القضاة ومعركة إسقاط الديكتاتور
أثارت معركة القضاة عشرات من الأسئلة في ذهن كل الحالمين بإسقاط الديكتاتور. وربما يكون أهم هذه الأسئلة هو كيف تحولت قضية مطالبة القضاة باستقلالهم ومحاكمة القضاة الشرفاء إلى قلب معركة الديمقراطية في لحظة بعينها؟ وهل يصلح القضاة ليكونوا أبطال معركة التغيير؟ وإذا ماكانت المعركة انتهت بعد صدور القانون الحكومي، وبالتالي علينا فقط نتعلم منها لنشترك في كل معارك الديمقراطية القادمة حتى إسقاط الديكتاتور. عاطف الشحات يحاول الإجابة على هذه الأسئلة.
في الجمعية العمومية لنادي القضاة في 13 مايو 2005، خاطب رئيس النادي المستشار زكريا عبد العزيز جموع القضاة قائلاً: “لا تخذلوا شعب مصر وأمانيه في الديمقراطية والإصلاح”. وفي شهري مارس وأبريل 2006 وخلال تصاعد الأزمة بين نادي القضاة ورموز القضاة المدافعين عن إستقلاله، والتي انتهت بمحاكمة المستشارين هشام البسطاويسي ومحمود مكي، كتبت أقلام كثيرة موجهة حديثها لكل قيادات المعارضة الديمقراطية وللشعب المصري قائلة:”لا تخذلوا القضاة”. أمور كثيرة حدثت ما بين اللحظتين: مايو 2005 ومارس/ابريل 2006. وانكشف بوقاحة أكثر مفهوم نظام مبارك للإصلاح الديمقراطي، وإنكشف معه مفهوم الضغوط الخارجية للإصلاح بعد أن رجع الديكتاتور لمساومة أمريكا. وتأكد من يريد التأكد للمرة الألف أن الأمريكان يعرفون مصلحتهم جيداً، وأنهم لم يهتموا بالإصلاح قط بقدر مراهنتهم على رجلهم ومصلحتهم في المنطقة، ربما أكثر من أي وقت مضى. في اللحظة الأولى كانت حركة الشارع هي سيدة الموقف. أما في اللحظة الثانية، فقد توجهت الأنظار إلى القضاة وإلى ما أسماه البعض بإنتفاضة أو ثورة القضاة. وإنتهت اللحظة الثانية بالقانون المسخ لمشروع القضاة.
ولننظر للوراء قليلاً. فلا يمكننا إنكار حالة السكون التي شهدتها حالة معركة الديمقراطية فيما بعد كل من الانتخابات الرئاسية والبرلمانية منذ نوفمبر 2005 وحتى مارس 2006، وحتى بدء تصاعد معركة القضاة ببدء سلسلة المساءلات التأديبية للقضاة الذين فضحوا التزوير في الانتخابات. وجاء السكون بعد نشاط قوى، وحالة الحيوية التي تزامنت مع نشاط اليساريين ورموز كفاية والحملة الشعبية وشباب من أجل التغيير في الانتخابات البرلمانية برغم كوارث البلطجة والضغوط الأمنية والتزوير. أيضاً خرجت بعض هذه القوى للأحياء الشعبية بعيداً عن مظاهرات وسط العاصمة. لقد استغرق ترتيب الأوراق وقتا طويلا. وربما يكون البعض قد شعر بالإحباط مستنتجا أن معركة إسقاط الديكتاتور أصعب مما تصوروا.
فى سياق هذا السكون تصاعدت أزمة القضاة. وتضافرت حزمة من الأسباب التي نقلت معركة استقلال القضاء لقلب مشهد معركة الديمقراطية. من أول هذه الأسباب أن القضاة لهم مصداقية كبيرة. فمطلب الإصلاح والاتهامات بالتزوير تأتى هذه المرة من عدد كبير من الأشخاص، المفترض فيهم شكلاًَ أنهم جزء من السلطات الأساسية في أي دولة برجوازية. فجأة وجدنا اجتماعات عامة لآلاف من الأشخاص الذين يمتلكون حصانة قضائية ويمثلون -على الأقل شكلاً – جزءا من النظام الحاكم من الناحية الدستوريةً، تفضح النظام. ومعنى ذلك ببساطة هو أن هناك جناحا من داخل النظام الحاكم له مصداقية كبيرة قد بدأ في إحراج الديكتاتور وعصابته. أما السبب الثاني فهو أن مطالب هذا الجناح تتلاقى مع مطالب حركة المطالبة بالديمقراطية. وهذا ما أكده كثير من الخبراء والباحثين ( طارق البشرى وحسن نافعة ورموز النادي أنفسهم وكثيرين) بقولهم إن مطالب نادي القضاة هي مطالب تهم الشعب كله. ويؤكد البشري أن نادي القضاة ليس جماعة مهنية عادية، لكنها الهيئة المشخصة للجماعة القضائية ذاتها. وقضية الاستقلال المهني للقضاة عن الحكومة معناها سيادة القانون ومعناها خضوع مبارك للقانون. أما السبب الثالث فيتمثل في أن النظام لم يقبل هديتهم بالأخذ باقتراح القضاء لإصلاح النظام من الداخل. ليس ذلك فقط، بل وبادر بالهجوم بتقديم بعض رموزهم لمساءلات تأديبية دافعا نادي القضاة ورموزه للقيام بوقفات احتجاجية بدأت بوقفة 17 مارس 2006.
مبارك ومفهوم القضاء في ظل الديكتاتورية
لقد عبر كارل شميت وهو أحد المفكرين الألمان (أعتبر بعد ذلك المنظر الدستوري للنازية وهتلر، وتلقى أفكاره رواجاً بمعنى ما في أوساط اليمين الامريكى وكثير من دارسي العلوم الاجتماعية في الولايات المتحدة حالياً) عن مجموعة من الأفكار التي يمكن أن تكون ذات دلالة في سياق الحالة المصرية حالياً. ومن أهم الأفكار التي أسس لها، أهمية وجود الاستثناء وهذا هو الذي يحمى القاعدة. وبمعنى ما فإن الديكتاتورية مطلوبة لحماية الاستقرار، والخروج على الدستور ضروري لحماية الدستور في وقت لاحق. وقد فرق شميت بين ما أسماه الديكتاتورية الدستورية، وهى الحالة التي لا يتم فيها الخروج على القانون والدستور تماماً، وهى التي تكون أيضاً عندما تكون الديكتاتورية لها أساس انتخابي. أما الحالة الثانية فهي ما اسماها بالديكتاتورية التي تستند إلى السيادة. وفى الحالة الثانية يتم تعطيل القوانين والدستور، لكن يتم تطبيقهما شكلياً. ومهدت أفكار شميت، كجزء من منظومة أفكار أخرى له ولآخرين، لصعود هتلر لاحقاً. ووفقاً لرؤيته، ربما نعتبر إن ديكتاتورية هتلر كانت من النوع الأول، فهو منتخب وترتبط ديكتاتوريته بوجود القانون والدستور. فكيف نرى ديكتاتورية مبارك بين هذين النظامين؟ هل انقلب مبارك على قضائه ولا يريد الحكم سوى بالبلطجية والقمع وبدون تفويض انتخابي؟
لا يمكن الإجابة على هذا بدون النظر لطبيعة العلاقة بين البرجوازية والقضاء في مصر. فهناك دستور وقوانين في مصر ولكن الحكم الحقيقي هو لرأس المال. والمشكلة الحقيقية أن هناك هامشاً من الحريات وهناك تقسيم أدوار أو عمل بين المؤسسات الرئيسية للدولة في أي دولة رأسمالية بها حد معقول من الديمقراطية. ووجود قضاء مستقل (هو مستقل عن المؤسسات الأخرى، لكنه ليس مستقلاً عن الدولة المحكومة برأس المال وقوانينه) قد يؤدى إلى بعض التضحيات البسيطة للنظام، لكنه يصب ذلك في المصلحة الأسمى للنظام وهى الحفاظ على الدولة ورأس المال والاستقرار وتنظيم الأرباح. وقد ردد الماركسيون التقليديون بدون تفكير بعض مقولات ماركس عن أن الدولة هي مجرد أداة تخدم البرجوازية في أي مجتمع، ولا يوجد هناك هوامش لاستقلال الدولة (وبالتالي مؤسساتها). لكن لاحقون لهم رأوا إن هذا تفكير مدرسي وشكلي. ودفعوا بوجود استقلال نسبى لجهاز أو أجهزة الدولة. ولذلك فإن وجود هامش من خضوع الدولة ورجال الطبقة الحاكمة للقانون وللقضاء، وهامش من استقلال القضاء هو ضرورة لحماية الدولة الرأسمالية وبقائها.
والأصل أن القضاء في أي دولة وظيفته حسم الصراعات الاجتماعية والسياسية. وأي دولة رأسمالية ذكية تحرص على وجود هامش معقول لاستقلال قضائها حتى يستقر الاستثمار( أي جلب مزيد من الإرباح) وللحيلولة دون قيام ثورات شعبية، حتى ولو كلفها ذلك بعض التضحيات ( في محاكمة بعض المسئولين الفاسدين مثلاً من وقت لأخر، أو تعرض بعض رموز الطبقة الحاكمة لمحاكمات جنائية إذا اعتدوا على بعض الفقراء). فالحفاظ على الهدف الأسمى، وهو استقرار النظام، هو أهم من هذه التضحيات البسيطة.
نظام مبارك في أزمة بقاء. وتنبع الأزمة من أنه يفكر من جهة في الالتزام ببعض القوانين لتساعده، فهو يريد مثلاً استمرار البروباجاندا والأكاذيب حول وجود قوانين وانتخابات في مصر، وأنه يعتزم عمل تعديل دستوري وإلغاء الطوارئ وإصدار قوانين السلطة القضائية ومنع حبس الصحفيين ( رأينا النتائج المسخ لهذه القوانين). والهدف هو تحسين صورة النظام أو كسب الوقت لتمرير التوريث. لكنه من جهة ثانية لا يريد إلا قوانين تفصيل، ولا يريد حتى هامش الاستقلال الموجود في أي دولة رأسمالية. فبدأ يضيق بأي هامش تافه يعرقل مخططه في التوريث. أي رأسمالية هي متناقضة في حد ذاتها، فمن جهة تريد الحفاظ على الهامش لكن من جهة أخرى تريد الحفاظ على مصالحها بأي ثمن. وفي كل الأوقات كان الحكم لرأس المال بخدمة مبارك وباستخدام بعض القوانين. ومشكلة إنتفاضة القضاة أنها جاءت من بيت النظام ( أحد السلطات الأساسية بالمعنى الدستوري). مبارك يريد إن ينتقل إلى الديكتاتورية المطلقة ( النوع الثاني عند شميت) وهو يدعى أن القوانين تحترم في عهده. وكلنا نعلم أنه لا يوجد لا قانون ولا قضاء يحترم في عهد مبارك.
لكن يبدو أن نظام مبارك أصبح يدرك جيداً إن الهدف الأسمى ( الحفاظ على الدولة والاستقرار) ليس مهماً عنده. فأزمته وغباؤه السياسيان يقودانه إلى التضحية بهذا الهدف “الأسمى” في مقابل حماية استقرار نظامه هو شخصياً وخدمة رجال أعماله. وربما يكون هناك توافق كبير بين قطاع كبير من الرأسمالية المصرية ومبارك على إن استمرارهم يتطلب استمرار مبارك ولو بأي ثمن. ومن ناحيتهم، يريد القضاة أن يكونوا كسلطة “مستقلة” في أي دولة ديمقراطية رأسمالية عادية، بينما يريد النظام موظفين يصدقون على ما يقوم به من فساد واستبداد ويتنازلون عن الهامش المعطى لهم. وليس من قبيل المصادفة أن نلاحظ أننا لم نسمع أياً من رجال الأعمال يعلق على أزمة القضاة. لم نسمع سوى ساويرس مرة واحدة مبدياً إمتعاضه من ضرب المتظاهرين ومنتقداً الحكومة لأنها ليست ليبرالية وعلمانية سياسياً لمواجهة الإخوان المسلمين.
ويعكس أداء الحكومة ـ والطبقة الحاكمة وإنقساماتها ـ في قانوني السلطة القضائية والصحفيين حالة ترنح نظام مبارك بين الديكتاتورية “القانونية” والديكتاتورية الفاشية. فقد قدم القضاة في مصر هدية لمبارك على طبق من فضة من قلب النظام الحاكم لإعطائه شرعية وعمل إصلاحات أخرى، لكنه رفض. فمع اشتداد أزمة نظام مبارك، أصبح الديكتاتور وزبانيته يريدون من القضاة مهمات أكثر فظاظة ووقاحة. فقد أصبح المطلوب منهم ليس فقط السكوت على التزوير وزج اسمهم فيه، ولكن السكوت على استمرار التزوير مع ممارسات أبشع منها: الاعتداء على الناخبين وبلطجية لديهم يد طولي في الانتخابات ومنع الناخبين. ووصلت الأمور إلى الإعتداء على القضاة أنفسهم بالجملة في مشهد لم يحدث في تاريخ مصر سوى مرة أو مرتين وضد قضاة أفراد ( الاعتداء على السنهوري في مجلس الدولة عام 1954). أصبح نظام مبارك يطلب من القضاة ليس فقط تطبيق الطوارئ باستمرار لمدة ربع قرن مستمر، لكن الصبر على خروقات هذا القانون ذاته. وباختصار، لم يعد نظام مبارك يطيق هامش استقلال القضاء. وصعب على القضاة السكوت على كل ذلك، خاصة في وضع ُضربوا فيه بالجملة و لم يتم التحقيق سوى في 10 حالات من بين أكثر من 165 حالة إعتداء على قاض في الانتخابات التشريعية (وفقاً لبيانات نادي القضاة).
وقد لا يعرف كثيرون موقف ورؤية هؤلاء القضاة الشرفاء للقضية الوطنية. وحتى لو كان تأدبهم والحدود المحافظة لوظيفتهم يمنعانهم من إنتقاد مواقف مبارك الموالية للامبريالية، إلا أنهم ربطوا في العديد من الدراسات بين القضية الفلسطينية ومعركة الديمقراطية وسيادة القانون في العالم العربي. وقد كان بيانهم ضد الحرب حاداً جداً في مواجهة الأنظمة العربية. وكان هذا البيان معارضا للتوريث بشكل مباشر، أي أن كثيراً من القضاة الشرفاء يدركون في قرارة أنفسهم أن مبارك ألعوبة في يد الإمبريالية.
وهكذا رأى القضاة كيف يعرضهم نظام مبارك لأزمة شرعية. فهم يريدون الحفاظ على مراكزهم وشرعية وجودهم، ويعني هذا أن يصروا باستماتة على استقلالهم وحماية نزاهتهم. فمكمن شرعية القضاة في أية دولة هو ظهورهم بمظهر المحايد والنزيه. لكن هذا يصطدم، من جهة ثانية، بأهمية الحفاظ على مراكزهم، وهو ما يفرض الرضوخ أكثر لمطالب النظام. مبارك يريد منهم مباركة انتخاباته المزيفة، لكن ذلك يفقد الناس الثقة فيهم. وثقة الناس فيهم ( حتى ولو بمعنى نسبي) هي أساس وجودهم والثقة في مركزهم، والمبرر لأي امتيازات يحصلون عليها. نظام الديكتاتور يربط الامتيازات (حوافز القضاة وبدلاتهم وترقياتهم) بالولاء له، والقضاة الشرفاء يريدون ديمقراطية القضاء وإستقلاله، ويرون أن كرامة ونزاهة القضاء هي أساس شرعيته، وأن أي مكاسب يحصل عليها القاضي هي لكي يقوم بوظيفته ويحقق العدل، ولو بمعناه القانوني (الشكلي). القضاة الشرفاء يريدون إقامة العدل القانوني.
وربما لا يهتم أو يدرك بعض القضاة أن إقامة العدل القانوني لا تصلح بديلاً للعدل الاجتماعي. والعدل القانوني هو فقط منع الفساد في القضاء، وضمان هامش قوى لاستقلاله، مما يمنح المواطنين فرصاً متساوية للجوء إلى التقاضي. لكن الفقراء والأغنياء لم ولن تكون لهم فرص متساوية أبداً في التقاضي، ناهيك عن أن الحق المتساوي في التقاضي، أمام قضاء مستقل أو شبه مستقل، لن يحل مشاكل الظلم الاجتماعي والفقر والاستغلال. ربما انتبه القضاة الشرفاء، وقادة حركة استقلال القضاء، إلى ضرورة أن يكون استقلال القضاء مربوطاً بوجود انتخابات نزيهة. لكن تحقيق استقلال القضاء ووجود الانتخابات النزيهة (حتى لو تحققا) لن ينهيا الظلم المجتمعي، لكن ربما يحققان فقط قدراً معقولاً من الديمقراطية البرجوازية.
التاريخ والطريق المسدود
أوصل مبارك القضاة “الشرفاء” إلى طريق مسدود مع نظامه. ولم يصل القضاة إلى هذه النتيجة (انفجار الموقف وإعلان قيام القضاة بوقفة احتجاجية مثلاً في الجمعية العمومية في 17 مارس الماضي)، إلا بعد صبر كبير. فقد وافقوا على الإشراف على الانتخابات بدون أي ضمانات، وبعد أن استبعد رئيس اللجنة المشرفة على الانتخابات الرئاسية 1700 قاض من الإشراف على الانتخابات، وبعد أن تم تجاهل مشروع القانون، الذي أعدوه لكي يضمن استقلالهم، لمدة 15 عاماً ( مند يناير 1991). وزاد الطين بلة موقف مجلس القضاء الأعلى، الذي بدأ في سلسلة من المساءلات التأديبية للقضاة الشرفاء. لقد صرح القاضي حمزة بعد الاعتداء عليه مثلاً بأنه لم يكن مؤمناً بمواقف نادي القضاة بصفة مطلقة، لكنه أصبح أكثر إصراراً على التضامن معهم بعد واقعة الاعتداء عليه، حيث تمثلت لديه جرائم بوليسية النظام.
بالإضافة لذلك هناك سبب تاريخي ساهم في انفجار الأزمة بين القضاة والنظام. فمعظم قيادات نادي القضاة حالياً، وقيادات حركة استقلال القضاء، هم من الذين تتلمذوا وشاركوا في نشاط النادي منذ الثمانينيات في ظل قيادة المستشار يحيى الرفاعي. والرفاعي وزملاؤه هم رموز معركة استقلال القضاء ضد نظام عبد الناصر، والتي انتهت بما ُسمي بمذبحة القضاة. الرفاعي ونصار هم من القضاة المصريين الذين تربوا في مرحلة الليبرالية والهامش القوى لاستقلال القضاء في مرحلة ما قبل عبد الناصر. وهناك عشرات من الحوادث التي دائماً ما يذكرها القضاة عن رفض القضاة وسعد زغلول قبول مكافآت حكومية تأكيداً لنزاهتهم. وأكدوا آنذاك مثلاً إن من يعطينا منحة يملك أن يأخذها منا، أو أن هذا النظام يطالبنا بمقابل لهذه المنحة. ويقول المؤرخون، كالمستشار طارق البشرى، إن القضاء المصري المعاصر ولد مستقلاً بعد انتهاء المحاكم المختلطة وذلك برغم غياب قوانين تضمن استقلاله. والسبب في ذلك هو أن القضاء كان ساحة للصراع الاجتماعي ضد الاحتلال وأعوانه. وفى سياق الدور الوطني للقضاء، أصر القضاة على حماية استقلالهم ضد مختلف الأنظمة التابعة للاحتلال والملك.
ومن المعروف أنه قبل عدة أشهر من المذبحة الشهيرة في أغسطس 1969 أعد ممتاز نصار ويحيى الرفاعي وزملاؤهم في نادي القضاة ما عرف ببيان 28 مارس 1968، والذي لم يرفض القضاة فيه فحسب الانضمام إلى الحزب الاشتراكي (الحزب الواحد) بحجة تأثيره على نزاهتهم وحيادهم، و لكنهم انتقدوا في البيان أيضا غياب الديمقراطية واستقلال القضاء في عصر عبد الناصر، وقالوا إن غياب الديمقراطية كان سبباً أساسياً لهزيمة 1967. انتهت المذبحة بحل مجلس إدارة النادي، لكن مع عودة المجلس المنتخب عام 1975، استمر الشد والجذب بين النظام والنادي (حدث ذلك أيام السادات وحدث أيام مبارك). وعاد النادي للحديث عن استقلال القضاء. وبالطبع، كان هناك بعض القيادات التي خضعت لتأثير الحكومة، وحاولت جعل النادي نادياً للخدمات الاجتماعية فقط. غير أن النادي كان دائماً المكان الأكثر ديمقراطية للقضاة للتعبير عن وجهة نظرهم، وهو المكان الذي تختفي فيه علاقات الهيراركية الموجودة في المحاكم، كما أنه يمثل 90 % من قضاة مصر. وباختصار فإن قيادات النادي وحركة استقلال القضاة يعرفون تاريخ كذب الأنظمة جيداً، وهم يصدقون ويؤمنون جيداً بأن استقلالهم معناه كرامتهم ومصداقيتهم وشرعية وجودهم ذاتها أيضاً. وبقراءة البيانات التي يصدرها النادي اليوم سنجدها قريبة الشبه ببيان 28 مارس ( وضع قضية استقلال القضاء في قلب مشاكل العدالة والمحاكم، ووضعها في سياقها الأعم الخاص بالديمقراطية وسيادة القانون).
القضاة الشرفاء وانقسام الجماعة القضائية
قال مبارك وابنه ورئيس وزرائهما أكثر من مرة إن المشكلة بين القضاة هي مشكلة داخلية بين نادي القضاة والمجلس الأعلى للقضاء. و برغم إن هذا القول لم يكن سوى أحد الأساليب الرخيصة التى استخدمتها الدولة أثناء معركة القضاة، إلا أن له دلالات هامة. وكلنا نعرف أن موقف مجلس القضاء الأعلى كان هو موقف الحكومة. فالمجلس طلب من القضاة الإشراف على الانتخابات بلا ضمانات، واصدر عديد من البيانات التي تتهم القضاة بأنهم قلة معارضة، واتهمهم ب”اختلاق” إعداد الجمعيات العمومية للنادي. والمجلس الأعلى هو الذي تصيد تصريحات القضاة في الصحف ليشن حملة ” مكارثية” على القضاة الشرفاء لمسائلتهم تأديبياً. وباختصار فالخلاف هو بين عدد كبير من القضاة ( الذين يمثلهم نادي القضاة) والنظام.
وفى هذا السياق، طرحت قضية مد خدمة القيادات القضائية من 68 عاماً إلى 72 ( أو 70) عام. وقيل إن غالبية أعضاء مجلس القضاء الأعلى هم من الذين سيحالون إلى التقاعد في يونيو هذا العام، وإن سبب تشدد مواقفهم ضد غالبية القضاة و موالاتهم الحكومة هو رغبتهم في البقاء في مناصبهم. لكن هذا الخلاف بين المجلس الأعلى ونادي القضاة وقصة مد الخدمة لا يخلوان من دلالات. وقضية مد الخدمة هنا مثلاً يمكن فهمها في سياق اعتماد نظام مبارك عليها في العديد من مؤسسات الصحافة الحكومية. لكن القضية هنا ليست فقط في القيادات القضائية ومد السن، ولكن ماذا عن هؤلاء القضاة الذين تورطوا فعلاً في التزوير ولا يريد مجلس القضاء الأعلى أن يحاسبهم.
والخلاف هنا، بين القيادات القضائية والقضاة “المزورين” من جهة، والقضاة الشرفاء من جهة أخرى، أعمق من أن يكون خلافاًَ بين من رفض رشوة الحكومة ومن يرفض التزوير ويرفض هذه الرشوة ( قال بعض القضاة نحن لسنا شهود زور، وبعضهم أعاد الأموال لوزارة العدل أو لنادي القضاة وقالوا لن نقبل أي أموال (رشوة) طالما لم نشرف على الانتخابات، الحكومة هنا تريد سكوتنا). الوضع المتناقض للقضاة، والأساليب القذرة التي تستخدمها الدولة مع القضاة ( الترغيب والترهيب) تقسم الجماعة القضائية فعلاً. وبالرغم أن الجميع شكلياً يبدو أنهم من الطبقة الحاكمة ومن أصحاب الامتيازات، لكنهم ينقسمون حسب إيمانهم بالحياد وكرامة القاضي، مما يخلق حالة من الاستقطاب الطبقي في وسط الجماعة القضائية ذاتها. صحيح أن مرتب القاض ووكيل النيابة يبدو معقولاً بالمقارنة بالموظفين الحكوميين، لكن هذا المرتب يتكون من مرتب أساسي وغالبية المرتب تعتمد على الحوافز والأرباح. وبالطبع تتحكم الدولة في هذا عن طريق وزارة العدل والتفتيش القضائي. وتقل ضغوط الوزارة على القضاة في محاكم النقض والاستئناف، حيث لا يخضعون للتفتيش القضائي. لكن من جهة أخرى، تريد الدولة أن تكبح ضمائر الشرفاء من القضاة إذا وصلوا لهذه الدرجات عن طريق رؤساء المحاكم، و كان هذا هو سبب إصرار الدولة على مد السن والتمسك بتعيين مجلس القضاء الأعلى.
فالانقسام هنا بين شريحة أقرب طبقياَ ، أو تحاول الاقتراب أكثر، للنظام ( مالياً وفى المواقع القضائية وفي مكافآتها بعد خروج أعضائها من القضاء بتعيينهم في مجالس الشعب والشورى وتعيينهم كمحافظين، وليس مصادفة أن بعض المتهمين بالتزوير عملوا مستشارين للحزب الوطني صراحة وليس حتى للحكومة)، وشريحة أخرى تقع على هامش الطبقة الحاكمة، إن لم تكن قد اقتربت تماماً من الطبقة المتوسطة ( هناك بعض القضاة يضطرون للتدريس في كليات الحقوق بسبب عدم كفاية مرتباتهم). القضاء الشرفاء يقبلون التضحية بالأموال التي تأتى من النظام (حرمانهم من الكثير من الحوافر والبدلات والإعارات) وتضحيات في المركز (يتم عرقلة ترقياتهم وحرمانهم من أي مناصب قيادية في المحاكم ).
وبالطبع يمكننا التأكيد على أن تحول نظام مبارك إلى البوليسية معناه أن اعتماده على رجال البوليس والمباحث يكون أهم من اعتماده على القضاة لضبط المجتمع (ربما أصبح المجتمع من وجهة نظر مبارك ورجال أعماله ورجال مباحثه لا يضبط بالقانون ـ حتى ولو كان القانون الظالم الذي وضعته الطبقة الحاكمة ـ أكثر مما يضبط بالعصا والإرهاب المباحثي). وبالتالي فرجال مباحث أمن الدولة والقضاة “الحكوميون” مثلاً ربما أصبحوا أقرب طبقياً لمبارك ولرجال الأعمال الذين يحكمون مصر من عدد كبير من القضاة الشرفاء. وكلما تأرجح نظام مبارك بين الديكتاتورية الدستورية والديكتاتورية الفاشية، بالمعنى السابق، كلما زاد أو قل اعتماده على القضاة والقانون. ويستخدم تعبير الفاشية هنا تجاوزاً وللتعبير فقط عن ما تعلق منها بالديكتاتورية المتوحشة، فهناك أبعاد أخرى تاريخية ارتبطت بهذا المصطلح مثل بعدها الشوفينى القومي وتعبئة الجماهير، وهذا لا يحدث في الحالة المصرية.
كيف تعاملت قوى المعارضة واليسار مع هذه المعركة؟ وهل سيكون القضاة بديلاً عن الجماهير في معركة التغيير؟
في مقالتهم التي نشرت في جريدة الجارديان البريطانية بتاريخ 10 مايو 2006، وعشية الجلسة الثانية لمحاكمتهم التأديبية، قال كل من المستشارين هشام البسطاويسي ومحمود مكي بوضوح إن الديمقراطية في مصر لن تأتى عن طريق الضغوط من الدول الغربية التي تتحكم مصالحها في اختياراتها، ولكنها سوف تأتى عن طريق الشارع المصري. لقد عبر العديد من رموز حركة استقلال القضاء عن رأيهم الصريح في معركة القضاة لن تنتصر إلا بمظاهرات جماهيرية حاشدة تؤيد مطالب القضاة بينما ربما لا يكون هذا هو الرأي الغالب بين القضاة. والمفارقة هي أنه بينما كان رأى بعض القضاة يؤكد على إن الجماهير هي التي ستقود معركة التغيير، رأينا بعض اليساريين والمثقفين يكتبون قائلين: أعذرونا أيها القضاة فليس أمامنا سوى الرهان عليكم.
وبالطبع فإن حدود معركة القضاة كانت دائماً الإرتباط بمعركة الديمقراطية، ولم تتعداها أبداً إلى المعركة الاجتماعية. كما أن الديمقراطية التي تتحقق عن طريق ضغوط ومطالب جزء من الطبقة الحاكمة معناها الحفاظ على هذه الدولة، بينما الديمقراطية التي تتحقق عن ثورة جماهيرية شعبية، هي وحدها التي تحقق كلا من الديمقراطية الاجتماعية والسياسية. لكن بسبب أن قلب المعارضة الآن هو معركة الديمقراطية، ولأن معركة القضاة أصبحت في المركز، فقد وجد كثيرون في القضاة أبطالاً لمعركة التغيير، وتناسوا إن التغيير الحقيقي لن يأتي إلا عن طريق الجماهير. وهذا الكلام أكده كثير من القضاة في وقت لاحق بعد صدور القانون.
وهناك وقائع أخرى تذكرنا بأن القضاة لم يرغبوا في التصعيد ضد النظام، حتى زادت وقاحته وبدأ بالهجوم على “الشرفاء” منهم. فقد قبلوا بالإشراف على الانتخابات بدون ضمانات ( كبادرة حسن نية ضد النظام) في الوقت الذي حاولت الحكومة والقيادات القضائية ابتزازهم بقولهما أنهم يخالفون القانون ويضعون شروطاً للإشراف على الانتخابات. ثانياً: لم يسد القضاة باب التفاوض مع النظام، لكن النظام بغباء هو الذي سده. و كان النادي دائماً أكثر تشدداً بسبب حضور القضاة القوي في الجمعيات العمومية التي كلفت رئيس النادي بعدم التخلي عن مشروع القانون الذي أعد في جلسات التفاوض. ثالثاً: وافق النادي على عدم مقابلة منظمة مراقبة حقوق الإنسان ( الهيومان رايتس ووتش) وذلك بعد حملة الأكاذيب والتخوين التي أطلقتها القيادات القضائية (ما سمي بمجلس رؤساء محاكم الاستئناف) وأبواق الصحافة الحكومية.
وأخيراً: فان هناك نقاطاً أساسية أخرى ربما علينا أن نثيرها مرة أخرى هنا. أولاً: أن ما حرك نظام مبارك في معركته مع القضاة هو تناقضاته ومصالحه الأنانية. فمن جهة يعرف النظام أنه مكروه ويريد تحسين صورته تحت تأثير الضغوط ويريد عمل إصلاحات ولو تافهة لامتصاص الغضب. لكنه، من جهة ثانية، يعرف أن البدء في إصلاحات ديمقراطية شبه حقيقية، معناه الإطاحة به. فإشراف القضاة على الانتخابات معناه ببساطة خسارة الحزب الوطني الانتخابات. ثانياً: فإن إنقسام القضاة ذاته يشير إلى تناقض وضعية القضاة ذاتها، كما سبقت الإشارة. يدرك كثيرون من القضاة أن الثورة الشعبية خطر على النظام الحاكم. وكثيرون آخرون من النخبة والقضاة السابقين، ممن صوروا أنفسهم بالعقلاء الناصحين نظام مبارك، طالبوا بالاستماع لمطالب القضاة لإنقاذ الدولة وللحيلولة دون الانفجار والفوضى.
وبالطبع فإن وضعية القضاة في معركة استقلالهم، كما أكد العديد من القضاة أنفسهم، تؤكد أنهم لن يكونوا بديلاً عن الجماهير، لكن المشكلة هي أن بعض النشطاء أخطأوا في اعتقادهم بأن القضاة سوف يكونوا بديلاً عن جموع المصريين في معركة الديمقراطية. وليس هذا هو الخطأ الوحيد. فقد ترتب على خطئهم الأول الاستنتاج بأنه يكفي انتظار ما يفعله القضاة، مما أدى إلى عدم الاهتمام بجمهرة معركة استقلال القضاء منذ البداية. وبالطبع هناك المشكلة التاريخية في تقديم معركة الديمقراطية للجماهير الفقيرة في حين أنهم أسرى لمعركة الخبز اليومي. نتذكر أن من بدأ تنظيم الإعتصام التضامني الأول مع القضاة، عشية يوم 16 مارس وحتى صباح 17 مارس، كان عدد قليل من النشطاء الشباب ( عضو أو اثنين من شباب من أجل التغيير وكفاية وآخرين كثيرين من الشباب المدونين على الانترنت، وهم من الإبطال الجدد لمعركة الديمقراطية). مجموعة ال 15 شخص الذين نظموا الاعتصام أسموا أنفسهم مجموعة 30 فبراير كاسم تهكمي، وقد قالوا بوضوح إننا اخترنا هذا الاسم لغياب الحركات والمجموعات الأخرى في تنظيم هذا الإعتصام الأول. وبينما كانت عشرات من الكيانات والجماعات تدعو إلى التظاهر والتضامن مع معركة القضاة، لم يكن أغلب هذه الكيانات موجودة في هذه التظاهرات. صحيح أن بعض نشطاء اليسار وحركة كفاية والإخوان المسلمين التحقوا بالحركة ودفعوا ثمنا من حريتهم، لكن المئات لم يلتحقوا بالمعركة.
القانون المسخ
كعادته طنطن نظام مبارك بأهمية التعديلات التي أقرها على قانون السلطة القضائية. وإذا نظرنا لهذا التعديل، سنجد أنه قانون سيء لم يحسن أي شيء من الأوضاع. والتعديلات البسيطة التي أضيفت هي تعديلات تافهة للأوضاع القديمة. وأهم إضافتين للقانون كانتا إعطاء بعض الصلاحيات لمجلس القضاء الأعلى. وبالطبع، ليس لإضافة بعض الصلاحيات أي معنى طالما بقى هذا المجلس بأغلبية معينة. ناهيك عن أن هذه الإضافات هي أصلاً عديمة الأهمية: منها مثلاً ضرورة موافقة مجلس القضاء الأعلى على أسماء القضاة الذين سيعملون في إدارة التفتيش القضائي. نقول ليس لذلك أي أهمية طالما يخضع التفتيش القضائي لوزارة العدل. ورددت الحكومة تبريراً “وقحاً” بقولها لا تهم التبعية هنا طالما إن هناك ضمانات وحصانات للقضاة الذين يعملون بالتفتيش. أي أن الحكومة تقول: ” مش مهم، المسألة مسألة ضمير.” والحكومة تموه على أن مصير ومرتبات وكل معيشة هؤلاء القضاة الذين يعملون بالتفتيش مرتبطة بقرار وزارة العدل ( أي الحكومة). ويعتبر القضاة الذين يعملون بالتفتيش تقريباً “مباحث القضاة في مصر”، ويخضع الآلاف من القضاة الشباب للتفتيش ( ما دون لقب مستشار وهم أغلبية القضاة كما سبقت الإشارة). أما الإضافة الثانية للقانون فكانت إلغاء تبعية النائب العام والنيابة العامة لوزارة العدل. لكن القانون أبقى على أن يكون تعيين النائب العام بيد رئيس الجمهورية بدون موافقة أي جهة قضائية في مصر.
ومجرد نظرة للتعيينات القضائية الأخيرة، تؤكد نية الحكومة ونظام مبارك بالنسبة للقضاء. فقد تم تعيين النائب العام رئيساَ للمحكمة الدستورية العليا (وهو المنصب الذي يمكنه من الإشراف على أي انتخابات رئاسية قادمة). واختار مبارك بقرار منفرد رئيس محكمة النقض ليصبح رئيس مجلس القضاء الأعلى بحكم منصبه هذا، وهو المستشار مقبل شاكر رئيس النادي سابقاً ( ورئيس نادي السيارات حالياً!!). والذي عبر بوضوح عن حدود القانون، وقال إن:” القضاء كان مستقلاً في كل وقت في مصر، قبل القانون وبعده.” كما إختار مبارك بقراره المنفرد النائب العام الجديد، وقد عمل الأخير رئيساً لنيابة أمن الدولة سابقاً.
هل انتهت المعركة؟
وهنا يواجهنا سؤالان مرتبطان: الأول هو هل انتهت معركة القضاة بمعناها الضيق؟ والثاني هل حقاً نجح النظام في إعادتنا إلى ما قبل 2005؟
للاجابة على السؤال الأول، ربما يبدو من الناحية الشكلية أن معركة القضاة قد انتهت. فقد صدر القانون الحكومي المسخ، وانتهت محاكمة المستشارين هشام البسطاويسي ومحمود مكي، كما اعتقلت الدولة البوليسية الكثير من المناضلين. وإذا كان لب المعركة هو إصدار القانون، فإنه قد يبدو أنه قد تم امتصاص الغضب والمعركة شكلياً بعد إصدار القانون. لكن هذا غير صحيح بطريقة مطلقة.
فبالقانون الجديد تستمر تبعية التفتيش القضائي لوزارة العدل وهو ما يعني إستمرار المرارة التي يعانى منها آلاف من القضاة الشباب تجاه الحكومة. كما أن استمرار الأغلبية المعينة لمجلس القضاء الأعلى معناها إصرار الحكومة على معاداة رأي أغلبية القضاة. وإذا تذكرنا حالة البوليسية الماكارثية التي بدأت بعض القيادات القضائية في ممارستها ضد ممارسة القضاة حقهم في التعبير (منع النائب العام السابق لأعضاء النيابة من المشاركة في فعاليات النادي ووقفاته الاحتجاجية، والمحاسبة التأديبية لشيوخ محكمة النقض فقط بسبب تصريحات مجتزأة قالوها في الصحف). كل هذا معناه بوادر انتقال الدولة البوليسية إلى داخل الجهاز القضائي. وهذا لا يمكن أن يدوم، بالرغم من نجاح الحكومة شكلياً في فرض وجهة نظرها. ولا يمكن أن يُطلب من القضاة الذين يحكمون بين الناس (حتى ولو قبل بعضهم الحكم بقوانين ظالمة وضعتها دولة رجال أعمال مبارك) أن تتم محاكمتهم هم أو أن يقبلون بخضوعهم هم لديكتاتورية مبارك “الفاشية”. هذه نواة جديدة للانفجار، حتى ولو أصبحت كامنة لوقت طويل. صحيح لن يكون هذا نواة ثورة شعبية، لكنه يمكن أن يكون أحد أنوية الانفجار داخل الطبقة الحاكمة لنظام الديكتاتور. ونتذكر أن من أجبر الحكومة على الحاجة للمشروع هو حركة القضاة ثم حركة الشارع. المعركة انطفأت فقط ويمكنها أن تنفجر مرة أخرى. ويزيد من اعتقادنا هذا، إعلان النادي عن إعداد مشروع قانون جديد، كما أن الشد والجذب لن يختفي بين نادي القضاة والمجلس الأعلى بوجود المستشار مقبل شاكر في رئاسة المجلس، وهو الذي خسر مرتين في انتخابات رئاسة النادي أمام المستشار زكريا عبد العزيز، ناهيك عن تبنيه وجهة نظر تميل إلى الحكومة في شأن إستقلال القضاء.
وللإجابة على السؤال الثاني، ربما يرى البعض إن الموقف الحالي لمعركة القضاة في إطار السياق العام لمعركة الديمقراطية والتوريث مع نظام مبارك معناه ” العودة لمربع رقم واحد” ويقصدون بذلك العودة إلى عام 2004، تلك اللحظة التي تحدث فيها الديكتاتور بصلافة، وقال إن من يريدون تغيير الدستور هم مجموعة من المخربين. وهذا الاستنتاج غير صحيح على وجه الإطلاق. وعلى سبيل المثال، علينا أن نتذكر أن بداية معركة الديمقراطية في عام 2005، قد بنيت على حركة المعارضة ضد الحرب والتضامن مع الإنتفاضة منذ عام 2000. نتذكر كيف شعر كثيرون بالإحباط بعد الحرب. وربما تشبه هذه اللحظة كثيراً لحظة الإحباط أو الأسى التي شعر بها كثيرين بعد نهاية معركة مظاهرات ضد الحرب في العالم، مع الانتصار الشكلي للامبريالية. وكما يخطئ زبانية مبارك ومنظرو دولته البوليسية، يخطئ المناضلون إذا اعتقدوا إننا نعود إلى 2004. أو أننا أمام حالة تجميد الأوضاع على ما هي عليه لمصلحة الديكتاتور أو لتمرير التوريث. فلنتذكر أن الذي حدث بعد عام 2003 (الحرب) هو أن حركة المعارضة الجديدة والشابة في مصر، بما فيها اليسارية، بدأت في لملمة أوراقها لبدء معركة الديمقراطية. لقد ولدت كفاية والحملة الشعبية وشباب من أجل التغيير في معركة الديمقراطية. ولسنا في حاجة لترديد شهادات الكثيرين الذين تغيرت حياتهم في لحظة الخروج إلى الشارع . وهذا الخروج خبرة لا يمكن أن ُتمحى، حتى ولو شعر البعض بالإحباط. وإذا قرأنا شهادات الكثيرين من الشباب ( بعض الأبطال الجدد لمعركة الديمقراطية من شباب المدونين مثلاً) فإن كثيراً من هؤلاء بدأت حياتهم السياسية فقط بالاستفتاء الفضيحة.
كما أننا لا يمكن أن نمحي ما خلفته معركة القضاة في الشارع. فحتى ولو لم تتحول معركة القضاة إلى معركة جماهيرية، فقد خلقت صدى كبير داخل قطاعات شعبية كثيرة. وليس فقط بين كل هؤلاء الذين اكتشفوا أن الدولة تحاكم القضاء وحولت وسط المدينة إلى ثكنات عسكرية، لكن كل هؤلاء الذين شاهدوها على الفضائيات وتحدثوا عنها في المقاهي ووسائل المواصلات. وعلى حد تعبير البعض، فإن الفقراء في مصر، الذين يحلمون بإقامة العدل فيها، أخذوا بالقضاة الذين قالوا كلمة حق في وجه حكم ظالم. كانت معركة القضاة في أعين ناس كثيرين رمزاً لظلم نظام مبارك. ولا يمكن أن ننسى قول هذه السيدة الفقيرة يوم 27 ابريل أمام دار القضاء العالي: “بيحاكموا القضاة.. طيب ومين هايحاكمهم همّا.”