بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

الصعيد والثورة

الصعيد  هو أقدم أرض سكنها الإنسان فى مصر، تشهد بذلك الآثار الدالة على حضارة “نقادة” وحضارة “البدارى”، و هما حضارتان سبقتا حضارة “الفراعنة”، و”الثورة”-  بمعنى التغيير الجذرى للعلاقات السائدة- عرفها الصعيد منذ آلاف السنوات، وطوال عصور الحكم الرومانى والاسلامى، كانت تتفجر الثورات ويتم قمعها، ولكن هناك إنتفاضات وقعت فى عصر محمد على وأولاده، كانت من روافد الثورة العرابية، من أشهرها: انتفاضة “بدو” الفيوم والمنيا، وإنتفاضة “البدارى” بقيادة الشيخ أحمد الطيب، وكلتاهما وقعت فى عهد الخديو سعيد  والخديو إسماعيل، ويضاف إليها إنتفاضات “الفلاحين” الرافضين أسلوب جمع الضرائب الذى قرره إسماعيل لحل أزمة الديون.

ثم جائت الثورة العرابية؛ وشارك فيها أهل الصعيد بالمال والقتال ، والتاريخ يحفظ أسماء العائلات التى اضطهدت عقب دخول الإنجليز مصر، وفشل الثورة العرابية، وكان جيش عرابى قد ضم حوالى 15 ألف مقاتل من فرسان البدو المنتمين لمحافظات الصعيد والشرقية.

وفى ثورة 1919 كان الوفد المصرى الذى تشكل بزعامة سعد زغلول يضم أربعة من أعيان الصعيد هم: محمد محمود باشا وحمد الباسل وويصا واصف وفخرى عبد النور، وهؤلاء الأعيان ثمرة لإجراءات قام بها محمد على والخديوي سعيد و إسماعيل والتي تمثلت فى تمليك الأراضى الزراعية لعدد من شيوخ القبائل و الموظفين الذين التحقوا بديوان الحكم أو قدموا خدمات لهم، فتمت مكافأة عدد منهم فشكلوا ما يعرف بـ “الارستقراطية” الزراعية فى الصعيد. 

يضاف الى هذه الطبقة، طبقة أو شريحة أخرى تبقت من الحكم العثمانى و كانت تقوم بدور “الحكومة المحلية” و من رموزها: قبيلة “هوارة” التى وفدت إلى مصر فى زمن يسبق زمن المماليك، و قبيلة “الأشراف” وهم أبناء قريش، آل البيت النبوى، والأقباط الذين عملوا فى الدواوين الحكومية فى وظائف مسح الأراضى و إمساك الدفاتر والإحصاء، و هذا الدور يقوم به الأقباط منذ الفتح الإسلامى لمصر، وأدى هذا الدور إلى تركز الثروة لدى قطاعات واسعة من الأقباط فى أسيوط وقنا وسوهاج والمنيا. 

وعندما فكر الخديو إسماعيل فى تشكيل مجلس شورى القوانين، وهو مجلس نيابي شكلي لم يكن له دور تشريعى؛ إختار من هذه العائلات أفرادا، و منذ ذلك التاريخ لم تترك “السلطة” التشريعية والتنفيذية والجيش، و تحولت هذه “الأرستقراطية” الى نواة للبرجوازية المصرية بعدما أضافت إلى نشاطها التجارة وسكنت المدن وأرسلت أولادها للدراسة فى جامعات أوروبا . و لعل المهتمين بالسياسة يتذكرون أسماء هذه العائلات التى مازالت تمارس دورها على الساحة مثل: آل محفوظ “منفلوط”، آل حمادى “سوهاج “، آل الشريف “سوهاج”، آل الشريعى “المنيا”، آل لملوم “المنيا”، آل الباسل “الفيوم”، آل عبد النور “سوهاج”، آل سلطان (أسرة هدى شعراوى) في “المنيا”، آل رفاعة الطهطاوى (سوهاج)، آل دكرورى (المنيا)، آل حزين (قنا)، آل الدربى (قنا). 

و جاءت حكومات “الوفد” و”الأحرار الدستوريون”- الحزبان الكبيران فى زمن ثورة 1919 –  من بين أفراد هذه العائلات، وهى ذاتها التى تقاسمت فيما بينها مناصب الجيش والقضاء و الشرطة . ثم جاءت ثورة يوليو 1952، لـ “تهذب” الملكية الزراعية الواقعة تحت سيطرة هذه العائلات، وتضيف إليها قطاعا جديدا من الموظفين وضباط الجيش من أصول “فلاحية”، و لم تقض على نفوذ هذا الإقطاع، و ظلت خريطة “البرلمان” تعتمد على هذه العائلات بنسبة كبيرة حتى عصر مبارك ! لكن هناك عدة متغيرات طرأت على الخريطة الطبقية فى الصعيد منها: 
1- تشكل شريحة جديدة من الأغنياء بسبب طفرة النفط التى شهدتها دول الخليج وهجرة الفلاحين الصعايدة إلى عواصم النفط.
2- إتساع دائرة الطبقة الوسطى بفضل إصلاحات ثورة يوليو التى جعلت “التعليم المجانى” طريقا جديدا للصعود الطبقى والإلتحاق بأجهزة الدولة.
3- اتساع دائرة تجارة الآثار– وهى تجارة رائجة فى الصعيد– مما خلق شريحة جديدة من الأغنياء فى محافظات الصعيد جميعها، برعاية الأجهزة الأمنية فى عصر مبارك، بالإضافة إلى تجارة الأراضى و العقارات وهى تجارة ازدهرت فى عهد مبارك أيضا.
4- نشوء شريحة من الموظفين بفضل “بيروقراطية” الدولة الناصرية التى عمدت إلى استيعاب الخريجين من خلال خلق فرص عمل وهمية “البطالة المقنعة”، وهذه الشريحة استطاع قطاع منها الصعود الطبقى وإمتلاك الثروة، فى ظل توظيف المناصب الإدارية لعمل صفقات “مليونية” فى مجال تجارة و تهريب السلع، والسمسرة وبيع الأراضى المملوكة للدولة.
5- نشوء طبقة عاملة تقدر أعدادها بالآلاف بفضل مجموعة المصانع التى أنشأتها ثورة يوليو فى مجال صناعة السكر وحفظ المنتجات الزراعية والألمونيوم والغاز الطبيعى والرخام والحجر الجيرى “المحاجر”، وهى طبقة عاملة خرجت منها محاولات لتأسيس أحزاب شيوعية، لكنها فشلت بسبب حالة الجذر الثورى التى عاشتها مصر خلال الخمسين عاما الماضية، و لم تحقق هذه الطبقة العاملة الضعيفة تغييرا يذكر فى المجتمع الصعيدى، فظل محملا بالأفكار القديمة المتبقية من زمن الإقطاع، وجاءت مرحلة بيع القطاع العام وإلغاء “الطبقة العاملة”- فى عصر مبارك – لتلقى بظلالها على “العمال” فى مصانع الصعيد، و لكن هذه الطبقة لم تنته بشكل مطلق رغم ضعف تأثيرها . 

الصعيد عرف ثورة مسلحة، قام بها أبناء الفلاحين الفقراء والعاطلون وقمعها مبارك بوحشية، و هى الثورة التى عرفت بأسم “الحركة الإسلامية المسلحة”، فهى حركة ذات بعد طبقى تحت شعارات سلفية إسلامية، بسبب غياب الأفكار والمصطلحات الاشتراكية، وهذا الغياب موروث من زمن الحكم الناصرى الذى حل التنظيمات الشيوعية وأودع الشيوعيين السجون وسمح للخطاب الإسلامى بالإنتشار، ودعمه من خلال محاولة تقديم تفسير “اشتراكى ناصرى” للإسلام، و تأسيس إذاعة القرآن الكريم فى العام 1964 وإصدار قانون الأزهر، مما أدى إلى جهل تام بقاموس “الصراع الطبقى” وحرمان الفلاحين الفقراء و العمال من تأسيس الأحزاب المعبرة عن مصالحه، فلم يجد هؤلاء الشبان الإسلاميون إطارا أيدولوجيا يعبرون به عن رفضهم للتناقض الطبقى الفاحش غير الإطار الإسلامى المتمثل فى المرويات السلفية الخاصة بالعدل فى الإسلام ودولة “عمر بن الخطاب” و “عمر بن عبد العزيز ” والشريعة الإسلامية التى كفلت” السعادة للفقراء فى “الآخرة”.

لكن هذه الثورة، قمعها “مبارك” و أعاد بسببها تقديم نفسه راعيا لمصالح الرأسمالية باعتباره صمام أمان ضد “الإرهاب المسلح”، وقامت الولايات المتحدة بإعادة تأهيل أجهزة الأمن المباركية وتطوير تسليحها لتستطيع القيام بدور حامى الرأسمالية من “الإرهاب الإسلامى”. ولم يكن الصعيد منفصلا عن حالة الحراك أو “المد الثورى” الذى بدأت مظاهره فى السنوات العشر الأخيرة، و تفجرت ثورة “25 يناير”، وأجبر مبارك على التنحى، وكانت مساهمات ” الصعيد ” فى هذه الثورة موزعة على بقية محافظات “مصر” مثل “السويس” و”الأسكندرية” و “القاهرة” بحكم هجرات الصعايدة إلى هذه المحافظات، وكانت هناك مواجهات بين الأهالى و الداخلية – أثناء الثورة وبعد التنحي، حيث قام أهالى “ببا”–محافظة بنى سويف، بإحراق قسم الشرطة، وفى مدينة بنى سويف سقط عدد من الشهداء، وشملت المظاهرات الصعيد كله فى الأيام التى سبقت تنحى أو خلع مبارك عن السلطة، و منذ ذلك التاريخ لم يتوقف الصعيد عن الثورة ممثلة فى:
1- إعتصامات متزامنة مع إعتصام يوليو الماضى، فى عدة مدن منها أسيوط وسوهاج والأقصر.
2- إضراب عمال مصانع الصعيد كلها، احتجاجا على وجود قيادات فاسدة داخل هذه المصانع.
3- تشكيل اتحادات وائتلافات شبابية منتمية إلى الاتحادات و الإئتلافات المركزية.
4- اشتراك عناصر نسائية فى كافة أشكال الغضب والرفض الثورى، بل إن ميدان التحرير شهد وجود خيام اعتصام تمثل كافة محافظات الصعيد وضمت هذه الخيام الفتيات والشيوخ والشبان الذين جاءوا من بلادهم الفقيرة للإشتراك فى الاعتصام.
5- سقوط الشهيد “محمد محسن”– شهيد معركة العباسية – و هو من ابناء محافظة ” أسوان” مما يؤكد أن شباب الصعيد من أبناء الفلاحين والعمال وصغار الموظفين انتقلت إليهم “الثورة” باعتبارها الطريق الوحيد لتحقيق العدالة الاجتماعية.
6- تشكل مجموعات شبابية فى “نجع حمادى” بمحافظة قنا لمطاردة  فلول الحزب الوطنى واتخاذ إجراءات ومواقف ثورية لمنع وصولهم إلى البرلمان.
7- اعتصام أهالى مدينة سوهاج فى ميدان الثقافة وقيام الشرطة العسكرية بفض الاعتصام بالقوة، و هو فى الأساس اعتصام سائقى الميكروباصات احتجاجا على نقص البنزين. 
8- تواصل الإعتصامات وأشكال الاحتجاج الأخرى – حتى وقت كتابة هذه السطور فى مدن أسيوط والمنيا وأسوان وبنى سويف والفيوم والوادى الجديد ، وهذه نقلة نوعية فى درجة وعى أهالى الصعيد تعنى أن “الصعايدة” آمنوا بأن “العمل الجماعى” المنظم هو الطريق الوحيد لتحقيق الحرية و العدالة الجتماعية.
9- انخراط أعداد كبيرة من العمال والحرفيين الصعايدة فى الأحزاب اليسارية التى تمت الدعوة إليها بعد تفجر ثورة 25 يناير و هذه أيضا من آثار الثورة على تفكير سكان هذا الإقليم .

الخلاصة : الصعيد وصلت إليه “الثورة”، ولكن مازالت هناك أشواط كثيرة يجب قطعها حتى تتحقق درجة التكافؤ بين الفعل الثورى فى محافظات الصعيد ومحافظات الشمال. وإن كانت هناك رواسب ثقافية تتمثل فى الارتباط بالقبيلة والانحياز للفكر الصوفى و السلفى، وهذه آثار مريرة لنظام يوليو بكافة حلقاته الذى غيب الجماهير عن المشاركة و قمع كافة التحركات الجماهيرية مما جعل هذه الجماهير تلجأ إلى أشكال “قديمة” من أشكال التكافل والتكاتف، فالمعروف أنه إذا غاب “الحزب”  و”الدولة” و “المظاهرة” و”الندوة” والاجتماع، ازدهرت “القبيلة” و”الطريقة الصوفية” و”الحضرة” وأشكال التنظيم السابقة على الشكل الحديث للدولة .

وفى اعتقادى أن الثورة فى الصعيد تواصل تجذرها حتى تحقق أهدافها التى تتلخص فى الشعار المشهور” عيش .. حرية .. عدالة اجتماعية”. 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 
هوامش : • فى بداية عصر ” محمد على ” وقعت انتفاضة فلاحين فى منطقة ” دروا ” بأسوان و انضمت إليها قوات من الجيش ” 20 الف جندى ” كانوا فى طريقهم للسودان و أطلق الصعايدة على ” محمد على ” لقب ( ظالم باشا ).
• ثورة الشيخ أحمد الطيب ، كانت أيضا ثورة فلاحين لكن الشيخ ” الطيب ” أعطاها بعدا دينيا ، و قد انتهت بإصدار الخديو إسماعيل قرارا بوضع مئات الفلاحين على ” الخازوق ” و نفى البقية المتبقية إلى السودان ، و المنطقة التى شهدت هذه الثورة هى منطقة ” قاو ” التابعة للبدارى بأسيوط ، و” قاو”  ”  QAU ” شهدت حضارة معروفة قبل عصر الأسرات .
• انتفاضة الفلاحين فى طهطا و جهينة ” 1795 ” كانت جزءا من ثورة كبرى شهدتها مصر ، و قام علماء الأزهر فيها بدور القيادة .