بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

الإسلام المسلح.. أزمة الرأسمالية والمد الرجعي

كتب ماركس في مقدمة “الثامن عشر من برمير لويس بونابرت” يقول:

“إن الناس يصنعون تاريخهم بأنفسهم سولكنهم لا يصنعونه على هواهم، فهم لا يصنعونه في ظروف يختارونها بأنفسهم، بل في ظروف يواجهون بها وهي معطاة ومنقولة لهم من الماضي، إن تقاليد جميع الأجيال الغابرة تجثم كالكابوس على أدمغة الأحياء وفي اللحظات التي يكونون فيها مشغولين في تحويل أنفسهم والأشياء المحيطة بهم، إلى خلق شيء لم يكن له وجود من قبل، عند ذلك بالضبط، في فترات الأزمات الثورية على وجه التحديد، نراهم يلجئون في وجل وسحر إلى استحضار أرواح الماضي لتخدم مقاصدهم، يستعبرون منها الأسماء والشعارات القتالية والأزياء لكي يمثلوا مسرحية جديدة على مسرح التاريخ العالمي، في هذا الرداء التنكري الذي اكتسى بجلال القدم، وفي هذه اللغة المستعارة”.

يبدو أننا في حاجة لبذل مجهود كبير حتى نكتشف أن أحداث السنوات الأخيرة في مصر، والتي شهدت صعودًا حادًا للحركة الإسلامية، تقدم لنا تأكيدًا قويًا على صحة الرأي السابق والذي كتبه ماركس، منذ ما يقرب من مائة وخمسون عامًا.

يكفي أن ننظر لتلك الجماعات الواسعة من البشر، هؤلاء الرجال ذوي اللحي الطويلة والجلاليب البيضاء، والنساء المختمرات بالسواد، يتحركون في مدينة مثل القاهرة في نهاية القرن العشرين وهم يرفعون شعارات تتحدث عن الجهاد في سبيل الله، وإقامة حكمه، وتطبيق شرعه، وفرض الجزية، وتحجيب النساء، هذا القدر الهائل من استعارة الماضي في الأزياء والشعارات، ولغة الخطاب، والسلوك الفردي الخاص تجاه كافة المواقف في الحياة.

ومن المؤكد أن الأشخاص الذين كانوا في سن البلوغ في مطلع السبعينات وحتى منتصفها، ويتذكرون بوعي واقع الحياة في مصر في ذلك الوقت، ليس لديهم شلك في أن الأرض قد انشقت وأخرجت للسطح عالم قديم لم يكن له وجود خارج مجلدات التاريخ، ليصبح فجأة حيًا، وفاعلاً، وذا تاريخ تأثير حقيقي على بحريات الأمور.

لكننا سوف نرتكب خطأ فادحًا، إذا حالنا أن نفهم الحركة الإسلامية، وأن نبني مواقفنا تجاهها، انطلاقا من شعاراتها أو خطابها الأيديولوجي أو حتى ممارستها السياسية، فحقيقة الأمر أن الأرض لم تنشق فجأة عن هذا العالم القديم، لكن تطورًا تاريخيًا بعينه لمجموعة من الشروط الاجتماعية والاقتصادية هو الذي أنتج تلك الحركة،/ ونحن كماركسيين ثوريين علينا أن نحدد طبيعتها، وآليات تطورها، وموقفنا السياسي منها، انطلاقا من مواقعها الطبقية وعلاقتها بعملية الإنتاج، وفي إطار فهم مادي وتاريخي لتطور الصراع الطبقي في مصر.

إن قدرًا واسعًا من الالتباس أنتجته الرؤية اللا تاريخية لتلك الحركة، والتي أهملت موقعها من الصراع الطبقي، وعلاقتها بالثورة الدائمة، وتسبب ذلك في تفاوت هائل في وجهات نظر العديد من المثقفين الماركسيين وفصائل اليسار المصري حول طبيعة الحركة السياسية، والتكتيك الصحيح الواجب اتخاذه بخصوصها، ساعد في ذلك أيضًا تطور الممارسة السياسية للحركة في عدة اتجاهات رئيسية، حيث امتلكت قدرة هائلة على حشد قطاعات واسعة من الجماهير الفقيرة وتنظيمها داخل صفوفها، في ذات الوقت الذي ظهر فيه بوضوح عدائها للديمقراطية، والطابع القمعي العنصري في مشروعها السياسي، وأخيرًا الانفجار الدامي المتزايد بمعدلات هائلة للصراع المسلح بينها وبين الدولة.

وفي إطار التحليلات التي قدمها مثقفو اليسار حول الحركة الإسلامية والتكتيكات المقترحة للتعامل معها، يمكن أن نرصد ثلاث وجهات نظر رئيسية:

أولاً: وجهة نظر بعض فضائل اليسار الإصلاحي المتمثل في حزب التجمع، والذي تبني موقفًا واضحًا بضرورة دعم النظام من كونها حركة فاشية لابد من الوقوف ضدها وتصفيتها.

ثانيًا: وجهة نظر بفض فضائل اليسار، وقطاع من المثقفين الماركسيين، والذين رأوا أن الحركة الإسلامية هي حركة تحرر وطني “ثورية”، فاقدة للتوجه بشكل أو بآخر، وبالتالي على اليسار أن يقوم بدعمها في مواجهة النظام وأن يسعى للتنسيق معها في مواقع حركية مختلفة.

ثالثًا: وجهة نظر فصائل اليسار الراديكالي، اتفقت مع وجهة النظر الأولى على أن الحركة الإسلامية حركة فاشية، ولكنها رأت أن الحركة والنظام عدوان رئيسيان بنفس الدرجة، وأنه يجب مواجهتهما معًا، ورأت أيضًا إمكانية الاستخدام المرن لتكتيك “الجبهة المتحدة”، أي السير على حدة والضرب في اتجاه واحد، تارة مع النظام، وتارة مع الحركة الإسلامية، حسب ما يستدعيه الموقف.

ونحن نختلف تمامًا مع وجهات النظر السابقة جميعها، ونرى أن فهم الحركة الإسلامية على أنها حركة فاشية، أو حركة تحرر وطني “ثورية” خطأ بالغ ناتج عن التحليل السطحي للصراع السياسي القائم، وأن كل التكتيكات المقترحة تعبر عن هذا التحليل السطحي، وسوف تؤدي بالضرورة على تذيل اليسار للنظام أو الحركة الإسلامية، وبالتالي لإضعاف متزايد لحركته وسط جماهيره المستهدفة.

فمن وجهة نضرنا، أن التحليل التاريخي والطبقي للحركة الإسلامية هو الطريق الصحيح الوحيد لتحديد طبيعتها وفهم ممارستها السياسية وخطابها الإيديولوجي، وسوف نشرح في هذا المقال موقفنا المستقل تجاهها، ورأينا النقدي في وجهات النظر السابقة، على أن نستكمل في أعداد مقبلة تحيلنا للحركة الإسلامية في إطار علاقتها بمجمل قضايا الصراع الطبقي في مصر.

علينا أولاً أن نفرق بين الإسلام كعقيدة دينية، والإسلام كمشروع سياسي، فالإسلام، مثله مثل كافة العقائد، نسبي وتاريخي وغير مطلق، أي ظهر ليعبر عن ومصالح اجتماعية وتطور تاريخي لجماعات بشرية ما، ومثل كافة العقائد، تطور وتعدد وانقسم تبعًا لتطور وتعدد وانقسام تلك الجماعات البشرية.

ونحن لا يمكن أن نتحدث عن مشروع سياسي إسلامي واحد، لأننا لو فعلنا ذلك، لأغفلنا المصالح الاجتماعية المتناقضة، والتي تؤدي تعدد وانقسام الحركات السياسية المعبرة عن هذا المشروع. إن محددان رئيسيان يحكمان فهمنا لطبيعة أي حركة سياسية! الأساس الاجتماعي للحركة، والظرف التاريخي للصراع الطبقي الفاعل في ظهورها.

وهذا يعني أنه لا يمكن الحديث عن حركة إسلامية واحدة على مستوى العالم، فمن الخطأ أن ندمج، مثلاً، في حركة سياسية واحدة، الحركات الإسلامية في لبنان وفلسطين، والتي تخوض نضالات مسلحة ضد جيوش استعمارية الصلة بالإمبريالية العالمية، مع الحركات الإسلامية في السودان وباكستان اللتان تهيمن عليهما قطاعات من البرجوازية المحلية وتلعبان دورًا مباشرًا لصلاح الإمبريالية في قمع وتصفية الأقليات القومية الثائرة داخل مناطق نفوذهما، مع الحركة الإسلامية السوداء في بريطانيا والولايات المتحدة والتي تخوض نضالات ضد الاضطهاد القومي العنصري في تلكما البلدين.

ولا يمكن الحديث كذلك عن حركة إسلامية واحدة في مصر، فالإخوان المسلمون وهي حركة برجوازية صغيرة، تأتي الغالبية العظمى من كوادرها من قطاعات برجوازية صغيرة حديثة وتهيمن عليها قطاعات من البرجوازية، تلعب أدوارًا إصلاحية داخل النظام السياسي القائم، بمساومة الدولة من جهة، وخداع الجماهير من جهة أخرى، لا يمكن أن ندمجها في حركة سياسية واحدة مع الحركة الإسلامية الجهادية المسلحة، والتي تعنينا في هذا المقال، وهي حركة برجوازية صغيرة صرف، تأتي الغالبية العظمى من كوادرها من قطاعات البرجوازية الصغيرة التقليدية رمن البروليتاريا الرثة، وتطرح مشروع سياسي رجعي، معادي للبرجوازية وللجماهير في آن واحد.

وعندما نتحدث عن الظرف التاريخي للصراع الطبقي في مصر، سنجد أن العامل الرئيسي الفاعل في هذا الصراع هو الدور السياسي والاقتصادي الذي لعبته الإمبريالية على مدار تاريخ مصر الحديث كله. فالرأسمالية ظهرت في البلدان الرأسمالية الأولى نتيجة لتطور عناصرها الداخلية، ومع نمو التراكم الرأسمالي في تلك البلدان، احتاجت لفتح أسواق جديدة عن طريق التوسع الإمبريالي، فدخلت الرأسمالية إلى البلدان الرأسمالية المتأخرة مثل مصر عن طريق توسع السوق الرأسمالي ذاته، ونشأت بها مراكز متقدمة محدودة للتراكم الصناعي، داخل ريف واسع متخلف وبدائي، لقد تم رسملة عملية الإنتاج بالكامل، بما فيها عملية الإنتاج في الريف، نتيجة لدخول الرأسمالية، وأصبح الإنتاج لكل موظفًا بهدف التبادل في السوق، ولكن ظلت عملية الإنتاج في الريف متخلفة وبدائية، بسبب تخلف أشكال الإنتاج القائمة هناك من جهة، وبسبب تركز الرساميل في الإنتاج الصناعي من جهة أخرى، وبالتالي اقتصر النمو والتطور الرأسماليين على المدن الصناعية.

أدى هذا التطور المركب اللا متكافئ لاقتصاديات البلدان الرأسمالية المتأخرة، إلى ظهور برجوازية ضعيفة سياسيًا بالنسبة للإمبريالية، ومرتبطة بها منذ لحظة نشوءها، وذلك بسبب ارتباط الإنتاج الصناعي في تلك البلدان بالتمويل الإمبريالي، وتشكلت طبقة عاملة متقدمة كأقلية من السكان الذين كانوا في معظمهم فلاحين فقراء، وبرجوازيين صغار، وبروليتاريا رثة.

إن التراكم الرأسمالي في تلك البلدان يصبح غير قادرة على تطوير المناطق الأكثر تخلفًا داخل عملية الإنتاج بينما تلك المناطق جزءًا رئيسيًا من تلك العملية، إن هذا الوضع يخلق أثرًا حادًا على القطاعات الاجتماعية المرتبطة بأشكال وأدوات إنتاج متخلفة، فعلى الرغم من أنه تظل جزءًا فاعلاً داخل عملية الإنتاج إلا أن قدرتها تضعف بجدة في مواجهة النمو الصناعي.

ويخلق النمو الصناعي داخل المدن قطاعات من البرجوازية الصغيرة الحديثة (مثنيين مستغلين، تكنوقراط داخل المؤسسات الرأسمالية، بيروقراطية عمالية، بيروقبراطية أجهزة الدولة ومؤسسات القمع) وترتبط مصالح هذه القطاعات بمصالح البرجوازية طالما ظلت الأخيرة مستقرة ومسيطرة، وغالبًا ما سوف تعبر المشاريع السياسية لهذه القطاعات عن المشاريع السياسية للبرجوازية أو لقطاعات منها، ففي ظل الإنتاج للرأسمالي توجد طبقتان اجتماعيتان وحيدتان يمكن أن يكون لهما مشروع سياسي مستقل نتيجة لعلاقتهما بعملية الإنتاج. والبروليتاريا، أي الأقلية المنتجة، ودائمًا ما ستكون البرجوازية قادرة على استيعاب كافة الفئات الاجتماعية – بما فيها الطبقة العاملة – داخل مشروعها السياسي، والذي سيحدده درجة تطورها، ودرجة تحكمها في سوقها القومي، ونوع الصراع الذي تخوضه. وفي لحظات المد الثوري، عند صعود حركة عمالية مستقلة وقوية، وعندما تطرح الطبقة العاملة مشروعها الثوري المستقل في مواجهة البرجوازية، ستكون قادرة على كسب كل الفئات الاجتماعية المضطهدة إلى صفوفها.

أما البرجوازية الصغيرة، كطبقة تلعب أدوارًا وسيطة داخل عملية الإنتاج، فلن يكون لها أبدًا مشروعها السياسي المستقل، حيث تعبر عن مشروع البرجوازية ، طالما كانت البرجوازية مهيمنة ومسيطرة ومنتصرة وسوف تتحرك لتتبنى مشروع البروليتاريا الثوري في لحظة الثورة العمالية، عندما تكون البروليتاريا قادرة على فرض سلطتها.

لكن عدم وجود مشروع سياسي مستقل للبرجوازية الصغيرة ليس حقيقة مطلقة، فالقطاع الأوسع من البرجوازية الصغيرة في البلدان الرأسمالية المتأخرة، هو من البرجوازية الصغيرة التقليدية (صغار التجار، الحرفيين، صغرا الملاك في الريف)، ولا تستطيع الرأسمالية في تلك البلدان أن تدمج هذه القطاعات الاجتماعية داخل الإنتاج الصناعي المتقدم، لضعف التراكم الرأسمالي نتيجة التطور المركب اللا متكافئ، ففي يؤدي لإضعاف متزايد لتلك القطاعات في مواجهة النمو الصناعي. في ذات الوقت، وبسبب ضعف النمو الرأسمالي في الريف، تضطر جماهير غفيرة من الفلاحين الفقراء على الهجرة باتجاه المدن، والتي تعجز أسواقها عن استيعاب كل تلك الطاقات المهاجرة، ويؤدي ذلك لظهور تشكيلة اجتماعية واسعة داخلها – المدن – من البروليتاريا الرثة، المهمشة اجتماعيًا والتي تصنع أحزمة من الفقر حول المدن الصناعية، وتقع خارج عملية الإنتاج.

إن التوسع الإمبريالي، الذي يؤدي لدخول الرأسمالي للبلدان الرأسمالية المتأخرة، ويعمل على إدماجها بالسوق الرأسمالي العالمي، يتسبب في هجوم شرس على قطاعات البرجوازية الصغيرة التقليدية في تلك البلدان، ويهمش، داخل عملية الإنتاج الرأسمالي بها، قطاع واسع من البروليتاريا الرثة، وينعكس هذا الوضع على تلك القطاعات الاجتماعية في شكل عداء لعملية الإنتاج الرأسمالي ذاتها، وبالتالي عداء للإمبريالية، وللبرجوازية المحلية إلى تهيمن على تلك العملية. وفي حالات ضعف الطبقة العاملة وعدم قدرتها على استيعاب البرجوازية الصغيرة والبروليتاريا الرثة في مشروعها الثوري، يصبح لتلك القطاعات مشروعها السياسي المستقل عن البرجوازية وعن الطبقة العاملة، ولكنه سوف يبقى مستقلاًَ طالما يقي غير متحقق، وفي اللحظة التي سينتقل في إلي حيز التحقيق أي إلى السيطرة على عملية الإنتاج، فسوف يعبر بالضرورة عن مصالح البرجوازية، الفئة المسيطرة بالفعل على الإنتاج الرأسمالي.

إن سيرورة تركيز الرأسمال وتمركزه، تؤدي إلى أن يزداد الفقراء فقرًا والأغنياء غنى، ويزداد أكثر فأكثر توحش الرأسمالية، والتي تخلق في اللحظة الأولى لوجودها القوى الاجتماعية المعادية لها، والتي تسعى باستمرار للإطاحة بها، الطبقة العاملة هي الوحيدة القادرة على ضرب الرأسمالية من داخل عملية الإنتاج ذاتها، وبالتالي تدميرها بشكل نهائي وإنجاز التحول للاشتراكية. ولكنها – أي الطبقة العاملة – ليست القوة الاجتماعية الوحيدة المعادية للرأسمالية، فتلك القطاعات من البرجوازية الصغيرة ومن البروليتاريا الرثة، تعادي الرأسمالية، ولكن عداء الطبقة العاملة للرأسمالية يهدد وجود الأخيرة، لأنه ينطلق من شروط اجتماعية وتاريخية موضوعية، شروط تسمح بتدمير نمط الإنتاج الرأسمالي، وخلق آخر أكثر تطورًا، أما تلك القطاعات، فستتحرك لضرب الرأسمالية من الخلف، من موقع مختلف عن موقع الطبقة العاملة، من خارج عملية الإنتاج لذا سيكون مشروعها طوباويًا بالضرورة، لأنه ينطلق من أرضية غير مادية وغير تاريخية، ولأن هذا المشروع، في ظل عداوة للرأسمالية، لا يملك أي شروط موضوعية تسمح له بإنتاج عالم جديد ما بعد رأسمالي، فسوف يكون مشروعه رجعيًا بالضرورة لأنه سيحاول استعادة عالم قديم ما قبل رأسمالي. عالم في إمكانه، بتقليده العائلية وقيمة المتخلفة، تخليص تلك الفئات من هامشيتهم الاجتماعية، ويحميهم من إذلال الرأسمالية لهم واضطهادها إياهم. ولأن هذا المشروع معاد للإنتاج الرأسمالي، فإنه سيكون معادي للبرجوازية، القوة المسيطرة على عملية الإنتاج، وصاحبة المصلحة في بقائها، وسيكون كذلك معادي لجماهير العمال، القوى الاجتماعية التي تدعم بقوة عملها استمرار عملية الإنتاج. إن المشروع السياسي الوحيد الذي يمكن لتلك القطاعات الاجتماعية أن تتبناه، لابد وأن يكون رجعيًا وطوباويًا، معاديًا للبرجوازية وللجماهير، لأنه ينطلق مستقلاً عن الآليات الفاعلة للصراع الطبقي وفي اتجاه معاكس له.

ونحن نعتقد أن الصعود الحاد للحركة الإسلامية المسلحة في مصر منذ مطلع الثمانينات، لهو حالة مثالية لهذا النوع من المشاريع السياسية، فالحركة المستقلة لتلك الحشود الكبيرة والكوادر القاتلة، المنتمية للبرجوازية الصغيرة التقليدية وللبروليتاريا الرثة، تعبر بوضوح عن رجعية تلك الفئات الاجتماعية، وأيضًا عن عدائها للمجتمع الرأسمالي نتيجة لموقعها الطبقي والإفقار المتزايد الذي تعاني منه بسبب توحش الرأسمالية. إن دمج تلك الفئات داخل الإنتاج الصناعي المتقدم يستحيل أن يتحقق في ظل سيطرة البرجوازية، لأن الدور السياسي والاقتصادي للإمبريالي يسبب للبرجوازية المصرية أزمة هيكلية مزمنة، ناتجة عن التطور المركب اللا متكافئ للاقتصاد المصري، وبالتالي عجز هذا الاقتصاد عن تحقيق تنمية رأسمالية، توفر الإمكانيات المطلوبة لإدماج تلك الفئات. الطريق الوحيد الذي يمكن من خلاله تحقيق هذا الإدماج هو السلطة الثورية للبروليتاريا، عبر مشروع الثورة الدائمة القادر على حشد تلك الفئات الاجتماعية خلف الطبقة العاملة، ولكن في حالة الضعف السياسي الراهنة للطبقة العاملة المصرية، وغياب الحركة العمالية، والمشروع البروليتاريا الثوري، تتحول الحركة المستقلة لتلك الفئات، لتنحرف بمشروع الثورة الدائمة، في اتجاه معادي له.

لقد ظهر مشروع الإسلام السياسي في مصر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، في الفترة التي أصبحت فيها مصر جزءًا من دائرة النفوذ الإمبريالي، وظهر كتأكيد للشخصية القومية في مواجهة الاستعمار، لكنه ظل مجرد موقف شخصي لعدد من القيادات الوطنية، ومنذ مطلع القرن العشرين انقسمت الحركة الوطنية على جناحين أساسين هيمن على كلا منهما قطاعات من البرجوازية المصرية الوليدة؛ الجناح الأول ينظر على قضية التحرر في إطار الاندماج بالحضارة الغربية الحديثة، بينما نظر الجناح الآخر إلى نفس القضية في إطار الانتماء إلى الأمة الإسلامية وحضارة الشرق، وبدأ الإسلام السياسي يتحول في ظل هذا الجناح إلى حركة سياسية، وكان الدستور هو المطلب الرئيسي للجناح الأول بينما كان الاستقلال هو المطلب الرئيسي للثاني، ومع اندلاع ثورة 1919 اندمج الجناحان في حركة سياسية واحدة، وأصبح الاستقلال والدستور مطلب واحد في مواجهة الاستعمار والملكية المستبدة.

ومع تراجع ثورة 1919 بدأ يظهر بوضوح ضعف البرجوازية المصرية وعدم قدرتها على مواجهة الاستعمار، وفي ظل النمو الصناعي للمدن، والذي بدأ منذ مطلق القرن العشرين، بدأت تتشكل قطاعات من البرجوازية الصغيرة الحديثة، وبدأ يبرز داخلها إنتلجنسيا جديدة من خارج البرجوازية، وبدأت تظهر حركات سياسية برجوازية صغيرة، متمردة على البرجوازية، تقودها تكل الإنتلجنسيا، وتتحرك بها، يمينًا أو يسارًا في مواجهة الاستعمار.

وفي عام 1928 تأسست جماعة الإخوان المسلمين، التي كانت أول تحول للمشروع الإسلامي إلى حركة سياسية، وظلت حتى منتصف الأربعينات مجرد حركة صغيرة تلعب أدوارًا متناقضة اتسمت بانتهازية شديدة، أساسًا بتنسيقها مع النظام الملكي في مواجهة حزب الوفد الذي كان يقود الحركة الوطنية في ذلك الوقت، وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية، صعدت الحركة الوطنية من جديد بشكل حاد، وفي ظل هذا الصعود تحولت جماعة الإخوان المسلمين إلى حركة جماهيرية بحشدها لقطاعات واسعة من البرجوازية الصغيرة داخل صفوفها، وكانت تمثل في ذلك الحين أقصى يمين الحركة الوطنية، المعادي للطبقة العاملة.

ومع انقلاب يوليو 1952 تم تأميم الصراع السياسي في مصر، وتم ضرب كافة الحركات السياسية بما فيها حركة الإخوان، وانتقلت جميع الكوادر السياسية من تختلف الاتجاهات إلى معتقلات الناصرية التي شهدت حالات من القمع الحاد والتصفية الدموية حتى نهاية الستينات.

ولا نعتقد أن الجذور التاريخية للحركة الإسلامية المسلحة القائمة اليوم تمتد إلى جماعة الإخوان المسلمين، لكنها تبدأ مع حلقات النقاش التي أسسها سيد قطب في منتصف الستينات في مواجهة النظام الناصري.

كان سيد قطب أحد كوادر الإخوان المعتقلين منذ الخمسينات، وأفرج عنه عام 1964، وبعد الإفراج عنه شرع في تأسيس حلقة نقاش سرية، كانت تطرح رؤية سياسية مغايرة لرؤية الإخوان في مواجهة النظام الناصري، وبعدها إنهم بالتآمر وأعدم في عام 1965 وتم تدمير تلك الحلقة، ولكن الرؤية التي طرحها، والتي بلورها كتاب “معالم على الطريق”، ظلت هي المنطلق الفكري – وجهة نظرنا – للجماعات الجهادية والتي بدأت في الظهور مع أوائل السبعينات.

تبلورت رؤية سيد قطب في فترة ازدهار المشروع الناصري المعادي للإمبريالية، وكرد فعل سلبي لاستبداد الدولة الناصرية، وانطلق أساسًا من تصور أن المجتمع الذي عيشه مجتمع جاهلي، وأن الدولة كافرة، وأن هذا المجتمع وهذا الدولة غير قادران على مواجهة الاستعمار أو تحرير فلسطين، وأن المهمة الرئيسية تبدأ بمواجهة هذا المجتمع، وتكل الدولة، من أجل بناء مجتمع إسلامي حقيقي يقوم على حكم الله وتطبيق الشرع، وانعكس عداءه للإمبريالية من جهة، وللدولة المستبدة من جهة أخرى، إلى عداء للحضارة الحديثة برمتها، ومحاولة إعادة صياغة الحياة على أسس غير واقعية، انطلاقًا من مجموعة من الأفكار المثالية.

اختلفت تلك الرؤية مع رؤية الإخوان المسلمين، والتي صاغوها فيما بعد ردًا على كتاب “معالم على الطريق”، وتنطلق من أنه لا يمكن اعتبار المجتمع جاهلي، بل مجتمع مسلم يحتاج لإصلاح، ولا يمكن اعتبار الحاكم كافر، يجب خلعه بالقوة. وبعد هزيمة 1967 وانهيار المشروع الناصري، دارت نقاشات واسعة داخل المعتقلات بين كوادر الإسلاميين حول رؤى سيد قطب، وتم طرح المسألة القومية بشكل عكسي، فتحرير الأرض لن يتم بدعم النظام في مواجهة إسرائيل، لكنه سيتم بالإطاحة بهذا النظام، وإقامة حكم إسلامي.

وفي مطلع السبعينات بدأت هذه الحركة تتبلور في وجهتي نظر أساسيتين؛ الأولى تبنتها جماعة شركي مصطفى، وكانت ترى ضرورة الرحيل عن هذا المجتمع الكافر والهجرة خارجة اقتداءًا بالمسلمين الأوائل الذين هاجروا من مكة للمدينة، حيث يتم بناء المجتمع الإسلامي الصحيح وتقويته، ثم العودة لتغيير المجتمع الكافر. وجهة النظر الثانية تبنتها جماعة سالم رحال، التي نفذت عملية “الفنية العسكرية” والتي لم تر أن المجتمع ككل كافر، ولكنها كفرت النظام الحاكم، رأت ضرورة الانقلاب عليه من داخله، حيث يتم الإطاحة به بشكل انقلابي. وقد تم إعادة إنتاج هاتين الفكرتين، بطريقة أو بأخرى، داخل تنظيمات الحركة الإسلامية المسلحة منذ ذلك الحين.

ومنذ أوائل السبعينات، بدأت بمجموعات إسلامية في الظهور بين طلاب الجامعات، تطرح مشروعًا معاديًا للإمبريالية والصهيونية، بشعارات دينية تنطلق أساسًا من ضرورة تغيير المجتمع الكافلاً وإقامة حكم إسلامي. وفي البداية نسقت تلك الجماعات مع نظام السادات الذي أستخدمها لضرب اليسار الراديكالي الصاعد وسط صفوف الحركة الطلابية في ذلك الوقت، وكان الدعم الذي قدمته الحكومة للجماعات الإسلامية سببًا رئيسيًا في نموها السريع وسط الطلبة. ومع نهاية السبعينات بدأت القطيعة بينها وبين النظام، أولاً بسبب الثورة الإيرانية، والتي طرحت مشروع الثورة الإسلامية كإمكانية موضوعية في وجهة نظرهم، ثانيًا بسبب توقيع اتفاقيات كامب ديفيد والتي أظهرت بوضوح ارتباط نظام السادات بالإمبريالية.

لقد انحصرت الحركة الإسلامية المسلحة طوال السبعينات في صفوف الإنتلجنسيا المنتمية للبرجوازية الصغيرة الحديثة التي نمت خلال فترة الحكم الناصري نتيجة التوسع في التعليم، ونتيجة للتوسع في التعليم، ونتيجة لعمليات التصنيع والتراكم في المدن، وكانت هذه القطاعات هي الأكثر ولاءً للمشروع القومي الناصري، والأكثر طموحًا للصعود من خلاله، وكان ظهور الحركة الإسلامية المسلحة داخل صفوفها هو رد فعلها على انهيار هذا المشروع، وكذلك ارتبط نمو الحركة بالتراجع الحاد لليسار وللحركة العمالية بعد عام 1977.

إن القاعدة العامة التي تحكم فهمنا لأي حركة سياسية تنطلق من تحديد الأساس الطبقي لتلك الحركة، وعلاقة الفئات الاجتماعية المنظمة داخلها بعميلة الإنتاج. هذا لا يعني أن المشروع السياسي لتلك الحركة لا يمكنه أن يبدأ في الظهور داخل فئات اجتماعية أخرى، مختلفة طبقيًا، ومرتبطة بشكل آخر بعملية الإنتاج. وطوال تاريخ الرأسمالية كانت توجد دائمًا فئات من الإنتلجنسيا البرجوازية الصغيرة، تتبنى مشاريع سياسية تعبر في جوهرها عن مصالح قطاعات اجتماعية أخرى، وكان من الممكن دائمًا أن تتحول تلك المشاريع على حركات سياسية واسعة إذا تمكنت فئات الإنتلجنسيا تلك من الارتباط عضويًا بتلك القطاعات. وعلى الرغم من أن المشروع السياسي للحركة الإسلامية المسلحة قد ظهر في صفوف فئات من الإنتلجنسيا البرجوازية الصغيرة الحديثة في مصر، إلا أنه عبر في جوهره عن مصالح قطاعات واسعة من البرجوازية، الصغيرة التقليدية ومن البروليتاريا الرثة، والتي استطاعت أن تحوله، في النهاية، على حركة منظمة لها ثقل حقيقي في الصراع السياسي القائم.

لقد ساعد استسلام نظام السادات للإمبريالية وانتهاجه لسياسة اقتصادية جديدة بدءًا من منتصف السبعينات، ساعد على تحقيق قدرًا من الرواج الاقتصادي الذي ساهم في إنعاش السوق المصري في أواخر ذلك العقد. ومع السياسة الجديدة بدأت الإمبريالية، تدريجيًا، في دمج الاقتصاد المصري داخل السوق الرأسمالي العالمي، ومنذ مطلع الثمانينات، بدأ الاقتصاد المصري يدخل في أزمة رأسمالية حادة، تسببت في إفقار متزايد لقطاعات واسعة من الجماهير، ونتيجة للتطور المركب اللا متكافئ للاقتصاد المصري، كانت الجماهير البرجوازية التقليدية (الحرفيين، صغار التجار، صغار الملاك في الريف) هي الأكثر تعرضًا لشراسة الأزمة، وبسبب تخلف الإنتاج الزراعي في مصر على المنافسة عالميًا، انهارت بحدة عملية الإنتاج في الريف، وتسبب ذلك في نزوح أعداد غفيرة من الفلاحين الفقراء إلى المدن، ليشكلوا قطاعًا واسعًا من الروليتاريا الرثة، تعيش على هامش عملية الإنتاج، وتملك نتيجة لطبيعتها الاجتماعية طاقة تمرد هائلة.

وفي ظل غياب حركة عمالية مستقلة وقوية، قادرة على حشد تلك الفئات (البرجوازية الصغيرة التقليدية والبروليتاريا الرثة) وراء مشروعها الثوري، أصبحت تلك الفئات تشكل الأرض الخصبة لاستقبال ونمو المشروع الرجعي للحركة الإسلامية المسلحة، حيث يصبح من وجهة نظرها الطريق الوحيد للتخلص من الإمبريالية والبرجوازية التابعة لها، وذلك عن طريق التخلص من النظام الاجتماعي للرأسمالية، واستعادة نظام اجتماعي آخر، قادم من ماض سحيق، وقادر على إنهاء كل شرور هذا العالم الرأسمالي.

وخلال الثمانينات تمت الحركة الإسلامية المسلحة بشكل حاد، واستطاعت أن تنتزع سلطة الدولة في قرى عديدة في جنوب مصر، أكثر المناطق هامشية، في عملية الإنتاج، وأيضًا داخل بعض المناطق العشوائية في المدن، التي تمتلئ بالحرفيين وصغار التجار والبروليتاريا الرثة.

ومع صعود الصراع المسلح مع الدولة، بدأت تظهر بوضوح رجعية مشروعها السياسي وعنصريته وعداؤه للديمقراطية، فمن القمع السافر للجماهير الفقيرة داخل مناطق النفوذ، ومنعها من ممارسة طقوسها المستقرة وفرض نظام للحياة غير مألوف لديها، إلى الاضطهاد الدموي للأقلية المسيحية المصر، وحرق وتقتيل أفرادها وهدم منازلهم. ومن قهر النساء فرض أشكال من العزلة الاجتماعية عليهن، إلى الاغتيال المنظم للأجانب ولكل المخالفين في الرأي.

إن موقف الحركة الإسلامية المسلحة الرجعي ضد العالم الرأسمالي يعكس نفسه بشكل متناقض في ممارساتها؛ في عدائها للبرجوازية والإمبريالية من جهة، وعدائها للجماهير من جهة أخرى، ويعكس نفسه كذلك في خطابها الأيديولوجي؛ في الطرح القومي الثوري من جهة، وفي الطرح السلفي العنصري من جهة أخرى، ولكن هذا التناقض هو تناقض من وجهة نظرنا كاشتراكيين ثوريين، وليس من وجهة نظرنا هي، لأنها في واقع الأمر، وكما أوضحنا، تعبر عن مشروع رجعي طوباري غير مادي وغير تاريخي.

وبقدر ما يرتبط التناقض الذاتي لهذه الحركة بواقعها الطبقي، يرتبط مشروعها الرجعي بجذورها التاريخية، وعندما نسعى لتحديد الطبيعة السياسية لهذه الحركة انطلاقا من رؤية تاريخية وطبقية، فإننا لا نفعل ذلك في محاولة للوصول لتسمية صحيحة لها، وإنما نفعل ذلك لضرورة الوصول إلى موقف صحيح تجاهها.

لذا فإن اعتبار الحركة الإسلامية المسلحة في مصر كحركة تحرر وطني هو خطأ بالغ، فحركات التحرر الوطني تظهر في فترات صعود البرجوازية، وعندما تكون هناك ضرورة لتوحيد السوق القومي والتحكم فيه وتحرير قوة العمل، وذلك كله في مواجهة نظام إقطاعي أو سيطرة استعمارية تعوق دون تحقيق هذا المشروع، وهي في العادة حركات برجوازية صغيرة تهيمن عليها قطاعات من البرجوازية الوطنية، أو حركات برجوازية صغيرة مستقلة تسعى لتحقيق تراكم رأسمالي وطني. وبصرف النظر عن استمرار قطاعات البرجوازية الوطنية في قيادة الحركة، وبصرف النظر عن الإمكانيات الموضوعية لتحقيقها لمثل هذه المشاريع، هي في النهاية حركة في مواجهة أعداء قوميين يحولون دون تحقيق التراكم الرأسمالي المستقل، وهي حركات تسعى إلى حشد جميع الفئات الاجتماعية، بما فيها الطبقة العاملة الوليدة، وراء مشروعها السياسي، والموقف السياسي الصحيح الواجب اتخاذه من قبل الاشتراكيين الثوريين تجاه تلك الحركات يقوم على التأييد النقدي غير المشروط، أي دعمها في مواجهة الاستعمار مع فضح دور البرجوازية، والسعي لتحويل الصراع من صراع قومي إلى صراخ طبقي.

والحركة الإسلامية المسلحة في مصر مختلفة جذريًا عن هذه الحالة، فلا توجد أي قطاعات من البرجوازية تواجه عداء قومي يمنعها من السيطرة على سوقها الرأسمالي، أو من تحقيق التراكم داخله، ولأنها حركة لا تسعي إلى حشد الجماهير وتنظيميها وراء مشروعها السياسي بإلغاء التناقضات الاجتماعية بين هذه الجماهير، لكنها تعادي الجماهير وتمارس اضطهاد واضح ضدها. كذلك فإن القطاعات الاجتماعية المنتمية لهذه الحركة لا تعبر عن مصالح أي قطاع من البرجوازية الوطنية، أو عن أي مشروع للتراكم الرأسمالي المستقل، هي حركة معادية للإمبريالية ولكنها ليست حركة في مواجهة الإمبريالية، وعدائها للإمبريالية ينطلق من عدائها للرأسمالية ذاتها، ولعملية الإنتاج الرأسمالي. ونتيجة لغياب اليسار الثوري عن الساحة، وهو الحركة السياسية الوحيدة، في إطار الظرف التاريخي الراهن الصراع الطبقي في مصر، التي تملك موقف طبقي وثوري حقيقي معادي للإمبريالية، ونتيجة لهذا الغياب، يظهر عداء الحركة الإسلامية المسلحة للإمبريالية وكأنه في مواجهتها، وهذا غير صحيح، لذا فإن الموقف الذي يتبناه قطاع من المثقفين الماركسيين بضرورة التنسيق مع هذه الحركة ودعمها في مواجهة النظام، هو تكتيك خاطئ تمامًا، لأنه سيؤدي بالضرورة إلى تذيل الحركة الإسلامية ودعم مشروعها الرجعي، والحيلولة دون ظهور حركة ثورية حقيقية في مواجهة البرجوازية والإمبريالية.

وكذلك فإن اعتبار الحركة الإسلامية المسلحة حركة فاشية لهو خطأ بالغ، فالحركات الفاشية تظهر في فترات الأزمات السياسية الحادة، عندما تصبح سلطة البرجوازية مهددة بالانهيار، حيث تتحرك الطبقة العاملة فيمد ثوري لتحتل المصانع وتبني مؤسساتها الطبقية المستقلة، وتعجز مؤسسات القمع عن تأمين الإنتاج الرأسمالي وحفظ النظام، وتكون هناك ازدواجية في السلطة. والحركات الفاشية يتم تأسيسها بواسطة البرجوازية، لشن الحرب الأهلية على الطبقة العاملة وقمعها وتصفية مؤسساتها، وهي تنشأ أساسًا في صفوف قطاعات من البرجوازية الصغيرة الحديثة، والتي تكون في حالة رعب من المد العمالي الثوري، وعلى استعداد لأن تخوض صراع دموي في الشوارع ضد الطبقة العاملة لحماية النظام الرأسمالي. وخلال المد العمالي الثوري في أوروبا في العشرينات والثلاثينات، استطاعته الفاشية أن تعصف بالحركات العمالية الثورية في إيطاليا وألمانيا وأسبانيا، وكان غياب أحزاب عمالية ثورية على غرار أحزاب عمالية ثورية على غرار الحرب البلشفي في تلك البلدان سببًا رئيسيًا في هزيمة الحركات العمالية، والموقف السياسي الصحيح الذي بجب على الاشتراكيين الثوريين اتخاذه تجاه الحركات الفاشية هو بناء الجبهة المتحدة في صفوف الفصائل العمالية المختلفة، وتسليح الطبقة العاملة وتنظيمها حتى تكون قادرة في مواجهة محاولات التصفية الدموية.

لذا فإن الحركة الإسلامية المسلحة في مصر ليست بأي حال من الأحوال حركة فاشية، لأنه لا وجود لمد عمالي ثوري، أو أي تهديد لسيطرة البرجوازية، لأن الفئات الاجتماعية المنتمية لهذه الحركة مستقلة عن البرجوازية وغير خاضعة لهيمنتها بل ومعادية لها، هذا العداء الذي يخلق الصراع الدموي بينها وبين الدولة، وهو ما لا يمكن أن يحدث بين حركة فاشية وبين الدولة البرجوازية.

إن الرأي القائل بكون الحركة الإسلامية المسلحة حركة فاشية، ينطلق من عداء هذه الحركة للديمقراطية، وقمعها للجماهير، واضطهادها للنساء والأقليات الدينية، ولكن كل هذه الظواهر للنساء والأقليات الدينية، ولكن كل هذه الظواهر جميعًا تعني أنها حركة رجعية، وجميع الحركات الرجعية التي ظهرت في تاريخ الرأسمالية، فاشية وغير فاشية، كانت تعادي الديمقراطية والجماهير، وتضطهد النساء والأقليات القومية. وعلى الرغم من هذا الطابع الرجعي للحركة الإسلامية المسلحة، إلا أنها حركة معادية للدولة البرجوازية، لكن عدائها للدولة لا يهدد سلطة الدولة بل على العكس، فهذا يساعد على تطوير وتعبئة آلية القمع الخاصة بالدولة، ويساعد كذلك على حشد كافة قطاعات البرجوازية حول الدولة لدعمها وتأكيد سلطتها.

لذا فإن الموقف الذي يطرحه حزب التجمع الداعي لدعم الدولة في مواجهة الحركة الإسلامية المسلحة هو مثال فج للانتهازية السياسية، حيث يسعى هذا “اليسار” إلى حشد الجماهير العمالية ضد خطر وهمي وعدو ثانوي، في ذات الوقت الذي يحولهم فيه عن مواجهة عدوهم الرئيسي الإمبريالية، والدولة البرجوازية التابعة لها، والتي تزداد معدلات استبدادها وآليات قمعها بشكل مطرد.

أيضًا فإن ما تطرحه بعض الفصائل اليسار الراديكالي حول استخدام تكتيك الجبهة المتحدة، أي السير على حدة والضرب في اتجاه واحد، استخدامه بشكل مرن بين طرفي الصراع، وحسب الظرف الذي يطرحه الصراع في لحظتها، أي استخدام هذا التكتيك مع الدولة ضد الحركة الإسلامية في المواقف التي تستدعي ذلك، واستخدامه بالعكس، مع الحركة الإسلامية المسلحة وضد الدولة في المواقف التي تستدعي الحالة العكسية، إن هذا الطرح يعين من وجهة نظرنا عدم فهمم واضح لمعنى تكتيك “الجبهة المتحدة”، فالجبهة المتحدة تكتيك للتنسيق بين الفصائل المعبرة عن المصالح الحركة العمالية بشكل أو بآخر، نقابية أو راديكالية أو ثورية أو حتى فوضوية، حيث يتم التنسيق في مواقع الصراع الطبقي ذاتها، وبهدف إظهار قوة ووحدة الحركة العمالية في مواجهة أعدائها الطبقيين، أما استخدامه بالشكل المقترح، في الحالتين المذكورين، فإنه بتحول ببساطة ليصبح تنسيق مع الأعداء الطبقيين للحركة العمالية.

إن الحركة الإسلامية المسلحة في مصر، في وجهة نظرنا، حركة برجوازية صغيرة رجعية، تطرح كشروع طوباوي معادي للبرجوازية والإمبريالية للجماهير في آن واحد، ولقد عرف تاريخ الرأسمالية منذ نشأتها هذا النوع من الحركات السياسية الذي يخلقه توحش الرأسمالية وشراستها في مواجهة القطاعات الاجتماعية من البرجوازية الصغيرة التقليدية، وكنتيجة للتطور المركب اللا متكافئ للرأسمالية.

وطوال القرن التاسع عشر، شهدت البلدان الرأسمالية الأولى حركات سياسية شبيهة، وقدم إنجلز في إحدى كتاباته نقدًا لمواقف اليسار الفرنسي حول إحدى هذه الحركات التي ظهرت في فرنسا في أواخر القرن – وكانت تدعي الحركة البولانجية، نسبة إلى زعيمها والذي كان شخصية كاريزمية – وكانت الحركة تعادي النظام الحاكم وتقدم أطروحات رجعية مستبدة كبديل للرأسمالية، وتدعو الجماهير إلى الالتفاف حولها من أجل مواجهة التفكك الأخلاقي والعودة للعائلة، وانقسم اليسار الفرنسي بخصوص هذه الحركة إلى ثلاث اتجاهات؛ الأول كان يدعو لدعم النظام في وجهها، والثاني يدعو لدعمها في مواجهة النظام، والثالث كان يتبنى موقف انسحابي مع إعلان عداؤه لها وللنظام في آن واحد. ورأى إنجلز أن الموقف الأول سيؤدي للانفصال عن الجماهير، لأن الجماهير تحتشد بالفعل في صفوف الحركة الرجعية، والثاني سيفقد اليسار استقلالية، أما الانسحاب فإنه يعزل اليسار عن حركة الجماهير.

وكان الموقف الصحيح من وجهة نظره هو طرح مشروع بروليتاري ثوري مستقل، معادي للنظام وللرجعية، ويسعى إلى تنظيم الجماهير في صفوفه.

إننا كاشتراكيين ثوريين نرى أن عدونا الرئيسي هو الإمبريالية والدولة البرجوازية المستبدة التابعة لها، لأنها بالفعل هي القوى المهيمنة في عملية الإنتاج الرأسمالي، والطرف الرئيسي في الصراع الطبقي ضد الطبقة العاملة، ونرى ضرورة فضح كافة أشكال الاستبداد والقمع التي تمارسها تلك الدولة ضد جميع الفئات الاجتماعية والقوى السياسية بما فيها الحركة الإسلامية المسلحة، ولا نرى أن هناك أي مساحة مشتركة للحركة يمكن أن تجمع بيننا وبين الدولة المستبدة في كافة الظروف.

ونحن أيضًا كاشتراكيين ثوريين تقف ضد الحركة الإسلامية المسلحة على طول الخط، ونرى ضرورة فضح الطابع الرجعي العنصري في خطابها الأيديولوجي وفي ممارساتها السياسية والتشهير به طوال الوقت، ونرى ضرورة الوقوف في مواجهة كل أشكال الاضطهاد التي تمارسها ضد النساء أو الأقليات الدينية أو أي قطاع آخر من الجماهير، وحتى في صراعها المسلح مع الدولة نرى ضرورة فضح الطابع الاستبدالي في العنف الفردي المسلح الذي تماريه، والذي يؤدي إلى تقوية الدولة وتغييب وعي الجماهير المعادي لها كنتيجة لاستبدال حركة الجماهير الثورية بالإرهاب الفردي، وهكذا فإننا لا نرى أن هناك مساحة مشتركة يمكن أن تجمع بيننا وبين الحركة الإسلامية في كافة الظروف.

إن الطريق الوحيد، من وجهة نظرنا، لكسب جماهير البرجوازية الصغيرة والبروليتاريا الرثة إلى صفوف مشروع اشتراكي ثوري، هو صعود حركة عمالية مستقلة وثورية، تظهر كقوة اجتماعية منظمة قادرة بشكل موضوعي على تغيير العالم، وتخليص كل الفئات المضطهدة من اضطهادها.

وعلينا نحن كاشتراكيين ثوريين، في هذه اللحظة، أن نطرح مشروع البروليتاريا الثوري في مواجهة المشروع الرجعي للحركة الإسلامية المسلحة، داخل كافة المواقع الجماهيرية التي تكسب منها تلك الحركة كوادرها، وعلينا أن نبين أن الطريق الوحيد لمواجهة الإمبريالية هو بناء حزب عمالي ثوري يناضل ضد الإرهاب الفردي، وضد الدولة المستبدة.