوعون من ممارسة العمل السياسي بحكم القانون. فلا يحق لهم الانضمام إلى أحزاب أو المشاركة في المعارك الجماهيرية، أو التعبير عن مواقفهم بالتلاحم مع باقي فئات المجتمع. ويؤدي هذا الوضع بشكل تلقائي إلى عزلة هذه الفئة عن الجماهير، شاءوا ذلك أم أبوا. وينتج عن هذه العزلة أيضاً تأكيد إيمانهم بأن لهم وضعاً متميزاً لا تنازعهم فيه ولا يجب أن تنازعهم فيه أية فئة أخرى. ومن هنا كان الموقف شديد الرجعية لمعظم القضاة ضد تولى المرأة وظيفة القاضي. فقد بدا أنه من سخريات القدر أن تقود جهات حكومية مؤيدة للنظام في كافة إجراءاته القمعية، وهي المجلس الأعلى للقضاء ووزارة العدل، الخطوات لأجل ضم نساء إلى صفوف القضاء، بينما يرفض غالبية أعضاء نوادي القضاة، ذوي المواقف المبدئية الراسخة في الدفاع عن الحريات والعدالة -صراحة أو ضمناً- أن تشاركهن النساء في هذه المهنة، بدعوى أن القضاء ولاية وليس وظيفة، ومن ثم لا يجوز شرعاً أن تتولى المرأة هذا المنصب. هذا المنطق يمكنه أن يفتح أبواب جهنم لأنه يعني استبعداد المسيحيين من هذه المهنة، لأنه وفقاً للشرع لا ولاية لغير مسلم على مسلم. ووصل الأمر إلى أن أرسل رئيس أحدى نوادي القضاة، وهو رئيس نادي قضاة بني سويف، رسالة إلى الديكتاتور، يناشده التدخل، لمنع النساء من الالتحاق بسلك القضاء.

من ناحية أخرى، لا يمكن إغفال أن القضاة هم جزء لا ينفصم من مؤسسة النظام الحاكم. ولذلك فإن نضالهم في مواجهة الاعتداء على الحريات، هدفه النهائي هو الحفاظ على استقرار وتماسك هذا النظام، وتخليصه من العلل التي ستؤدي في النهاية إلى الترهل والفوضى. وغني عن القول أن المطالبة بتغيير المجتمع تغييراً جذرياً للتخلص من أوضاع الاستغلال الراهنة، غير مطروح عليهم من الأساس. ومن ثم فإن سقف المعارضة التي يقومون بها يظل محدوداً. ولم تكن مصادفة أن القضاة لم يحاولوا التوجه إلى الجماهير وتعبئتهم طلباً للتأييد في مواجهة الضربات المتتالية التي تعرضوا خلال العامين الماضيين، رغم الاحترام الشديد الذي يحظون به، والتأييد الجماهيري الكاسح التي حظوا به في أثناء أزماتهم. فقد كانت فكرة الحفاظ على «الشرعية»، والتي تضمنت ردود الفعل المحسوبة، والمناشدة، والاعتصام داخل ناديهم، هي الحدود القصوى لتحركاتهم خلال تلك الفترة. ويمكن أن نفهم في هذا السياق قرار الجمعية العمومية لنادي القضاة في 29 أبريل الماضي، بالتراجع عن المسيرة التي قرروا القيام بها سابقا،ً إلى قصر الرئاسة احتجاجاً على مد سن التقاعد، وذلك بعد أن أخطرهم الأمن برفض المسيرة. رغم أن تلك المسيرة كانت ستسفر حال حدوثها عن تأثير مدوٍ وتضع الحكومة في حرج شديد لأنها من الصعب جداً أن تتعامل مع القضاة كما تتعامل عادة مع المتظاهرين. وفي حقيقة الأمر، فإن النظام يدرك جيداً هذه الحدود، وهو ما يفسر عدم التردد في اتخاذ الخطوات الهادفة إلى تقليص استقلال القضاء.

وفي ضوء ما سبق يمكن القول أن تأييد القضاة في كل نضالاتهم من أجل الحريات هو مسألة لا يمكن المساومة عليها. لأنه من جهة، هذه النضالات تهدف إلى كبح جماع نظام الديكتاتور في قمع الجماهير، ويمكن أن تعطي دفعة للحركة المطالبة بالديمقراطية. ومن جهة أخرى، فهي تؤدي إلى إضعاف النظام وتعزيز الانقسام بداخله -باعتبار أن هذه الفئة هي جزء لا ينفصم عنه- وهو ما يصب بالضرورة في مصلحة الأغلبية الساحقة من الجماهير المعادية لهذا النظام. لكن يبدو مهماً بالتوازي مع ذلك إدارك أن استمرار عزلة القضاة عن الجماهير من شأنه أن يمثل عائقاً أمام نجاحهم في تحقيق أهدافهم، ويمنعهم من تطوير تحركاتهم ومطالبهم.